(عازف العود) أغنية الحبّ في مشهد درامي
لوحة عازف العود - الفّنان: كرافاجيو
الفنّان: كرافاجيو "Caravaggio" إيطالي، عاش ما بين 1571 وعام 1610.
الوسائط: زيت على القماش.
الوصف: عنصر آدمي يافع، يرتدي قميصًا أبيضَ. في حالة غناء، يعزف على آلة العود التي يحتضنها جالسًا إلى طاولة. على يمينه، عناصر تكوينيّة لما كان يُعرف سابقًا باسم "طبيعة ميّتة" – الآن تُسمى "ما زال حيّا" أوstill life - تشمل قارورة فيها ماء وباقة زهور، إلى جانبها مجموعة من الفواكه، وعلى يساره "كمنجة" مع ذراعها. أمامه نوتات موسيقيّة. جميع التكوينات في غرفة مظلمة، يتسرب فيها الضوء من نافذة عالية، تنعكس صورتها في الماء داخل قارورة الورود، وهذه إحدى معجزات العمل. المكان المحيط، والخلفية، تهجع صامتة غامضة في سكون الظلال السوداء الدّاكنة. أمّا العناصر التشكيليّة، فتستحم بوفرة من الضوء الساطع. المشهد برمته بين نقيضين متضادين، في جو من التّباين الحاد العنيف.
كان عصر النهضة في إيطاليا يأفل رويدًا رويدًا برحيل عمالقته واحدًا تلو الآخر. ليوناردو دافنشي عام 1519، تبعه رافائيل 1520عام، ثمّ أندريه ديل سارتو 1530 . أمّا مايكل أنجلو، فاستمر بتعميق أسلوبه الخاص، حتى رحيله عام 1564. تيتيان اتّبع أسلوبه الخاص أيضًا حتى عام 1576. شهدت العقود الأربعة الأولى من القرن السادس عشر، أزمة فنيّة حقيقيّة. إذ بلغ عمالقة عصر النهضة حد الكمال في بناء تكويناتهم من حيث التّشريح والنّسب والملامح. لم يجد الفنانون الشباب ما يضيفونه بعدهم، فكثر التقليد والاستنساخ والتّناص والتّلاص، حتى أن مجموعة منهم اقتحموا منزل مايكل أنجلو وسرقوا مخطوطاته. تواكب مع هذه الأزمة، ظهور حركة الاحتجاج البروتستانتيّة على الكنيسة البابويّة، فانقسمت إلى كاثوليكيّة وبروتستانتيّة، على يد مارتن لوثر ابتداء من 1517
كانت أهم سمات العمل الفنيّ في عصر النهضة، التي تهمنا في هذا المقال، اختيار توقيت المشهد الفنيّ على أن يكون في اللحظة ما قبل الفعل أو الحدث. كونها لحظة بعيدة عن الانفعالات، أكثر اتزانًا ووقارًا، فأكثر رسميّة. الموناليزا مثلًا، رسمت في مثل هذه اللحظة، قبل انفراج الشفتين عن قول أو ابتسام أو بكاء. منحوتة مايكل أنجلو "ديفيد"، نفّذت في مثل هذه اللحظة، يقف ديفيد حاملًا بيده حجرًا كي يضرب به جالوت، قبل تهيؤ الجسم في وضعيّة الرّامي. السمّة الثانية التي تعنينا هنا، اعتماد عصر النهضة الرسميّة في عرض العناصر، وكبح جماح هوى الفنان أثناء التنفيذ، بحيث لا يتدخّل بعواطفه ومشاعره ورؤيته الشخصيّة، سميّت حينها "بضبط النفس".
في خضم إرث عصر النهضة وقوانينه، وانسداد الأفق أمام الفنانين، ظهر تيار معادٍ للكلاسيكيّة، متمرد على الرسميّة، مبيح مشاركة الفنان في صياغة مشاعره ورؤياه، واختيار مواضيعه من الواقع المباشر أمامه، فتبلور أسلوب جديد سمي "مانريسم" Mannerism، أو الأسلوبيّة أو التأنقيّة. لعل أحد أشهر الأعمال "مادونا ذات الرقبة الطويلة" للفنان بارميجيانينو، التي أصبحت بعد مئات السنين، الأسلوب المميّز للفنان الإيطاليّ موديلياني.
في نفس الحقبة، بدأت الكنيسة المهتزّة جرّاء الانقسام البروتستانتيّ، تتلمّس حاجتها للتركيز على السلطة والقوة وإظهارهما. والسعي لاستعراض الفخامة من خلال تقديم التراكيب الفنيّة المعقّدة غير المسبوقة، مقابل البساطة التي ينادي بها البروتستانت. والبحث عن الانفعال الشديد، والدّهشة الصادمة. هكذا بدأت تظهر ملامح أسلوب جديد في الفن والأدب والعمارة، يحمل هذه السّمات، ما سميّ بالباروك Baroque ، الذي غيّر توقيت المشهد الفنيّ ليصبح أثناء الفعل، في لحظة دراما قصوى drama peak. بحلول نهاية القرن السادس عشر، كان الباروك قد حلّ تمامًا محلّ المانريسم. وكان الفنان كرافاجيو قد ولد، ثم ترعرع وبدأ نشاطه الفني في العقدين الأخيرين من القرن السادس عشر، في هذا الإطار التاريخي.
يقوم أسلوب كرافاجيو على أربعة أسس:
1- الضبط التشريحيّ والفيزونومي (الملامح) والنّسب، ما ورثه من عصر النّهضة
2- إمكانية اختيار المواضيع من الواقع اليوميّ المباشر، ومشاركة الفنّان العاطفيّة والشعوريّة في صياغة عمله، ما ورثه من المانريسم.
3- توقيت المشهد الفني أثناء الفعل، في لحظة دراما قصوى، ما أخذه من الباروك
4- ما أبدعه وابتكره الفنّان نفسه: التّباين الشديد القاسي والعنيف، بين الخلفيّة والظلال الداكنة القاتمة، والضوء الساطع المنهمر من مكان خفيّ، أحيانًا من أعلى المشهد، أو من أكثر من مكان. أطلق على هذه التقنية، تينبريسم Tenebrism
رقّة ملامح المُغني وانخراطها في الأداء الغنائيّ من خلال حركة الشّفاه ونظرة العيون، وانسجامها مع حركة الأصابع على أوتار العود، ودقّة تصوير النوتة الموسيقيّة، تجعل النّاظر شغوفًا لسماع اللّحن والكلمات. تمكّن الموسيقيّون من قراءة النوتة، فتبيّن أنّها أغنية من ذاك الزمان بعنوان "أنتِ تعرفينَ أنّي أحبُّكِ". إذن هي canzone d'amore = أغنية حب. تأخذك الملامح الأنثويّة الرقيقة، فتحسب أن المغني أنثى، لكن، إن أبقيت عينيك فوق العمل، تتزحلق بين أرجائه، ستشعر بغصة ممزوجة بالدّهشة، حين تفرّ منك الأنثى، ابتداء من أسفل الذقن. تكتمل الصدمة عندما لا تجد صدرها. من الذي يغني للحبّ إذن؟ صبي ذكرٌ أم أنثى؟ لكنّك حين تلاحق انسياب الأنامل فوق الأوتار، تعود لتشعر بنعومة أنثويّة تنساب من جديد. ويبقى السؤال، من يّغنّي للحب؟
كما في كثير من الثقافات في أزمنة مختلفة، صودرت المرأة بوصفها كيانًا كامل الوجود، وسلبها الرّجل كلّ شيء، حتى ما منحته إياها الطبيعة، إلى أدق تفاصيل خصوصيتها. في تلك الأزمنة، حَرّمت أوروبا غناء المرأة، ومنعتها من الانخراط في الكورال الكنسي، والظهور على خشبة المسرح، والغناء الأوبرالي. عند الحاجة، يؤدي ممثلون ذكور دور المرأة. كما في مسرحيات شكسبير. أمّا في الغناء، كيف للرجل أن يقدّم أنوثة الصوت، الصوت النّدِيْ (soprano) ؟
عند الأطفال قبل سنّ البلوغ، تتشابه الأصوات بين الجنسين. بعد البلوغ، يرقّ صوت الأنثى، ويصبح ذات طبيعة ندويّة، أما الذكر، فيغلظ صوته محتويًا على عناصر الصدح (tenor)، ومن أجل الحصول على الصوت الأنثوي الندوي (soprano) تحت قانون تحريم غناء المرأة؛ لجأ الأوروبيّون لخصي الأطفال الذكور قبل سن البلوغ، كي يحافظوا على المجموعة الصوتيّة الأنثويّة. سمي صوت الصبي المخصي بِـ "كاستراتو" = castrato مقابل soprano سوبرانو، الصوت الأنثوي النّدِيْ. تمّ اشتقاق التسمية من castration ، أي الخَصْي.
صبي لم تغزُ هورمونات الذكورة شرايينه، لتخبره أن هناك شيئًا اسمه أنثى في الكون، ولم تُدرّب قلبه على الخفقان لها حين يغمره شعورٌ يقولون عنه إنّه الحب. المفارقة الثانية التي ألقى بها كرافاجيو علينا، بعد مفارقة التّباين في حضوره العنيف. هل يمكن الغناء لشيء لا ندركه؟ هل يمكن أن نُزيّف نديّ الصوت عند الأنثى؟ إلى أي حد يمكننا الاحتيال على أنفسنا، فنحيا في الزيف؟ أسئلة كبرى وجدانيّة ووجوديّة، طرحها العمل. ربّما لم يقصدها الفنّان، لكنّه كان فنانًا حقيقيًّا في تصوير الواقع، والخوض فيه بشفافية قائمة على الحدس المعرفيّ، توصله دون أن يدري أحيانًا، لوجه آخر للحقيقة، غير الوجه العلميّ العقليّ المحفوف والمحفوظ في برودة المنطق.
حين تعود لتأمّل العمل، ستكتشف أن الآلة الموسيقيّة قد تشقّق جسمها، وأن بعض حبات الفواكه قد بدأت بالتّلف، وتسرّب لها العفن. أشار الفنان بمهارة أسطورية للنّهاية، أو للموت، بينما الدراما في قمتها. كأنّه يقول: في النهاية، كل شيء بائد! تفصيل طفيف، ألقى على النّاظر حملًا ثقيلًا وقت احتدام الدراما، فبدت إشارة للعبثيّة، عبثيّة لا تخلو منها الحياة حتى في قمّة تألقها. كأنه دوستويفسكي في رواياته القاتلة. موضوع آخر وجوديّ ووجدانيّ، طرحه الإنسان بجديّة وتفصيل، بعد تشكّل الفلسفة الوجوديّة في منتصف القرن التاسع عشر، من سورين كير كغور، إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية، البير كامو وجان بول سارتر وسيمون دي بُفوار إلى كولن ولسون وغيرهم .
للفنان كرافاجيو عمل آخر، استخدم فيه نفس العنصر الآدمي، بكل تفاصيله التشريحيّة والفيزونوميّة. هنا، في إحدى النسخ سُميّ أبولو. وفي ذاك العمل، سميّ "باخوس". أبولو إله إغريقي ذات رجولة وجمال خالدين، وهو إله الرّسم والشّعر والموسيقى وأشياء أخرى كثيرة. أمّا باخوس، فهو إله المُتعة واللّذة والخمر، ورثته روما عن الإغريق، وأسمته في بعض أرجائها ديونيسيوس. يقع الإنسان على مدى عمره تحت وطأة غرائزه وملذاته، فتقيّده، وتحدّ من حريته، فيقوم باخوس بتحريره من هذه القيود. أمّا أبولو، فهو يتنفّس مع الإنسان في فنونه شعرًا وغناء. في أحد الأعمال، وضع الفنّان هذا الصبيّ المخصي مكان باخوس، مع نبيذه، وأوراق العنب وعناقيدها، وصحن من الفواكه التي تسرّب لها العطب والتلف. وفي هذا العمل، وضع نفس الصبيّ باسم أبولو، يعزف ويغني، إلى جانبه صحن الفواكه الذي تسرّب له ذات التلف والعطب. كيف أصبح باخوس هو نفسه أبولو؟ وكيف جمع الغناء والموسيقى والشعر مع اللذة والشهوة والنّبيذ؟ مفارقة أخرى يلقي بها الفنان. هل في مملكة أبولو من الشعر والرسم والموسيقى ما يشبه ما في مملكة باخوس؟.
صمت الإنسان أمام هذه التساؤلات الكبرى مرّة أخرى، إلى أن جاء الفيلسوف الألماني نيتشه، ونشر كتابه "مولد التراجيديا" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بحث في التراجيديا الإغريقيّة، فبيّن لنا أن الأعمال الإبداعيّة لا تخلو من العناصر الأبوليانيّة (نسبة لأبولو) والعناصر الديونيسيانيّة، نسبة لديونيسيوس. بالتقاء العناصر من هنا ومن هناك، تلد التراجيديا، ونكتفي بهذا التبسيط عن فلسفة نيتشه، إذ لا مجال للتوسّع هنا.