اﻟترﺣﺎلُ ﺣﺘﻰ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ: ﻣﺒﺮرٌ آﺧﺮ ﻟﺨﻠﻖ اﺳﺘﻤﺮارياّﺗﻨﺎ؟
ﻟﻮﺣﺔ "اﻟﻤﻮﺟﺔ اﻟﻜﺒﻴﺮة ﻓﻲ ﻛﺎﻧﺎﻏﻮا" ﻟﻠﻔﻨﺎن اﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻲ ﻫﻮﻛﻮﺳﺎي ﻋﺎم 1832 م
في عددٍ كاملٍ لمنتجٍ كتابي يتمحور حول التَّرحال، سأحاول الكشف عن أسرار رحلة الكتابة، أعني رحلة كتابة هذه المقالة، عبر التفكير بصوت مسموع في كيفيّة كتابة الرحلة، رحلتي الشخصيّة في أمريكا لعقد كامل تقريبًا، ورحلتي التي تتجاوز هذه المدة بكثير مع الكلمات دراسةً وإبداعًا.
سأحاول نزع السحر وتبديد الغموض عن كيفية سير هذه الرحلة الكتابية عبر استخدام تقنية "علاج المسافة"، أعني تلك المسافة التي تتمدد بين الفكرة في رأسي، وتحوّلاتها المختلفة أثناء الكتابة حتى تأخذ شكلها الأخير المنشور هنا، وبيتها التأويليّ في عوالمكم الثريّة أيّها القراء الآخرون. سأفترض أن الطريقة المثلى لـ"علاج المسافة" تكمن في أن أصرّح بوضوح بخطتي في كتابة هذا النص، وبهذا أختصر عليكم رحلةَ التأويل، وأيضًا أتيح لكم إمكانيّة الحكم على درجة ولائي لهذه الخطة؛ فما نفترضه في بداية الكتابة ليس هو بالضرورة ما تظهر عليه في صورتها النهائيّة.
إذن؛ ما التصميم الذي ستسير عليه كتابتي هذه؟ هذا نصٌّ تدور ثيمته الأساسيّة حول التَّرحال بوصفه دافعًا لاختراع الاستمراريّة. سأضع بعض التوضيحات والمبررات التي تدفعني (ربما بشكل لحظيٍّ بينما أكتب هذه الكلمات) لتكوين إيمان يكفي للتصريح بتصوري هذا عن الترحال وتسجيله باسمي. بعد ذلك سأركّز على دور الشعر في خلق هذه الاستمراريّة، وعلى تجربتي الفرديّة، على الورقة وعلى الأرض، في محاولة تفسير (أو تبرير) تصوري هذا. بصراحة، لم أعد أعرف تمامًا هل سبقت التجربة الكتابة أو العكس، ولذلك سأترك هاتين الكلمتين "التجربة" و"الكتابة" دون حركات إعرابيّة ظاهرة على آخرهما، لأستغلّ "منفعة الشك" التي تمنحنا إياها اللغة العربيّة، فأؤجل تحديد الفاعل والمفعول به حتى إشعار آخر. أيضًا لا أنسى أن أكشف لكم سرًّا آخر: سأحاول استخدام كلمة "رحلة" استعارةً لكثير من الظواهر حتى أربط أجزاء النص ببعضها، وهذا فخٌ قليلًا ما أنجح في محاولة النجاة من الوقوع فيه!
صحيح أن تصريحي هذا ـ بسرّ النصّ وتصميمه وأهدافه ـ قد استفدته من معلمة اللغة الإنجليزية في ولاية پنسلڤانيا الأمريكيّة التي كانت تطالبنا بتضمين ذلك في الفقرة الأولى لأي مقالة نكتبها، ولكنّني عرفتُ فيما بعد أن أحد علماء أصول الفقه العرب في الأندلس كان له رأي مشابه في مقدمة واحد من مصنفاته التي فُقد معظمها في رحلتها إلينا. ولأكون مكشوفًا تمامًا معكم، فقد عرفت أكثر عن هذا العالم العربيّ بفضل أساتذتي الألمان في قسم الدراسات العربيّة في جامعة ييل الأمريكيّة، الذين رحل بعض أساتذتهم من يهود ألمانيا إلى نيويورك هربًا من النازيّة إلى الرأسماليّة. رحلة بين برلين وپنسلڤانيا وييل وأندلوسيا ربما تأتي مناسبة أخرى للحديث عنها، وربما لا تأتي!
إذن، وبعد أن استهلكت الكثير من مساحة النص في الحديث عما سيكون عليه، سأختصر الآن وأسأل: كيف أفهم التَّرحال ـ وهو في أصله قائم على الابتعاد والانفصال ـ بوصفه مبررًا لخلق استمراريّاتنا؟
سأقول بأنّنا نرحلُ، أفرادًا وجماعاتٍ وأممًا، وبينما يخيّل إلينا أننا نبتعد، تتشكّل حاجة مُلحّة إلى خلق استمراريّة من نوعٍ ما، بين ما قبل الرحلة وما بعدها. يصبح التَّرحال نوعًا من الاقتراب أكثر: يخلق عندنا الرغبة في شدِّ الحبل مع أناس على ضفة لحظة أخرى، نتخيلها عن العالم الذي فقدناه قبل انطلاقنا للمكان الجديد. ولو حاولنا تعريف الرحلة فيزيائيًّا، فيمكن القول بأنّها المسافة الكافية لتبرير رسم خط جديد يصلنا بما نحبّ مما هو ليس جديدًا تمامًا علينا. وفي أحيان كثيرة، إنّما نرحل ليس للبحث عن أماكن جديدة، ولكن لنجدد الصلة بأنفسنا، عبر خلق استمراريّة مع أفضل ما نتصوره عنها. ربما هذا ما يجعلنا نتحمس للأغاني الوطنيّة حينما نكون بعيدين عن أرض الوطن! ألم يقل بدر بن عبدالمحسن: "ما أحس انّ الليالي، كلها ناس وأماكن، إلا وبلادي بعيد"؟
بعد 540 كلمة من بداية المقالة، يبدو أنني حصلت الآن على درجة كافية من الثقة في فكرتي. لذا، سأتقدم خطوة إلى الأمام وأقول: الرغبة في الاستمراريّة هي ما يخلق مبررًا للرحلة من الأساس. يحدث هذا كثيرًا على مستوى الأمم والحضارات، عبر عمليات اختراع التراث، خاصة في فترات تشكل الوطنيّات الجديدة. فحتى تثبت الأمم الحديثة رسوخها في التاريخ، ترحل إلى ماضٍ متخيّل (غالبًا) لتصنع لصورتها الفتيّة في الحاضر استمراريّةً ناصعةً مع أصولها الراسخة في الماضي، أي مع "تراثها الوطنيّ". ولأن أحداث التاريخ لا تبدو على قدر كبير من التناسق بما يكفي لادعاء استمراريّة الحاضر مع الماضي، فغالبًا ما تتكفل الفنون (والأدب من أهمِّها) بهذه المهمّة، نظرًا لقدرتها على استخلاص كليّات رمزيّة متشابهة من تفاصيل الأحداث المختلفة. لهذا تُـكتبُ القصائد عن "العصور الذهبيّة" للأجداد، وتنشأ المتاحف "لإبراز التراث الخالد للأمّة." إن هوياتنا المعاصرة تتأسس على رغبتنا في صنع استمراريّة إبداعيّة لأنفسنا، عبر رحلتنا إلى ماضٍ مخترع، لنؤكد رسوخنا في التاريخ، وأننا لسنا طارئين عليه.
بالنسبة لي، لقد تطوّر لديّ هذا المفهوم من مرجعيّات حياتيّة وثقافيّة عدة. سأذكر منها اثنتين ترتبطان بشكل وثيق: الشعر العربيّ، ورحلتي في أمريكا التي استمرت عقدًا كاملًا تقريبًا.
بالنسبة للشعر العربي: بشكل عام، تقوم القصيدة العربيّة التقليديّة، التي نعرفها تامّة الخلقة، مع أن رحلتها بدأت قبل الإسلام بزمنٍ لم يتمكن من تحديده بدقة علماء التاريخ القديم، حتى الآن على الأقل، على ثلاثة محاور رئيسية: ١) النسيب، حيث يتذكر الصوتُ الشعري بحزن شفيف ماضيًا جميلًا يتجسّد في شكل امرأة، متخيّلة غالبًا. ٢) الرحيل؛ ويبدأ من اللحظة التي يقرر فيها البطل الشعريّ أن "يعدّي عن ذا" تاركًا الماضي وشأنه، وميممًا وجهه شطر المستقبل المجهول/المأمول، راكبًا ناقته التي تقاتل الوحوش بضراوة تليق بالصورة التي يتمناها في نفسه. وأخيرًا ٣) ما أسميه بمرحلة "الوصول"، وهي اللحظة التي تصور، غالبًا، لقاء الشاعر بذاته الجماعية (الفخر بالقبيلة) أو بطله الشخصيّ (الممدوح) في جوٍّ من الفرح والابتهاج يمثّل عالمًا متضادًّا كليًّا مع حالة النسيب الأولى.
إن الغرض من رحلة امرئ القيس ورفاقه في قصائدهم، وهي رحلة متخيّلة غالبًا، ليس الابتعاد عن الجماعة، بل هو خلق استمراريّة جديدة معها، ولكن بشروط الشاعر الشخصيّة. لقد ترك عالمًا بشريًّا يسيطر عليه الفناء واليباب والهزيمة، ورحل
عبر الاتحاد مع كائن غير بشريّ، ذكّره بصورة البطل المثاليّ الذي يتمناه، ثم عاد من رحلته تلك بعد أن توافرت مبررات كافية لخلق الاستمراريّة الجديدة بالجماعة البشريّة. خرج من الباب الخلفي، ورحل ليعود إلى عالمه من أوسع الأبواب جذلًا فارهًا منتصرًا.
وبعد عدة قرون، أصيب الشاعر العباسيّ بالدهشة وهو يقرأ رحلة جدّه الجاهلي بينما كان هو يعيش في بيئة حضريّة لا يمكن فيها تبرير منطقيّة رحلةٍ على ناقة للبحث عن بطل شخصيّ مثاليّ! فماذا يفعل لكي يخلق استمراريّة مع عالم جدّه هذا؟ توصّـل أهم مبتكري الكلمات وروّاد الأقوال في ذلك الوقت إلى الحل التالي: توجيه العدسة إلى الداخل. لقد قاموا بابتكار رحلة داخليّة، داخل النص الشعريّ ذاته، وداخل اللغة ذاتها، وقد كشفت أسرارها وكسرت أكوادها بفضل علماء اللغة الأوائل، فأصبحت القصيدة العباسيّة رحلة بين الكلمات للتساؤل عن سبب رحلة الجدّ الشعريّ، ومحاولة تأويلها بما يتفق مع الحساسيّة الحضاريّة الجديدة. لقد نجحوا بهذه المساءلة والتأويلات الجديدة في ابتكار رحلة جديدة تؤكد فرادة الشاعر العباسيّ، ولكن في الوقت ذاته صنعوا لأنفسهم موقعًا لائقًا في تاريخ الشعر العربيّ عبر "شد الحبل" مع أجدادهم المتخيّلين في الشعر العربيّ القديم. هكذا كانت رحلة الشعر العباسي مبررًا لخلق استمراريّته مع جدّه الجاهليّ (أو العكس؟) ولم تكن انقطاعًا عنه.
عشرة قرون أخرى إلى الأمام، ونجد أنفسنا أمام شاعر من القرن العشرين ولكنْ في لغته "حجر جاهليّ"، يقرر أن "يمضي إلى المعنى" الذي أوحى به أجداده الجاهليّون ولم يصل الناس إلى كشف أسراره كلها بعد. ولد محمد بن عواض الثبيتي في 1952 في إحدى قرى بني سعد في الطائف غرب المملكة العربيّة السعوديّة، وبدأ ينشط في نشر الشعر والمشاركة في الأمسيّات الشعريّة حتى أصدر مجموعته الأكثر شهرة في الشعر الحديث في السعوديّة "التضاريس" في عام 1986. كان الثبيتي من جيل جاء بعد عصر الطفرة الاقتصاديّة في السعوديّة، وهو العصر الذي حوّل البلاد إلى ورشة تنمويّة هائلة، تغير معها شكل تضاريس البلاد، ورحل الناس فيها إلى عالم جديد لم يعد يشبه اللحظة التي تركوها وراء ظهورهم قبل عقدين أو ثلاثة تقريبًا، فتساءل الثبيتي: "كيف أفهم هذي الوجوه وفي لغتي حجرٌ جاهلي؟!؟". كانت براعة الثبيتي وبعض رفاقه في الجزيرة العربية تكمن في تصميم رحلة شعريّة إلى عالم جدّه الجاهليّ، ولكن عبر لغة ممعنة في تأكيد حداثة عالمه الشعريّ هو في القرن العشرين.
نصوص الثبيتي في هذه المجموعة، بالإضافة إلى نصه الأطول الأخير "موقف الرمال/ موقف الجناس" (نشر أولًا في عام 2000) الذي يقف فيه على أطلال من نوع لا يختلف كثيرًا عن تلك التي يفتتح بها امرؤ القيس معلقته الشهيرة التي فجّرت عيون الشعر العربيّ بكيفيّة غير مسبوقة، جعلتني أتأمل أكثر في مقدار المسافة بين شاعري القرن الرابع والقرن العشرين، وفي طول ونوع الرحلة التي عليّ أن أقطعها لأخلق استمراريّة بينهما، بينما أصنع لنفسي استمراريّةً معهما، وأنا الذي كنت أراقب على التلفاز من شقتي في مدينة مكلين بولاية ڤرجينيا الأمريكيّة احتفالاتِ أصدقائي الأمريكان بالسنة الميلاديّة الجديدة في التايم سكوير في نيويورك!
كانت رحلة الثبيتي في البحث عن المعنى الشعريّ في لغته التي تبدو كحجر جاهليّ، تتجاوب مع رحلتي بين نصه ونص جدنا المشترك امرئ القيس؛ فبينما فرضت عليه الطفرة الاقتصاديّة والمشهد الماديّ الجديد الذي غير خريطة تضاريس الجزيرة العربيّة أن يرحل بعيدًا إلى جدّه الجاهليّ ليصنع باللغة استمراريّة ثقافية بين زمنين، تكاد الحداثة الماديّة أن تفصلهما كليًّا، كنت أنا أرحل إلى نقطة التقاطع بينهما لأصنع استمراريّتي الشخصيّة مع وطني الثقافيّ "معلقة امرئ القيس" ووطني الحقيقي "السعوديّة" الذي كنت أشعر بالحنين إليه كلما مددت البصر في نهر الپوتامِك تحت الجسر الذي يربط بين واشنطن دي سي وڤرجينيا فأعثر عليه هناك، في نص الثبيتي، حيث تتخلّق تضاريسه بشكل لا تزيده الأيام إلا جمالًا وألقًا. في رحلة الثبيتي إلى أحجاره الجاهليّة نعثر على استمراريّة ثقافية مذهلة للجزيرة العربيّة ينتقل معها المكان العربيّ بكافة تضاريسه إلى النص العربيّ فيصيران شيئًا واحدًا متفردًا، ويغدو النص استمراريّةً فنيّةً للعالم.
ويأخذني النص للحديث عن علاقتي الشخصيّة بالشعر. لقد بدأت هذه العلاقة بيننا في سن العاشرة تقريبًا، ولكن رحلتي إلى أمريكا في سن الثامنة والعشرين وترحالي اليومي هناك بين اللغتين العربيّة والإنجليزيّة حوّل الشعر إلى وسيلة لتأمل حسنات الوقوف على الأعراف بين لغتين وثقافتين مختلفتين. كانت حيلتي في هذا التأمل هي مصاحبة المثنّى الذي تختص به لغتي الأم، أو أمي اللغة، والتفكر في حسنات تجاوز الثنائيات، ولذلك كان عنوان مجموعتي الشعرية التي أصدرتها في نهاية هذه الرحلة الأمريكية "أحتفل بالمثنى في ييل". وفي رحلة التأمل هذه، كنت أشد نفسي بحبال الاستمرار مع تراثي العربيّ المخترع، بينما أجد ما يكفي من الأسباب المقنعة للاندماج في تراث أمريكيّ/غربيّ يستضيفني في نصوصه وأغانيه بحفاوة بالغة. كان عليّ أن أفكر في طريقة صنع استمراريّة بين لغتين لم أرد لهما أن تصبحا ضحية لصراعات التاريخ بين أنصارهما.
بدأت هذه التأملات الثنائيّة في قسم الدراسات الشرقيّة في جامعة ييل؛ فهذه الصديقة الأمريكيّة الغاليّة التي ولدت مع انعطافة القرن الثامن عشر الميلاديّ، لتشمخ قبلةً للبحّـاثة ومزارًا لسياح المعرفة، استضافتني وعائلتي بكرم غربيّ أنيق، في حرمها الجامعي الباذخ في قلب مدينة نيو هايڤن في الشمال الشرقيّ لــ"جمهوريّة النظريّة" بين عامي 2012 و2014. في ييل، كنت أحتفلُ بالمثنّى لأصنع استمراريّةً بين ما يبدو على السطح واحدًا ومنفصلًا. وبينما كان أصدقاء نادي المعرفة يتجولون في مكتبتها الأشهر "مكتبة باينيكي للمخطوطات والكتب النادرة" لاستخلاص عروق ذهب التجربة البشريّة، التي تخرج التراث من صقيع المعاد المكرور إلى نار المعرفة الولود، كنت أتفكر في صناعة تراثي الخاص ومخطوطاتي الفريدة، لأخترع استمراريّتي الشخصيّة بين ثنائيات كان عليّ أن أتجاوز تناقضها الظاهريّ.
حدث ذلك أولًا بالكتابة عن المتنبي، شاعري العربيّ الأثير، ولكن باللغة الإنجليزيّة. لم يكن من السهل عليّ في البدء أن أستمع إلى المتنبي وهو يتحدث إليّ بلغة فُرقةٍ، Coldplay، ولكن بعد فترة وصلنا إلى حل وسط يُبقي على "الميزة التنافسيّة" في كلتا اللغتين. وبعد أن غادرت ييل إلى جامعة جورجتاون في عاصمة العالم الدبلوماسيّة واشنطن دي سي، أدخلت المتنبي في حوار مع امرئ القيس ومحمد الثبيتي ودراسات ما بعد الاستعمار والسرديّة حول الجزيرة العربيّة، واقتنعت أن رحلتي بين كل هذه المتناقضات ظاهريًّا يجب أن يكون هدفها النهائي خلق الاستمراريّة.
كانت كتابة الشعر معينةً جدًّا على ذلك، إذ تسمح رخصتها بالكثير من المفاوضات والمناورات، فأصبح من هواجسي الفنيّة الحميمة أن أتأمل باستمرار في حسنات تجاوز الثنائيّات، مثل الثنائيّة الفنيّة الراسخة (شعر/نثر)، وأن أتفكر في المساحة الرحبة التي يمكن للقصيدة أن تصل إليها إذا توافقت مع قيم النص النثريّ والعكس. اتخذت من ذلك أساسًا لقصيدتي (استعارات لفوات القطار) التي أُريدَ لها أن تكون تجربة في جعل الشكل يتكلم. هذا الشكل يجهد دائمًا في "علاج المسافات"، بين العربيّ والإنجليزيّ، والشعريّ والنثريّ، والتراثيّ والحداثيّ، والواقعي وما يمشي على الورق، والعلميّ والفنيّ، والأهم بالطبع بين المعنى المطارد واللغة التي تتأبّى على القبض والإدراك.
ولهذا، فأنا في رحلة الكتابة بشكل عام أفضّل توقع أن أحظى بالقراء الذين يبحثون عن الجسور التي تصنع لنصوصي استمراريّة معهم. أولئك الذين ينتمون إلى قبيلة الجمال، ويحملون قلوبًا بحجم قصيدة متوقعة. أولئك الذين يلتفتون إلى الهندسة الداخليّة للنص (حتى حينما يفضي الكتاب إليهم بها بكل غرور)، إلى الانعطافات المقصودة، لأنّ الطريق السريع يكثر سالكوه، وإلى الهمهمات التي تتوسل من يحسن الاستماع.
والآن، أيها القراء الأقربون، وقد أفضيت إليكم منذ البدء، وبتأكيديّةٍ واضحة لا تخلو من مجازفة تليق بكتّاب عصر ما بعد الحقيقة، بطريقةِ تصميمِ هذا النص، أرجو أن نكون قد نجحنا معًا في الإبقاء على خيط رفيع من الأمل بأن ننجح معًا في الوصول إلى ضفّة الفكرة دون أن تتبلّل ثيابنا تمامًا بنهر السكرة؛ السكرة الفنيّة التي لطالما استمتعنا بالغرق فيها ونحن نقرأ الأدب ونسينا هدفنا من رحلة القراءة. بهذا ربما نسهم معًا في كسر هالة الغموض التي تحيط بالكتّاب، وتؤدي إلى تراكم المزيد من الرأس مال الرمزيّ في أرصدتهم الثقافيّة الاجتماعيّة.
من هنا فقد وجب عليّ أن أكون واضحًا معكم منذ البدء، وأن أختصر رحلتكم هذه قدر الإمكان (وقد طالت فوق المتوقع!) فيكون إنجازنا الرئيسي (نعم إنجازنا معًا) هو خلق مبررٍ لاستمراريّة حوارنا. فهل نجحت في ذلك؟
إنّ النصّ رحلة ترحّـب بالقارئ المغامر الذي يعيد كتابته ليبدو-أحيانًا- أعذب من صورته الأولى وأكبر من لحظة ولادته.
ومع بعض القراء، تغدو النصوص رحلة كتابيّة حرّة من أجل استمراريّة بلا نقطة آخر السطر.
المحبة كاملةً،
حاتم الزهراني
شاعر، ناقد، وأكاديميّ