يكتبه: سلطان السبهان – شاعر سعودي، صدرت له عدة دواوين، وفاز بجائزة أمير الشعراء للعام 2019
أذكر أنّني حين استمعت لهذا النص من صديقي الشاعر عبداللطيف بن يوسف، في أمسية جمعتنا في الشارقة 2017، وبينما كان الشاعر مسترسلًا أوقفته قائلًا: انتظر، لنا حقٌّ ولأبياتك حقّ أنّ نصفق لها، فامنحنا فرصة لذلك الآن، وصفق الحضور معي، ثم أكمل الشاعر.
الشعر حين يَتَدارَك: كنتُ ولا زلتُ مأخوذًا بقدرة الشعر على بناء جدليته الماكرة، وثنائياته المدهشة، فكأنّه الداءُ والدواءُ معًا، والطرب والوقار متشابكي الأيدي، والماء والنار، حين لا فرق إلا في الكينونة الأولى.
تأتي قصيدة "إرث قابيل" لشاعرنا، متوشحةً بُرْدَ زهير بن أبي سُلمى، وعلى عاتقها بِجادُه الذي تزيَّن به حين مضى حاملًا قصيدته ليُسهم في إطفاء حرب غاشمة دامت أربعين عامًا.
إنّها إذن قصيدة تريد أن "تتدارك" على حد وصف زهير للوسطاء الذين تداركوا عَبسًا وذُبيان بعدما..، قصيدةٌ منتصبة القامة، يملؤها الوقار والثبات والحكمة، ويسكنها الوعي الشديد، تعزف على وتر العقلانيّة، ولا تمرُّ بأودية الطرب إلا ببعض الآمال التي تَعْلَق بالنفس بعد انتهاء النص، وبدءِ نصٍ داخليّ جديد لكلّ قارئ مع نفسه، حيث يَنْبتُ شعورُ الطرب ويكبر، متخذًا شكلًا من أشكال استمرار الحياة بطُهرها وجمالها واحتفائها بالإنسانيّة:
ولئن دامت حربُ البسوس أربعين عامًا بين قبيلتين، إلا أنّنا هنا بصدد حرب جغرافيتُها العالمُ كلُّه، وتشتعل بين كلِّ أخ وأخيه، فكأنّ كلَّ واحدٍ منّا يحمل بين جنبيه قبيلةً مستعدةً للحرب، وتغنّي للجدب واليباس والقطيعة على الدوام، فكل قلب صار "حَرَّة" لا متسعَ فيها لموضع زهرة!
يعتمد الشاعر عبداللطيف في هذا النص على الصوت العالي في الخطاب، متكلمٌ لم يُفصِح عنه، لكنّه جَهورُ الصوت، متّزنُ الطرح، عالمٌ بعواقب الأمور، يعلو تارة بنبرته ويهدأ تارة، لكن الصدق لا يفارقه، فالحقيقة هي مقصده وغايته، يأخذ هذا المتكلم صفة الجمع غالبًا (إنّا/ ابتلينا/ كأنّنا) كلسان الضمير العالي، وإن كان أحيانًا يأخذ شكل المتكلم الفرد (أنا/ إنّي تعبت/يا بلادي) ليكون أكثر قربًا للمشهد، ممتزجًا وذائبًا في أمثاله من العاديين.
إن أولَ ما يصادف القارئَ في هذا النص وعيُه وثقته بنفسه، والحميميّة الساخنة في ثناياه، وصوتُه وإن كان عاتبًا غاضبًا أحيانًا، إلا أنّه لا ضجيج فيه ولا لُهاث، بل هو صوتٌ متدفق مثير للانتباه.
كما يذهب النصّ بالقارئ في رحلة تاريخيّة من خلال الرموز التي أتت في مكانها دون إقحام ولا تكلف، فمعاويةُ متكئ في صدر النص، يعيد النظر في فلسفة شَعْرَةِ العلاقات بين شدٍّ وجذب، وجَسّاسٌ يحاول الوقوف معتمدًا على رمحه بعد أن أيقن بأن المحصلة ليست سوى موتتين، إحداهما أكبر من أختها، الحرب أو الحسرة، الجب والذئب، ودم الحسين وابن أبيه، وقبل ذلك قابيل في عنوان النص.
وحين نبحث عن نقطة الارتكاز في هذا النصّ؛ سنكون غير قادرين على تجاوز عبارة "عودوا قليلًا" هذه العبارة الرائعة المختصرة المؤثرة، فنحن بحاجة لقليل من التفكر والعودة لأنفسنا ولتاريخنا ولجذر محبتنا كـ "بني عم" كما يعبّر الشاعر.
اختار شاعرنا البحر البسيط القادر على رصد الشعور المتلاطم فينا، فهو بفضل تفعيلاته غير المتماثلة يحملُ جدلية وتصارُعًا داخليًّا جميلًا، كما أن القافية الساكنة لها وقْعها المؤثر، خصوصًا بوجود الراء قبلها، الحرف الذي ينفلت من اللسان مُكرّرًا نفسه، وضاربًا على وتَرية مملوءة بالقلق.
وحين يجنح الشاعر للتحليق بعيدًا من خلال خلْقِ صورٍ بالغة الدقة، لطيفة المأخذ، عالية الشعريّة، يعود مباشرة للواقعيّة بعد أن تكتمل، دون أن يسترسل معها في ظلالٍ بعيدة نعرف أنّه قادرٌ على تتبعها، لكن المقام مقامُ حقائق وعقلٍ وإصلاح على مستوى مجتمعيّ رفيع، وهو أحوج لتوظيف الحِكَم البالغة، وإعادة صياغتها بتقنيات عصريّة مناسبة، مثل :
وقد وُفق الشاعر في سبيل أظنّه من الأهمية بمكان، أعني اختيار العبارات والجمل شديدة التأثير، قوية الوقع على النفس، جُمَل بكائيّة تلامس القلب فيبتسم لها، وهي ما يحتاجه المقام، وأعجبني جدًّا تراكيب من مثل:
(عودوا جميعًا فأن الحقد يسرقنا/عودوا فكم ضاعت الأيام/جراح الكون طافحة/فيا بني العم/كأنّا نجهل العشرة/العيش والملح/إن ابتلينا بهذي الأرض وهي هوىً/يا أيها الوطن العملاق أين أنا/أخي أحبك رغم الموت/فليس غيرك غيري).
وردة في حَرّة القلب: صدْقًا؛ ما أجملك يا عبداللطيف، وأنت هنا الشاعر المقتدر على رسم باب للأمل بين الضلع والضلع، باستنهاض نبلاء بني العم بنُطقٍ مُزهرٍ، وعفوٍ جميل، وباسترجاع ماضٍ مُلهِمٍ لوطن عملاق، يجمع الإنسانيّة التي حملت وشْمَ النقاء في غُرّتها، فالجمرة واحدة والألم موزع بيننا .
ما أجملك وأنت تُعيد للشعر وظيفة من أهم وظائفه الاجتماعيّة، رغم ما تحس به مما حَداكَ لِتصرُخَ بلساننا جميعاً: "وبين ضلعي وضلعي القلبُ لا صخرة"
ختامًا: لا أنسى أن أبارك لشاعرنا استحقاقه جائزة الأمير عبدالله الفيصل لهذا العام، عن تجربته الشعريّة الممتدة، أثرًا حسَنًا، وظِلًّا ظليلًا للمتعبين في سبيل الحياة، الباحثين عن جمال الحياة.