إنّه قلب المدینة النابض بالحیاة، ومن مظاهر الحیاة أنّه استطاع توطید العلاقة مع الفنون وإخراجها من المسارح ودور السینما و الأوبرا وقاعات الفنون الجمیلة، لیمنحها موطنًا جدیدًا على أرصفته، ویهدي الفنانین فضاء مفتوحًا و جمهورًا مشجعًا على الإبداع، ومصادر جدیدة للدخل.

آخر فنون الشارع ظهورًا وأكثرها ذیوعًا في شوارع المدن في أیامنا هذه، إّنه فنّ الكتابة على الجدران، فنّ العلاقة التي نشأت بین الحروف في رقصها وتماوجها وخطوطها الیدوّیة من جهة، والجدران المطّلة على الشوارع من جهة أخرى. لم یكن استخدام الجرافیتي في بادئ الأمر خالصًا لوجه الجمال، وإّنما لأهداف سیاسیّة واجتماعیّة، ورغم احتفاظه بتلك الروح الثائرة إلا أّنه غدا واحدًا من أركان الجمال في شوارع المدن وأماكنها العامة.
بات الرسامون في شوارع المدن الكبیرة جزءًا لا یتجزأ من المشهد، بعضهم من فناني البورتریه أو رسم الشخصیّات، یقترحون خدماتهم على العابرین من أجل تخلید اللحظة في بورتریه یحتاج دقائق لرسمه وعمرًا للاحتفاظ به، وبعضهم یغرق الرصیف باللوحات التي تتفاوت في الإبداع ومستوى الموهبة والجاهزّیة لأن تنتقل برغبة عابر من الشارع إلى جدار منزل أو مكتب أو محلّ تجاريّ أو خدميّ.
لا تخلو الشوارع الكبیرة والمزدحمة من الموسیقى بوصفها مظهرًا من مظاهر حیاة الشارع، هذا عازف ینفرد بزاویة من الشارع یحتضن آلته الموسیقیّة ویذیب روحه على أوتارها، وهذا فنان یدندن بالأغاني الشهیرة وتلك التي ابتدعها؛ وتلك فرقة موسیقیّة بكامل أفرادها وآلاتها الموسیقیّة تحیي حفاً صاخبًا أو هادئًا حسب طبیعة كلّ شارع. بطبیعة الحال لا یمكن أن نذكر الغناء في الشارع دون أن نتذكّر طیّبة الذكر إیدیت بیاف، التي تدین للشارع بعرفان، لأّنه أول من قدّمها للجمهور، وندین نحن له أیضًا بالشكر على أّنه قدّم للعالم هذا الصوت الساحر.

یجد السیرك والألعاب البهلوانیّة وألعاب الخفّة في الشارع فضاءً خصبًا لمخاطبة دهشة العابرین، فلیس غریبًا أن یمتلئ الشارع بفناني السیرك، و البهلوانین، والمهرجین ، ولاعبي الأراجیح، والمشاة على الحبال المشدودة والأعمدة الطویلة، و م حترفي ألعاب الخفة، والمخادعین بصرًّیا، وغیرهم من ذوي المهارات الأدائیّة الغرائبیّة؛ ومن خلفهم الطبول والموسیقى الإیقاعیّة لیجذبوا انتباه الجمیع بحركاتهم وفنونهم ومهاراتهم المدهشة.
ربما لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا مسرح الشارع فنًّا مستقلً بذاته، یندرج تحت لافتة أبي الفنون المسرح، ولكّنه ینفرد بخصوصیات وقواعد تجعل منه فنًّا مكتمل الأركان تمامًا، كمسرح العرائس، وخیال الظل؛ وللفنون الأدائیّة والاستعراضیّة عمومًا حضور قوي في الشارع. وقد قدم الشارع نجومًا عالمیّین عبروه في بدایة المشوار الفنيّ، من بینهم الممثل الإیرلنديّ الشهیر بیرس بروسنان الذي یجسد شخصیّة جیمس بوند، والذي بدأ حیاته رسامًا في الطرقات؛ والكومیدي الأشهر ستیف مارتن بدأ هو الآخر فنان شارع عازفًا لآلة البانجو، قبل أن تأخذه دروب النجومیّة ویلمع اسمه في سماء الكومیدیا من خلال دیزني.