وقفة لإعادة فهم عالمنا وتقبّله
العمل الفني (بنات أفكارك) للفنانة: إيمان الجبرين
الفنّ عند إيمان الجبرين حمّال أوجه، فهو قد يناهض عمليّات القولبة القسريّة، ويقاوم حالات التنميط التي تريد إصدار حكم نهائيّ لا يقبل الاستئناف على الأفكار والأشخاص، ويفعل ذلك باستخدام أدواته الناعمة، وإمكاناته المبدعة في التأثير، وتفكيك كتل الأفكار والتصورات الخاطئة والجائرة.
لكنه ليس "بالضرورة" يأتي متعاكسًا مع عمليات التنميط الفكريّ، ولكنه بالضرورة "انعكاس" لهدف من يصنعه، تقول الجبرين "أؤمن كثيرًا بأنّ الفنّ يُشبه الإعلام، فهو مبرمج حسب رغبة من يعدّه ليخلق استجابات مدروسة إذا أتقن لعبة الصورة، لذا ـ وأكبر دليل على ذلك أنَ لدينا عددًا كبيرًا من الفنانين السعوديّين المعاصرين الذين قاموا "بتأكيد" بعض الأفكار النمطيّة السلبيّة، عن: مجتمعنا، وديننا، ووطننا، من واقع إيمانهم بها ـ والعكس صحيح أيضًا، حيث وجد من قاوموا التنميط وفكّكوا صوره المحفوظة من خلال فنونهم. الفنّ ببساطة لعبة الأقوى في الإقناع".
إيمان الجبرين، فنانة تشكيليّة سعوديّة، عضوة في "مجلس الشورى السعوديّ" منذ 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، حصلت على درجة الدكتوراه في تاريخ الفنّ الحديث والمعاصر من جامعة سسكس في بريطانيا، وماجستير في التربية الفنيّة عام 2006 من "جامعة الملك سعود"، وبكالوريوس في التربية الفنيّة عام 2003 من "جامعة البنات في الرياض".
تنشر بعض القراءات الفنيّة وتغطية المعارض الخاصة بفناني الشرق الأوسط في السعوديّة وخارجها في منصات صحفيّة محليّة.
شاركت الجبرين في عدد من المعارض المحليّة والعالميّة من أهمها تنسيق الجناح الوطنيّ السعوديّ في بينالي البندقية للفنون عام 2019م.
وصفت الجبرين تجربتها ذات مرة بأنّها "تشتيت الأنماط المحفوظة والأحكام المسبقة على كل ما هو مختلف ومجهول".
إحدى لوحات العمل الفني: (لا تحاكمني، فقط انظر إلى أعمالي) المكون من 6 لوحات فنية - للفنانة إيمان الجبرين
وعن ذلك تضيف "عندما بدأت العرض الفنيّ على نطاق أوسع من معارض الدراسة، كنّا نعيش في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكأيّ شخص في مقتبل العمر واجهت صعوبة كبيرة في تقبل كل الأحكام الجائرة التي وجهت إلينا، لمجرد كوننا مسلمين وسعوديّين، خاصة وأن المتهمين لم يثبت فعلًا تورطهم. وبدأت حينها ألاحظ كيف تغيرت طريقة التعامل معنا من قبل الآخر، سواء في الداخل أو الخارج، خاصة وأنني امرأة أيضًا. من هذه المرحلة بدأت "مخطئة" بمحاولة الدفاع من خلال أعمالي، ظنًّا مني أن حديثي كافٍ لأن يصدق الآخر ما أقول، إلا أنّني اكتشفت بالتجربة أن أساس المشكلة هو خوف الإنسان من كلّ ما هو مختلف، وبالتالي يهاجمه من منطلق
السيطرة على صورة العالم كما يعرفه هو، لا كما يراه اليوم. أدركت أيضًا أننا نمارس يوميًّا فيما بيننا شكلًا من أشكال التحجيم والحكم تجاه من يختلف عنا، لنفس السبب، نريد أن نرى العالم ونفهمه كما تعودنا عليه فكل ما يشبهنا هو الأصح والأفضل، وكل ما يختلف عنا غالبًا لا خير فيه، أو قد يشكل خطرًا على وجودنا. لذلك اتجهت إلى محاولة تأمل الأفكار، والعادات، والأزمنة، وحتى الأشخاص، المجهولة للبعض، أو المنسية للجميع، في وقفة لإعادة فهم عالمنا بشكله الهجين اليوم، نتذكر جماليّاتها ثم نودعها لنتقبل تمثيلاتها الجديدة، فما نعرفه عنه قبل عشرين عامًا لم يعد صالحًا اليوم لنبني عليه فهمنا الجديد لعلاقات القوة في حياتنا الخاصة والعامة" .
ماذا عن استطاعة تجربة وحالة الفن لدينا، في تحويلها إلى ذخيرة فاعلة في "بنية القوة الناعمة السعوديّة" الضروريّة لدعم مشاريع التحول والتوسع في قطاعات أخرى، تعلق الجبرين "الفنون أداة خطيرة جدًا ينبغي علينا إجادة استخدامها، المشكلة الوحيدة برأيي هي أن الكثير من الفنّانين السعوديّين البارزين على الساحة يدركون ذلك، لكنهم ما زالوا يتعاطفون أكثر مع الصورة السلبيّة تجاهنا. لذلك التطوير الحقيقي الذي يمكن أن نقدمه ـ لنعزز هذا الجانب إيجابًا ـ هو تفكيك الخطاب الغربيّ وإبراز تناقضاته، والرد عليه بالحجة المقنعة المبنية على الوعي بمجريات التاريخ، لنخلق جيلًا جديدًا من الفنانين لديه حس وطنيّ مبني على الفهم لا الحفظ والتبعية العمياء التي تجعله ينجرف سريعًا في أول موقف يستمع فيه إلى حجة مغايرة من الطرف الآخر".
بالإضافة إلى جهود الجبرين الفنية، فإنّ لها مسيرة أكاديميّة وتعليميّة مهمة.
فقد شغلت منصب محاضرة في قسم التربيّة الفنيّة في "جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن"، وأستاذة لتاريخ الفنّ في كليّة التصاميم في ذات الجامعة، ومستشارة غير متفرغة لـ"دار الفنون السعوديّة"، ومشرفة للتدريب عن بعد للبرنامج الإبداعيّ في "معهد مسك للفنون" بين 2019 و2020، ومحاضرة في "جامعة الملك سعود" خلال عام 2008، وأستاذة مساعدة في "جامعة البنات في الرياض" بين 2004 و2008.
عن درجة نجاح الجامعات السعوديّة في القيام بدورها في تعليم الفنّ، وعما إذا كان يصحّ تعليم ما هو موهبة
وفطرة وذوق بالأساس، قالت الجبرين: إن كلّ شيء قابل للتعليم بدرجةً ما، إمّا من خلال المناهج المقننة، أو من خلال التلمذة ومراقبة الغير والمحاولة والخطأ، فالموهبة وحدها لا تضمن لك ـ على سبيل المثال ـ أن تتقن استخدام الألوان الزيتيّة وتخلطها بالوسائط الصحيحة، أو تتقن المنظور من المحاولة الأولى، أو حتى الخامسة.
لكنها أيضًا من أنصار التشكيك في طرق التعليم وقواعده، لأنّها مقتنعة بأنّ التشكيك يدفع لاستكشاف طرق بديلة قد تكون أنجح وأكثر فائدة، أي أن التعليم الممنهج هو خطوة أولى، لكن يبقى أمام المتعلم الخيار للانطلاق في اتجاهات جديدة. أما عن دور الجامعات، فهي ترى أنّه من الظلم تحديد الإجابة، لأن الجامعات منظومة كبرى تضم تحتها العديد من البرامج الفنيّة المتفاوتة في مستواها، كذلك أعضاء هيئة التدريس شأنهم شأن أي موظف في أي قطاع، منهم المحسن ومنهم الضعيف.
سلسلة " حجاب" للفنانة الجبرين، عن تنميط المرأة السعوديّة المحجبة والمنقبة على ورق وخشب اسكندنافي.
قدمت الجبرين أعمالًا فنيّة وبحثيّة مهمة، تحدّت عبرها العديد من الصور النمطيّة عن المرأة السعوديّة، وعن الثقافة السعوديّة بشكل عام، وحاولت ابتكار طريقة تقديم هذه الثقافة من وجهات نظر جديدة لم تأخذ حقها في التعبير عن نفسها، مجموعة أعمال رشيقة ومتخففة من عبء الإجابات الجاهزة والقطعيّة، ومنفتحة على مشاركة الآخرين في حوار مفتوح مع الذهنيات والأفكار، مباشرة وبدون وسيط من الأحكام المسبقة والوصمات التنميطيّة.
كانت المرأة دائماً بمثابة الحلقة الأضعف في عمليات التنميط والقولبة الجائرة، تعيش المرأة السعوديّة أفضل مراحلها التاريخية، ويبوء " التنميط" بمسؤولية كبيرة عن الماضي.
تقول الجبرين "أعتقد أن قضيّة تنميط المرأة قضيّة أزليّة، قديمة بقدم قصة البشريّة نفسها، وهي تظهر بجلاء
أكثر في بعض الأماكن أو في أزمنة دون غيرها، حين تكون وسيلة لتحقيق هدف سياسيّ، وليس بالضرورة أن الصورة التي نراها اليوم للمرأة السعوديّة تضمن تغيير ما مضى، أو حتى تضمن أن تبقى صورتها المعاصرة متحررة من تلك القولبة المجحفة، فالصور النمطية التي حطمناها مؤخرًا سرعان ما ستستبدل بغيرها، ونعود من جديد نحاول تفكيكهاـ أنا لست شخصًا متشائمًا أبدًا ولكن التاريخ علّمني أنّ قصصه متكررة، حتى وإن تغيّر أبطالها، كلُّ ما علينا هو أن نتعلمّ منه عبرًا ودروسًا لنواجه القصة حين تتكرر من جديد".
تضيف "نحن اليوم نحتاج إلى المصداقيّة الفنيّة أكثر بكثير من حاجتنا للنقد، حيث نعاني بشدة من نسخ الأفكار العالميّة وهذا شيء محزن فعلًا. مخزوننا الثقافيّ وتجربتنا اليوميّة ثرية جدًّا، وتتحمل أن تكون مصدرًا لأعمال مميزة جدًّا، وخارجة عن الأنماط المحفوظة والمتوقعة".