يكتبها: د. أحمد الأحمري - طبيب
في البدء كان "مساعد" الرشيدي، حينما انبعثت كلماته من أحد استديوهات التسجيلات الغنائيّة، وأنا "في وسط صراعاتي الداخليّة أنتظر أن يقول كلمته، نغمةٌ تعقب نغمة، وترٌ يعقّب على وتر، موسيقى، صوت يغنّي، وياء نداء كنت أترقبها: "يا صدى من غير صوت ما به حياة من غير موت". ومن بعد هذا البيت أخذت الموسيقى مجراها واختفت لدقيقة كلمات مساعد.
كنت أجيبه قبل أن أعرفه، في تلك اللحظة كنت أدافع عن نفسي، أحاول التعامل مع مشاعري قليلة الشأن، التي لا يسمع عنها العالم أبدًا، أنصت بقلقي وحزني البسيط لكلماتك التي تخاطب خوفي الكثيف، الإحساس يومض في القلب مرتجفًا، يومض قليلًا ثم يختفي. أنظر إلى الرصيف وأقول: أريد أن أنقش ما أشعر به هنا على حجر، بجوار هذا الطريق، وتحت هذه الشجرة، وأقول: إنّني لستُ جثة.
كنت أخاطب مساعد دون معرفة سابقة بيننا. كنت أهذي، لكنه هذيان قصير لم يستغرق إلا لحظات، يجيبني مساعد مرةً أخرى، تأتي كلماته دون استئذان، لاذعة بصوت محمد عبده: "لو تدرين وش أنا منه خايف، إن باقي لك من الذكرى حسايف". فأعود للذكريات حينما كان محمد يكرر هذا الخوف "أخاف شوق الألم، أخاف ذكر القلم، أخاف يحكي السطر والورق، أخاف يشكي الشقا والأرق" ويعود لياء النداء مجددًا: "يا صدى من غير صوت ما به حياة من غير موت".
فيما بعد تعرفت على مساعد الرشيدي الذي ابتعد عن رخاوة الشعراء والكُتّاب وشكواهم الدائمة، مع أنه برأيي أفضل من يعبر عن عذاباتي، وأكثر من يعلمني الصبر. إن بعض الثناء يبخس الفضل أحيانًا، وهذا ما أخشى ارتكابه الآن.
مساعد يشبه الألفة في حياتي، كان يُعيدني إلى الطريق كلما شعرت أنّني لم أعد أعرف جغرافيّة مدينتي وبلادي وقلبي، كان يستعيدني بشكل أو بآخر. كانت قصائده دائمًا ما تشيع فيّ بهجة تتنافى مع كل الأخبار والأحوال التي أعيشها.
"قمت أخيلك هنا وهناك وهناك،
وين ترحل بي النظرة نصيتك
عين تشربك شوف وعين تضماك
لا ذبحني ضماك ولا رويتك"
إنها تجاربنا، ترددنا، الجحيم الذي نعجز عن الاستغاثة من نيرانه، كان مساعد يعرضه بصوت عبد المجيد هنا:
"صوتك اللي بقى لي من ليالينا
عاد لو غاب صوتك ويش يبقى لي..
صوتك الموج والمجداف والمينا
صوتك الناس لو إني بخلا خالي"
يكتب مساعد وهو يعرف أنه يستطيع تحريرنا من شظايا هذا الحب، يجعلنا نأوي لفكرة الأُنس فيه "صوتك الناس لو إني بخلا خالي" شعور عميق للغاية، وقديم للغاية، كأنما كان يمنحني الفرصة لكي أرى انعكاسًا لأشباح مخاوفي في تلك الحياة المفترض أن تكون محطمة عبر الوحدة.
"مالها حدّ شرهتنا وأمانينا
والمسافات قشرا ما لها والي
يقبل الليل لا مرفا ولا مينا
عاد لو غاب صوتك ويش يبقالي"
شعور الأسف حيال فكرة أنه لم يتبق من حياة طويلة ومشتركة سوى هذه الحصيلة من الوحشة، والجرح، والحسرة.
أعرف كلمات مساعد من بين كلّ الكلمات، وأتذكّر صوت فتى رحيمة في أوّل مرّة استمعت له مصادفة، عرفت كلمة مساعد، عرفتها وقلت: لا بد لبيت كهذا أن يكون له
"عبرتك منديلها قلبي وكُمّي
ضحكتك نبض العروق ودمها"
كنت أراهن بشجاعة كبيرة كلما أتى صوت رحيمة وأقول إنّه مساعد:
"جيت لك من جمر الشوق متحمّي،
كل ما تبرد طعوني ضمها"
"مدّي يدينٍ عاهدتها يديّا
ياللي سماك ملبدة برق وغيوم
لا تشتكين اللوم وأنا هنيَّا
أنا هنيّا لأجل ما يلحقك لوم!
ياللي جبينك من غلاه الثريا
ما عاشرت شمسٍ ولا خاوت نجوم
إن كان ما جتني عليك الحميّا
ما عاد لي في باقي العمر ملزوم
ما فزّ قلبي للنواعس كذيّا
إلا يبي يصبح عوضها عن النوم
نامي وخلي كل همٍ عليّا
مالله خلق هالجفن لسهاد وهموم
لا تندهيلي واصلٍ لك بليّا
لو نكسر قلوبٍ ولو نزعل خشوم
قام يتعَزْوا في حديّا حديّا
يوم انحدر دمعٍ عن الذل محشوم
راسي خلق بالطايلات يْتفَيَّا
وخدّك تفيّا بالهَدب جعله القوم
كان الذي في خاطرك ما تهيّا؟
ماني ولد عودٍ كفَخ وابعد الحوم
كل كلمة في هذه القصيدة مصبوغة بذلك الشعور الذي يشبه الغرق الوشيك، إنّها الجسارة في مواجهة حبيبة كانت عيناها تتوسل من أجل إنقاذٍ مستحيل.
ثم يعبر بنا مساعد لنكتشف الكنة سويًّا، واسمها مأخوذ من الشيء المكنون المخفي المتصف بالمفاجأة، ما بين حر ومطر وغبار، حينما تختفي الثريا عن الأنظار، كل من يعرف هذه القصيدة يفهم مدى روعتها، ويعرف أنها من تلك القصائد التي لا تخرج منك بقية حياتك، هي ذاتها التي تحمل الصورة الشعرية الرائعة:
و "سيف العشق" كان فيها ذلك المزيج من التهكم والأمل الذي يميز حياة مساعد كما صورها شعره:
" إن ما ظميتك غلا يا علّني ما ارتويك"
و " أعنّ لك لو تصب الموت واتهيا لك".
تعود مشاعر مساعد بقوتها في الجود والعطاء، كانت كلماته والنبرة التي يستخدمها جديرة برجل اعتاد السير في طريق الألم بشجاعة كبيرة، كان يبدو متأهبًا دائمًا مثل فارس قلق مترقب وهائج، لكنّه يعرف أن الانتصار حليفه دائمًا.
وهنا يصمت مساعد، الصمت حيث تموت كل الأصوات:
"ضمّ الندى عودك ذوت روحي بعدك"
إنه شطر أشبه بانفجار مرعب، مثير للضيق والحزن، تشعر بهدوء الجرح وصمته، جرح بعيد ومسجون.
تليها كلمة: "من جودك تلدّ لمفتقدك"، وهي طريقة الرجاء عند مساعد، طريقته في العشم والأمل:
"وين أنت؟
دورك مفجوع الضلوع ولا وجدك"
هذا الشطر والسؤال فيه لا ينتظر إجابة ولا يبحث عنها، كان استنتاجًا لشخص مكسور الخاطر، مقتنع بأن الأمور لن تنتهي مطلقًا كما تجرأ وحلم، ومع هذا يُصرّ رغم يقينه الجارح ليقول:
"ولا جاز عنك ولا استخار ولا سلا"
يعطيك اليقين مرةً أخرى في أنّ روحه بها مكان فسيح يسع الألم، لكنّه لا يسع الخداع.
ويطلّ هنا الوجه الحجازيّ الجميل لمساعد - وكل وجوه مساعد جميلة - في الأهلي:
"إن فاز الأهلي تنام الأرض مبسوطة
العشب سرّ ابتسامتها وفرحتها"
يعرف مساعد حزن الأهلي أكثر مما يعرف فرحه، ولطالما كان يحتمل هزائمه مثلما كان يحتمل مصيره بشجاعة، إنهما متشابهان، وكلّ منهما يستمد معنى حياته من حياة الآخر، ولمّا كان الحبّ شيئًا شعريًّا عظيمًا ينبغي ألا يجفل بكل حالاته، اختار مساعد هذا المشهد تحديدًا وفكّر بطريقة رقيقة حتى أدنى تفاصيلها، بأن يخلّد الأهلي علامةً مُبشرة ذات امتياز في حياتنا، إن الأهلي قد يفوز وقد لا يفوز، قد ينهزم مرّة بنتيجة كبيرة، وقد يفرط بالبطولة في آخر دقيقة، لكن مساعد جعلنا نرى هذا السقوط المتكرر بعينيه الجميلة والمحاطة بالودّ والعاطفة، جعلنا نفكر بالأهلي على طريقته كأنه المطر، ولطالما كان المطر الشاهد الوحيد على البهجة.
هذا هو مساعد أو بعض منه في حياتي، كنت أخشى كثيرًا وأنا أكتب عنه أن تتبخر بقايا الجسارة التي أمتلكها عندما أمسك القلم وأشرع في الكتابة عمن أحبّ، يتبادر سؤال إلى ذهني: كيف كان مساعد صديقًا للجميع؟ وكان يكتبنا ببساطته دون جهد اختراع أي شيء؟.
الكتابة الآن تمنحني الفرصة مجددًا لأستعيد مساعد كما عرفته، وأنا أكتب فوجئت بمشاعر عديدة، بهجة يشوبها شيء من الحزن، بهجة تكرار تجربة الحياة الطويلة في قصائد مساعد، وحزن مواجهة الحقيقة التي تقول إنّنا فقدنا مساعد للأبد، وإنني أكتب الآن عن ذاكرة ماضية وعن إرث باق.
مساعد هو الدهشة المستمرة والتي كان لها عذوبتها في كلّ مرّة أواجه فيها بيتًا من أبياته، لكنّني أكتبه الآن في غفلة من انتباه حياتي التي ستذوب بعد انتهائي في العدم الرتيب،
عدت إلى ذلك الفتى الذي كنته، الفتى الذي كان متهاويًا على الرصيف أمام محل التسجيلات الغنائيّة، والذي لم يكن جديرًا إلا بخيباته، يسمع "إنتِ نسيتِ" وينظر محبطًا للشارع، أعتقد أنّني أدركت منذ الكلمة الأولى أن هذا الشاعر الإنسان كان يذكّرني بنفسي كثيرًا، أو ربما أكثر من اللازم، كلماته التي جسّدت شعوري الأول في الحبّ وفي الخسارة، وكنت قد أصبحت مستنفد القوى، ومرهقًا من التظاهر بالثقة بالنفس، والصلابة التي كنت أضعها كقناع كلَّ صباح في اللحظة التالية لاستيقاظي، كأنّهما سترة أو أسوأ من هذا، كأنّهما زيّ تنكر. كنت أجهل حينها كل الصعوبات الآتية في طريق حياتي، وأنّه لا يوجد أيّ شخص قادر على قراءة المآسي المستقبليّة في لعبة الحظ التي يمارسها في الحاضر.
حينها جاء مساعد ليعيدني ويستعيدُني بقوله: "مابه حياة من غير موت"
كنت أشعر أن المأساة تحوم فوق تلك السنوات العشرين من عمري، دون أن تقرر الحط على أيٍّ منها، أشعر أنّني وحدي وكأنّ الآخرين - جميع الآخرين - بمنجاة من الرعب الذي أعيش فيه، وحدي الضحية المحتملة للحظ الفظيع.
حتى جاء مساعد ليقول:
" نطيب لو عيّت ليالينا تطيب"
كسر حدّة الوحشة ومخالب الوحدة، أصبح الإذعان للضيق المثير للقشعريرة بمعرفتنا بأنّ كلَّ ما نحبّ يمكنه أن يفنى من لحظة إلى أخرى، مستحيل، أعطاني اليقين بالحبّ والحياة والقدرة على المقاومة دائمًا، وأنّ الكون يميل للتوازن، عاجلًا أو آجلًا ستعود الأمور إلى نصابها الصحيح.
لذا، في البدء كان مساعد.