"مسافر زاده الخيال".. بهذه الكلمات المعبّرة ترنّم محمد عبد الوهاب في رائعته "النهر الخالد"، وهي كلمات اختزلت ـ على قلتها ـ بُعدًا معنويًّا كبيرًا، تكثفت فيه دلالات السفر والترحال،وازدحمت بين حروفها الخيالات والأفكار. يُعدُّ السفر أحد أهم التجارب في حياة الإنسان، الذي تدفعه فطرته إلى البحث باستمرار عن أسرار وجوده، والبقاء في برزخ ذهنيّ يكون التَّرحال فيه هو القاعدة، ويتحوّلُ الاستقرار إلى استثناء. منذ أن بدأت تظهر التجمّعات البشريّة الكبيرة، والإنسان في حركة جماعيّة مستمرة للبحث عن آفاق جديدة، سواء من خلال ارتحاله المحدود خلف المقوّمات الأساسيّة لحياته، أم من خلال الهجرات الطويلة، بحثًا عن: الثروة أو الرَّخاء أو الهيمنة. ورغم الاستقرار الذي فرضته المدنيّة عليه، ما زال الإنسان يبحث، منفردًا هذه المرة، عن التمرّد والانطلاق عبر الحياة بمختلف أبعادها، وما زال يتوق إلى ثنائيّة المغادرة والوصول، التي تجعله في كلِّ مرّة يعيد النظر إلى ذاته بتجدّد، يترادف في لا وعيه مع معنى الحياة ذاتها.
يبدو السفر واحدًا في ظاهره، وكذلك في جوهره المتمحور حول فكرة التغيير، ولكن بين الظاهر والجوهر تتعدد الأبعاد وتتقاطع المسارات، وتبقى نظرة المسافر هي العامل الأساسيّ الذي يحدد ماهية سفره. بأيّة عين سينظر المرتحل إلى ظاهر ارتحاله، وبأيّة بصيرة سينفذ إلى جوهره؟ هذا هو السؤال الذي من شأنه أن يغير وجهة الارتحال من أقصاها إلى أقصاها. إنّ المساحة التي نتحرك فيها خلال سفرنا ليست مجرد فضاء هندسيّ جافٍّ نقطعه ذهابًا وإيابًا بوتيرة واحدة، بل فضاء تتفاعل فيه الأفكار والثقافات والقيم، إلى درجة تجعل السفر تجربة تكاد تكون متفرِّدة بذاتها في كلّ مرّة. فتجربة السفر عبر المكان ـ بمسافاته ومحطاته الماديّة ـ من شأنها أن تترك في ذهن المسافر صورًا وخيالاتٍ تختلف عن تلك التي يتركها فيه السفر الزمنيّ عبر المحطات التاريخيّة، وهي تختلف حتمًا عن الخيالات التي يجوبها المسافر عبر الثقافات والتجارب، حيث تكون المغادرة غير المغادرة، ويكون الوصول غير الوصول، وحيث يكون الانتقال انتقالًا من رتابة المألوف إلى دهشة المجهول.
ولا يمكن الخوض في ماهية الترحال، دون استشعار الأثر الذي يتركه في النفوس والأذهان، واستحضار لذة التجاذب بين ضفّتين، والتراوح بين واقعين، وهي لذّة تصل بصاحبها في كثير من الأحيان إلى درجة الشجن. إنّ السفر لهو فلسفة في حدِّ ذاته، بل هو جنة الفلاسفة والمفكرين، وطريق لا مناصَّ من سلوكه للوصول إلى أبواب الآخر واستكشاف ما وراءها. يقول مارك توين إن "السفر يقتل الانحياز، والتعصب الأعمى، وضيق الأفق، و لهذه الاعتبارات فإنّ الكثيرين ممن نعرفهم يحتاج إليه بشدة". يمكن القول إنّ السفر هو مرآة جديدة يستبدلها الإنسان بتلك المرآة التقليديّة التي ظلت تخادعه طوال ركونه إلى الواقع المعتاد، ويصطدم من خلالها بذات مختلفة، وضعته المحطات
غير المألوفة أمام حتميّة استكشافها، وفي هذا السياق يقول إليوت: "انطلقوا أيها الراحلون، فأنتم لستم نفس الأشخاص عند بدء الرحلة". غير أنّ المرآة القديمة لا تفارق المسافر، بل تصاحبه في صورة ذكرياته وخواطره التي تربطه بلحظة المغادرة، ليصبح السفر منطقة بين منطقتين، تضيع فيها معالم المغادرة والوصول، ويتحول إلى رحلة لا نهائيّة بين الهرب والانغماس. هذه الفكرة تُبرزها الشاعرة سعيدة بنت خاطر الفارسي في كتابها "وطن في حقيبة"، الذي تسلط فيه الضوء على فكرة الارتحال الذي يحمل في باطنه شعور الدوران المفرغ في حلقة الشيء المعتاد.
هذه المشاعر والخواطر مثّلت الوقود الذي طالما حرّك الملكات الإبداعيّة للإنسان للتعبير عن انطباعاته إزاء هذه التجربة الفريدة. ومن رحم السفر والارتحال نشأ أدب مستقلٌّ بذاته هو أدب الرحلات، الذي تأرجح بين النمط التقليديّ المتكوّن من حاكٍ ومحكي عنه وحكاية تسرد أحداث الرحلة، وبين نمط أعمق يتناول جوهر الارتحال ويسافر عبر أبعاده الفلسفيّة والوجوديّة، دون أن يفارق، في أحيان كثيرة، المكان المادي، ولعل: رسالة الغفران للمعريّ، والكوميديا الإلهيّة لدانتي، من أبرز أشكال هذا التناول الأدبيّ والفلسفيّ لفكرة الارتحال. كما لعبت الفنون عامةً، والفن التشكيلي خاصةً، دورا أساسيا في تخليد لحظة الدهشة التي تُفعم المرتحلين خلال محطات سفرهم. يظهر تأثير الرحيل بشكل واضح في لوحات
الرسام الألمانيّ ماكس إيرنست، الذي هرب من المدّ النازي في أوروبا سنوات الحرب العالمية الثانيّة إلى الولايات المتحدة، حيث وجد في الطبيعة الجبليّة، التي يمتزج فيها الجمال بالغموض في صحراء أريزونا، التناغم المنشود مع طبيعة القلق النفسيّ المميزة للمدرسة السرياليّة التي ينتمي إليها، كما يظهر في لوحته الشهيرة "كولورادو" حيث تبرز فكرة الارتحال إلى المجهول بألوانه الحارّة المثيرة وأشكاله المتداخلة الغامضة. ولئن اشتغل الفنانون المرتحلون عادة بموضوع السفر في حد ذاته، إلا أنّ منهم من اهتم بسياق السفر وظروفه، ووجد فيها العمق الباعث على التأمل والدهشة. السكة الحديديّة كانت في بداية ظهورها مصدرًا لإلهام الفنانين، ودافعًا للارتحال في الفكرة قبل المكان، ولعل لوحة الرسام تيرنر "مطر وبخار وسرعة" من أبرز الأعمال الفنيّة التي تجسد مفهوم الرحيل من خلال قتامة ألوان المغادرة، وغموض معالم الوصول.
لقد مثلت الرحلة حتى هذه اللحظة محاولات الإنسان للهرب من واقع متكلس إلى مشهد جديد يحمل آمال التجدّد والانطلاق. ولئن تمكن الإنسان من القفز من قبل على حواجز الاستقرار الجماعيّ، ليهيئ لنفسه مسارات ارتحاليّة عاش كل أطوارها ماديًّا وتعبيريًّا وفلسفيًّا، فإنّه اليوم يجد نفسه أمام تحديات تجبره على إعادة التفكير من جديد. فالدهشة التي يخوض المرتحلون غمار مساراتهم من أجلها تكان تصبح شيئًا من الماضي، في عصرٍ ذابت فيه المسافات، وتحولت كل الضفاف إلى ضفة واحدة بنكهة واحدة، أو ربما بلا نكهة على الإطلاق. هل سيجد الأدباء والفنّانون والفلاسفة بعد الآن تجارب مختلفة أخرى تحتضن خيالاتهم؟ سيبقى السؤال غير مطروح ما دامت دروب الرحيل لا تزال مفتوحة، في انتظار غدٍ قد يأتي بما لا تشتهي سفن الراحلين.