قد تتعدد الصفات: رحالة، داعية، فقيه، أديب، شاعر، كاتب.. ولكن الموصوف واحد، هو سندباد المملكة العربيّة السعوديّة، محمد ناصر العبوديّ، الذي حمل علمها وعلمها على كتفه ولسانه، وحلق بعيدًا ليزور أغلب بقاع العالم، ويزرع فسائل الحب والسلام والدين الحنيف.
إنّنا أمام سيرة رجل يقف على أكثر من تسعين عامًا قضاها على سفر لإعلاء كلمة الله وبث إشعاع المعرفة في قلوب مريديها.
لا تحتفظ السجلات بالكثير عن طفولة العبوديّ، سوى أنّه ولد سنة 1926 في كبرى مدن منطقة القصيم، مدينة بريدة، مفتتحًا دراسته في الكتاتيب التقليديّة، حيث فكّ الحرف، وأرسى دعائم علاقته مع الأبجديّة، قبل أن ينتقل إلى حفظ القرآن وبعض المتون، وقبل أن يلتحق بالمدرسة الحكوميّة دون أن يتخلى عن طموحه ورغبته في الدراسة الدينيّة لدى كبار المشايخ ومدرسي القرآن واللغة العربيّة، بداية على يد الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، ومن ثم إلى مجالس لفيف من الشيوخ الذين أخذ عنهم وتعمق على يديهم في الدراسات الدينيّة، ثم بمهنة التدريس، دون أن يترك شغف الدراسة فزاوج بين الفعلين المتكاملين، معلِمًا ومتعلمًا.
أثبت الرجل وجوده سريعًا في مجال التدريس والفقه والأدب، فاستحق أن يتقلد مناصب قياديّة، عُيّن في البداية مديرًا للمعهد العلميّ في بريدة، ثم وكيلًا للجامعة الإسلاميّة في المدينة المنورة، ثم أمينها العام، واختير أمينًا عامًا مساعدًا لرابطة العالم الإسلاميّ التي تتخذ من مكة المكرّمة مقرًّا لها، تلك الوظيفة التي ستتيح له ممارسة ولعه بالسفر، وتهدي المكتبة العربيّة سيلا من المؤلفات الشيقة المفيدة الوازنة في مجال أدب الرحلات، فقد كتب عن الشعوب والثقافات والإنسان حيثما ثقفه، متجولًا بين القارّات الست، بلا كلل ولا ملل، ليتربع بذلك على رأس قائمة أكثر المؤلفين في أدب الرحلة والكتابة عن السفر؛ فكلّ رحلة عمل هي بالنسبة للعبودي مشروع كتاب أو كتابين.
تصدرت كتب أدب الرحلات قائمة مؤلفات العبودي، رغم تخصصه في الشريعة والفقه، إذ ألّف حوالي 125 كتابًا في هذا المجال، ولكنه لم ينس الإدلاء بدلوه في التأليف الدعويّ، إضافة إلى الكتابة في اللغة؛ نستحضر مثلًا من رفّ أدب الرحلات: "صلة الحديث عن إفريقيّة"، "من روسيا البيضاء إلى روسيا الحمراء"، "في نيبال بلاد الجبال" ، "إطلالة على نهاية العالم الجنوبيّ"، "مدغشقر بلاد المسلمين الضائعين"، "إلى أقصى الجنوب الأمريكيّ"، "إلى إريتيريا بعد ست وثلاثين سنة"، و "إلى بلاد الشرق الأوسط"... ومن رفّ مؤلفاته في الدين: "نفحات من السكينة القرآنيّة"، و"جهود الملك فهد رحمه الله لخدمة الإسلام والمسلمين" و"العالم الإسلامي والرابطة"... ومن رفوف الأدب واللغة: "معجم الأصول الفصيحة للكلمات الدارجة"، "كلمات قضت"، "موضي وبناتها"، "مطوع في باريس"، "الكلمات الدخيلة في لغتنا الدارجة" و "معجم الصيد والقنص عن العامة".... إلخ
فاز العبودي بجائزة الأمير سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربيّة في دورتها الثالثة، كما كرمته وزارة المعارف بميدالية
الاستحقاق في الأدب، تقديرًا لجهوده في الدعوة ومساعدة الشعوب الإسلاميّة على فهم أكثر عمقًا للإسلام، كما كُرِّم في مهرجان الجنادرية؛ وحصل على جوائز وأوسمة ودروع إثنينيّة عبد المقصود خوجه، نادي أدب القصيم و ثلوثيّة المشوح. ونال عديد الجوائز والأوسمة والتكريمات داخل السعوديّة وخارجها.
العبودي الذي زار كل العالم تقريبًا، وأخذته قدماه إلى كل بلاد المسلمين حتى ولو كانوا أقليّة جدًّا في بلاد تدين بديانات أخرى، كان يؤدي مهمته التي تتطلبها وظيفته الرسميّة أمينًا عامًا مساعدًا لرابطة العالم الإسلاميّ، ولكنه كان يتعامل مع الأمر بأكبر من كونه مجرد مهنة أو مهمة يؤديها ويمضي، كان يتصرف انطلاقًا من رسالة ورؤية شخصيّة آمن بها، فكان قريبًا من كلِّ الشعوب، وكلِّ الثقافات والأعراق التي زارها واحتك بها؛ والأهم من كلِّ هذا أنّه استطاع أن يترجم هذه الرحلات إلى كتب شيّقة، تجمع بين الأدب والحكمة والطرافة والفائدة.. ويحتفظ لنا المستقبل القريب بمائة كتاب أخرى مخطوطة من مؤلفاته تنتظر النشر.