اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ.. ﻓﻦّ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻮح اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ
ﻟﻮﺣﺔ (اﻟﺤﺎﻳﻂ) 1999 م ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻠﻲ: ﺻﺎﻟﺢ اﻟﻨﻘﻴﺪان
وتغيّر واقعه، وربما مستقبله، تتبوأ قضيّة الصحة صدارة الاهتمامات، متقدِّمة على غيرها، من قضايا السياسة، والثقافة، والاجتماع، وربما الاقتصاد أيضًا، وتتسلط كلّ الأضواء على رئة الإنسان، بوصفها مركز ثقل جديد، يتفوق استراتيجيًّا على العقل والقلب معًا. إلا أنّ هناك رئة أخرى أكثر أهميّة واستراتيجيّة، لا يتنفس من خلالها فرد واحد، وإنّما كوكب كامل، تمثل له هذه الرئة كلّ معاني الصحة والسلامة والعنفوان والاستدامة. إنها الحدائق والمساحات الخضراء، التي تستحق بجدارة أن تكون شريكًا أساسيًّا لنا على هذه الأرض.
من حدائق بابل المعلقة، إلى هايد بارك اللندنيّة، ومن حقول الكرز الورديّة في اليابان، إلى بساتين الحمراء في غرناطة، كانت الحديقة واقعًا تبلور عبر الزمن، وتعاقُبِ الحضارات، واكتسب مع تطور الإدراك الإنسانيّ أبعادًا متجدِّدة باستمرار. فالحديقة هي فنّ الجمع بين المتناقضين العتيدين - الطبيعيّ والمصطنع - بامتياز، فهي تجسّد رغبة الإنسان في وضع يده على الطبيعة، من خلال رسم إطار محدّد تتحرك داخله، دون أن يمنعها من التفاعل وفق قوانينها الخاصة. ويمكن القول: إنّ الحديقة هي انعكاس لرؤية الإنسان للعالم من حوله. وهي لم تكن كذلك في البداية بالتأكيد، حين كانت تمثل فقط مساحة للإنتاج، ومصدرًا للطعام، وإنما تحولت إليه شيئًا فشيئًا مع تزايد اكتسائها بطابع ثقافيّ، ما فتئ يتطور حتى اليوم، ويتجلى في أشكال متعددة، اتخذها الإنسان للتعبير عن نظرته الفرديّة والجماعيّة لها. إن الفكرة هنا، هي أن: «إعادة العلاقة بالطبيعة يعني إعادة استثمار الحديقة في وظيفتها الأكثر إلحاحًا، والتي يشارك فيها الشعر والميتافيزيقا»، كما يقول هيرفي برونون في كتابه (الحديقة، نسختنا الأخرى). ولقد تعددت منطلقات الإنسان لنظرته إلى الحديقة وارتباطه بها، سواء من حيث كونها مورد الرزق ومصدر الطعام، وهو الجانب المنفعي للأمور، أم من حيث كونها مكمن الحنين إلى الطبيعة، أو إلى المكان، وهو الجانب الرومانسي الذي لا يقل أهميّة. وتنوعت أشكال التعبير
عن هذه النظرة، حسيًّا، من خلال الورد ورمزيّته، وأدبيًّا وغنائيًّا وتشكيليًّا، بظهور المدرسة الانطباعيّة المتَّخذة من الطبيعة ومن "المشهد" منطلقًا ومدارًا لها.
تاريخيًّا تعدُّ الحديقة أحد دلائل استقرار الجنس البشريّ، إذ اقترنت ولادتها باستيطانه المكان واستقراره فيه. ولئن كانت البدايات عشوائيّة بسيطة، مقتصرة على إنتاج الطعام على نطاق محدود، فإن معالم التصميمات الهندسيّة الأولى بدأت في الظهور خلال الألفيّة الثانية قبل الميلاد، في مصر القديمة، قبل أن يولد علم النبات في اليونان بداية من القرن الرابع قبل الميلاد، وتظهر في الحضارة الرومانيّة المنازل المستقلة بمساحاتها الخضراء (الفلل) والحدائق في المدن كما في مومباي. ولقد شهدت هذه الحقبات القديمة أيضًا اقتران الحديقة بالرمزيّة المستحضرة للأسطورة، كما في ممالك آشور الأولى التي كان السعي فيها مستمرًا لإعادة إنشاء الفردوس على الأرض، وكما في الثقافة اليونانية أيضًا، التي أنشأت حديقة غنائيّة تسمى بالغابة المقدسة، وتشكل مكانًا سحريًّا متميزًا عن باقي الطبيعة، ومخصّصًا للآلهة والأبطال الإغريق. ولقد حافظ جلجاميش ومن أتى بعده، من ملوك بلاد الرافدين، على حدائق ملكيّة تقام فيها دائمًا المآدب والاحتفالات. وتبقى حدائق بابل المعلقة أحد أبرز الأمثلة التي جاءت بعد ذلك، لتجسد التمازج القائم بين هندسة الشكل وثقافة المضمون.
إلا أنّ الشكل الحديث للحديقة، باعتبارها متنفسًا للمدينة ومساحة عامة لسكانها، لم ير النور إلا مع بزوغ عصر النهضة الذي كتب بداية خروج الحديقة من الفضاء المغلق إلى الفضاء المفتوح، بعد قرون من الإقطاع والعصور الوسطى، حصرت الحديقة في فكرة المكان المرتب وفقًا لاحتياجات الطعام والأعشاب الطبيّة، وربطتها أساسًا بالأديرة وأماكن الإقامة. كانت عصور النهضة فترة الطراز الإيطاليّ بامتياز، حيث طغت الأنماط الراجعة بالحنين إلى طابع ما قبل الميلاد، وتمثّلت أساسًا في المدرجات ومجاري المياه والأنماط الهندسيّة. وقد كان القرنان التاليان، السابع عشر والثامن عشر للميلاد، مسرحًا لظهور النمطين الفرنسيّ والإنجليزيّ، واختلافهما الذي عكس بوضوح ثقافة كلّ بلد في تصاميمه الهندسيّة ورؤيته للعلاقة مع الطبيعة. النموذج الفرنسيّ جعل من فكرة الحديقة تكريسًا لمركزية السلطة والسعي إلى التحكم في الطبيعة، من خلال خطوطه الهندسيّة المنتظمة وأشكاله المتناظرة حول نقطة مركزيّة، بينما جنح النموذج الإنجليزيّ إلى الرجوع إلى الطبيعة والانصياع إلى قانونها كما يظهر من عدم انتظام الخطوط والأشكال ومن ترك المساحة للطبيعة لترسم نفسها بنفسها.
ورغم تعدد هذه التجارب وتنوعها، إلا أنّ الحديقة ظلتّ حكرًا على الطبقات العليا، أما عامّة الشعب فقد كانوا يعيشون في تجمّعات سكنيّة متقاربة، محرومة غالبًا من الضوء والهواء. ولم تتغير هذه الصورة إلا في القرن التاسع عشر، الذي شهد تحول الحديقة لأول مرة إلى مفهوم اجتماعيّ بالشكل الذي نعرفه اليوم، من خلال مشروع هوسمان الفرنسيّ، الذي نادى به نابوليون الثالث لنفخ الروح في المدينة المختنقة، وكذلك من خلال حركة (فنون وحرف) الإنجليزيّة، التي كانت أول من نادى بتقريب الفنون الجميلة من الفنون التطبيقيّة، وإدخال هذا الاتجاه الفنيّ في المنزل والأشياء اليوميّة بما فيها الحدائق، وصولًا إلى القرن الماضي، حيث ظهور مصطلح "المساحات الخضراء" لأول مرّة، وتطوره من مجرد عمليّة حشو للمساحات الفارغة -كما كان في زمن إعادة الإعمار إبان الحرب العالمية الثانيّة- إلى تصور جديد للمدينة العصريّة بشكل عام، وللأماكن العامة بشكل خاص.
يفتح تطور الحديقة فكريًّا وثقافيًّا الباب أمام قضيّة جديدة تشغل اهتمامات الإنسان اليوم، وتتعلق بالبيئة وعلم الإيكولوجيا، كما يفتح الآفاقَ على مصراعيها أمام فلسفات تتناول حديقة المستقبل، لعل أبرزها فكرة "حديقة الكوكب" أو "الكوكب الحديقة". إن ما خلص إليه العلم من أن موارد الكوكب الطبيعيّة ثابتة منذ بدء الخليقة، ويتم تدويرها في حلقة متواصلة إلى اليوم، تجعلنا نعيد النظر إلى كوكبنا باعتباره محيطًا حيويًّا مغلقًا، يملك كل مقومات الحديقة فلسفيًّا وماديًّا، وننظر إلى أنفسنا، بالتالي، باعتبارنا متعهدين لهذه الحديقة، وقائمين على رعايتها، ومسؤولين عن رونقها واستدامتها. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ تطور فكرة الحديقة تطرح أيضًا تحديات ومخاوف حول تحوّل المساحات الخضراء إلى تراث، يتطلب الحماية من تغوّل العمران وتوسع البناء على حسابها. قد لا تبدو هذه المخاوف حقيقيّة بالنظر إلى الطبيعة التطوّريّة التي تميز الحديقة منذ بداياتها، في الوقت الحالي على الأقل، إلا أن الكوكب، على غرار ساكنه الإنسان، ليس في غنى عن فكر وإدراك يحميان رئتيه من فيروسات التمدّن، وأوبئة المستقبل.