بيت للذات
"وقت للذات"، بريشة تغريد البقشي
(سورة النحل، الآية 80)
وهي كلمة مشتقة من (السكينة)، وتشير في معناها إلى الهدوء والسلام الداخلي، هكذا يصف القرآن البيت. وفي خضمِّ أزمة جائحة كورونا التي دفعتنا جميعًا للعودة إلى منازلنا، يتم إحياء جوهر ما يعنيه المنزل بالنسبة للمرء، فكل من يمتلك بيتًا يعدُّ من المحظوظين.
على مدى أعوام كثيرة، كان البيت يعني أشياء كثيرة. ففي يوم من الأيام كان البيت – الكهف والكوخ - مكانًا أساسيًا للعيش والمأوى، ومكانًا للاحتراس من الغرباء والعالم الخارجي بكل مكوناته التي لا يمكن التنبؤ بها. ثم أصبح هذا المكان الملجأ والمكان لتجمع الأحباء، والملاذ الذي يوفر الراحة من مشاغل الحياة والمتطفلين.
نحلم بالمنزل، ونشتاق إليه ليكون بمثابة مرساة لوجودنا، ونحافظ عليه ونعتز به عندما نحصل عليه مزدانًا بلمسات شخصية، كتعبير خارجي عن الهوية وتأصيل الجذور. كما يعتبر المنزل بجميع أشكاله ومواقعه وأنماطه وأحجامه مفهومًا يسهُل إدراكه، ومصدرًا عالميًا للمشاعر العاطفية الإيجابية.
ويعتبر المنزل المكان الذي ربما كان حتى وقت قريب مكانًا ينام فيه المرء ويستحم ويأكل ويشاهد التلفاز فقط، وبالعودة إلى أحد تعريفاته الأصلية: أي هو المكان الآمن. وحاليًّا، مع العزلة الذاتية وبقاء معظم العالم في المنزل، أجبرتنا الجائحة - بشكل مفاجئ إلى حد ما - على التوقف مؤقتًا عن حياتنا المعتادة "المزدحمة جدًا". ومع استمرار الجائحة في تدمير أشكال الحياة على مدى مساحة انتشارها، كان لهذه العزلة الذاتية القسرية جوانب إيجابية مشرقة؛ لقد أوقدت مشاعل التأمل الذاتي، وأعادت التواصل مع الأحباء، وأفرجت عن وفرة من الإبداع. لقد أجبرتنا أيضًا على إلقاء نظرة فاحصة نحو الأشياء التي غفلنا عنها.
تقول علياء الهاشمي، معبرة عن المشاعر التي صرحت عنها الأمهات في جميع أنحاء المملكة
من منزلهم في مكة، تعيد علياء وعائلتها - مثل العديد من العائلات في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية - نسج حبال الوصل مع أقارب كانوا يحادثونهم فقط في مناسبات خاصة. تقول علياء: "صرنا نتحدث إلى والدينا كل يوم. وكذلك نتحدث إلى أجدادنا وأعمامنا وعماتنا وأولاد عمومتنا من الدرجة الثانية والثالثة، مع الجميع! كما صرنا نطمئن على جيراننا وجيرانهم". ثم تكمل الشابة حديثها: "بشكل عام، صرت أتصل الآن أكثر وأرسل رسائل أقل، إنه لأمر محزن أن تخيم علينا جائحة كهذه لتجعلنا ندرك ما أهملناه طويلًا".
العودة لتعلم الطبخ في المنزل، ولعب ألعاب الطاولة، وقراءة المزيد من الكتب، وقصّ الحكايات لبعضنا بعضًا، وتسجيل مقاطع فيديو منزلية طريفة، أو بالأحرى "الاستماع" لبعضنا بعضًا – كلها مجرد لمحات لما يحدث في منازل أولئك الذين عزلوا أنفسهم باكرًا، ولم يتسرعوا في الخروج إلى مركز التسوق أو التجمع أو المقهى. لقد عادت المنازل إلى دورها التقليدي المتمثل في كونها ملاذات عائلية مريحة ومتماسكة.
يتم إحضار الكثير من الكماليات المترفة المغلفة بدقة، كالشوكولاتة الفاخرة، أو المباخر التي غالبًا ما يتم الاحتفاظ بها للضيوف للاستمتاع بضوعها. ويتم التخلص من صناديق الأشياء التي لم تستخدم منذ سنوات، كما يستغل العديد من الأشخاص هذا الوقت أيضًا للتخلص من فوضى الأفكار والعواطف في شخصياتهم، وإعادة تنظيم قيمهم وأولوياتهم وطموحاتهم.
تمتلئ مراجعات على موقع تويتر للناشرين والوكلاء الأدبيين بتعليقات حول العدد الهائل من المخطوطات التي تلقوها خلال فترة الإغلاق. ليس من المستغرب أن يكون هناك أيضًا الكثير من الكتب المنشورة ذاتيًا عن كورونا تغمر موقع الأمازون.
بالتأكيد، الحجر الصحي في المنزل ينذر أيضًا بعودة بعض المشادات القديمة التي تعد جزءًا لا يتجزأ من الحياة الأسرية، ولكن كل ذلك جزء من سحر البقاء في المنزل! وعبر المنصات الاجتماعية المختلفة، يستخدم المبدعون السعوديون فنونهم للتعبير عن شعورهم في مواجهة التباعد الاجتماعي والعزلة والقلق.
نشرت غاليري أثر لوحة فنية دائرية لناصر السالم، وحين سئل عن تجربته، قال: "كل ما باستطاعتي فعله دائمًا في أوقات الارتباك أو افتقاد اليقين؛ أن أتطلع إلى القرآن للحصول على إجابات". هذه اللوحة مستوحاة من آيات من القران الكريم ، ويعكس هذا العمل الطبيعة الدورية للسعي الروحي، والتساؤلات حول التوازن الغامض للكون.
بإذن من ناصر السالم وجاليري أثر بجدة.
آلاء بلخي وعملها الفني المتعلق بمشاعر العزلة الذاتية. في فيلم فيديو من إنتاج (ثمانية) شركة إنتاج سعودية.
العديد من السعوديين المحتجزين في الحجر الصحي المؤقت بعد وصولهم إلى الوطن من الخارج، أو من الاتصال المباشر بشخص مصاب أو مشتبه بإصابته بفيروس كوفيد، ارتهنوا لمشاعرهم ومخاوفهم وما فاتهم بعد حجرهم
وقد أجمعوا على أنهم افتقدوا كثيرًا العودة إلى منازلهم وإلى أحبائهم. يقول أحمد السعيدي، المحجور في العزلة: "العودة إلى المنزل الآن حلم بالنسبة لي". هم يفتقدون كذلك إلى مجالسة الأحباء والتحدث إليهم وللعناق والسلام، لقد ذكرتهم هذه الجائحة بقيمة أحبائهم.
هذه الأزمة حملتنا على الاعتراف بذنبنا في اعتبار أمور كثيرة كأنها أحداث طبيعية. نادرًا ما أخذنا الوقت الكافي للجلوس في المنزل بالفعل، والتحدث مع الأفراد الآخرين الذين ينتمون للأسرة. وبينما ننتظر نهاية هذا الفصل المضطرب الذي لا يرحم من تاريخ البشرية، نعود للوطن، وندرك ما قصده الفيلسوف الروماني جايوس بلينيوس سيكوندوس (23/24 - 79 م) -المعروف باسم بليني الأكبر- عندما قال: “الوطن هو مهوى الفؤاد”.