نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

إﻧﺴﺎن ﺑﺬاﻛﺮة اﻟﺒﺴﺎﺗﻴﻦ
إطلالة

إﻧﺴﺎن ﺑﺬاﻛﺮة اﻟﺒﺴﺎﺗﻴﻦ

إﻧﺴﺎن ﺑﺬاﻛﺮة اﻟﺒﺴﺎﺗﻴﻦ

ﺻﻮرﻳﺔ ﺟﻮﻳﺔ ﺑﻌﺪﺳﺔ ﺳﻴﻒ اﻟﺴﻔﻴﺎﻧﻲ ﻟﺄﺣﺪ اﻟﺒﺴﺎﺗﻴﻦ ﻓﻲ ﺷﻔﺎ اﻟﻄﺎﺋﻒ.

بقلم د. ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ رﻓﻮد اﻟﺴﻔﻴﺎﻧﻲ
October 23rd, 2020

يصح أن نقول: إن الإنسان ذاكرة تمشي على الأرض، هذه الذاكرة أوحت لإنسان القرن الجديد صناعة الذواكر بأشكالها المختلفة، ولكنها ذواكر يمكن التحكّم فيها، وخزنها بما نشاء، وإفراغها مما نشاء؛ إنها ذواكر يمكننا التحكم فيها، ولكن من يمتلك التحكّم بالإنسان الذاكرة!

تتراكم فينا الحياة بكلّ تداعياتها المختلفة، ولكنّني أزعم أن الطفولة ذات تداعيات مختلفة، تلتصق بجدران الذاكرة بقوة تستعصي على النسيان، ذلك لأن الأطفال يتعاملون مع الحياة والطبيعة من حولهم بعفويّة متناهية، ويسمحون لها بالدخول إلى أعماق النفس دون حذر أو تريث.

حين أعود بهذه الذاكرة إلى الطائف، مدينة البساتين كما كان يطلق عليها، فإنّني في لحظات الهدوء التام أكاد أشتم روائح ذلك الزمن الجميل، وأرى ألوانه الممتدة من قوس قزح الذي لا يغايبنا في مواسم الأمطار المتتالية، إلى ألوان الزهور والثمار التي تكتنز بها عدة بساتين، سواء في داخل المدينة أم في قرانا المتناثرة في الشفا، والهدا، وقرى جنوب الطائف.

لست هنا أزعم أنني عاصرت فترة زهو هذه البساتين المخمليّة التي أدركت من كان يحدثني عنها حديث العاشق المستهام، ولكنّني أدركت ما لا بأس به من جماليات المكان والزمان والإنسان الذي يهيم بينهما.

عشت الطائف في ثلاث صور: صورة التاريخ المكتوب عن هذه المدينة، التي تزعم الأساطير أنها جنة من جنان الشام، جاء بها جبريل على جناحيه، وطاف بها حول البيت المقدس سبعًا، ثم وضعها برفق الملاك على جبل غزوان، لقد بدأت رحلتها في الوجود على هيئة جنة لا يشوبها شيء، وهكذا نقرأ ونحن صغار في تاريخ مدينتنا جماليّات لم ندرك منها إلا النزر اليسير.

الطائف الثانية كانت ملقاة على ألسنة الرواة وكبار السن، الذين كنت أعشق الجلوس معهم، والإصغاء إليهم، وهم يتحدثون عن مدينتهم التي بدأت تتهاوى كبقية الأشياء أمام زحف المدينة الطاغي، عن الجدول المائيّ، والنهر العذب الذي كان يشق المدينة من غربها باتجاه الشرق، من جبل برد بشموخه الذي يشبه شيخًا ملأت الحكمة رأسه، إلى شبرا، حيث القصر التاريخيّ الأثير، الذي ما زال صامدًا كشجرة توت مما كان يزرع حوله.

كانوا يتحدثون عن هذا النهر وما يحمله في مواسم الثمار مما لذّ وطاب من فواكه الطائف الصيفيّة، فتسير بجواره وعلى ضفتيه، لتلتقط ما قذفته الأشجار المثمرة في مجراه، من التفاح، والتين (الحماط)، والعنب، والرمان، والمشمش، والخوخ، والبخارى، والتوت البري، إنّه موسم للجمال تلاشى مع وقع الزمن واستفحال المدينة.

تلك الحكايات كنت أسمعها في المجالس، وأعيشها بخيال خصب، يرى بعضًا من آثارها على الأرض، ويكمل بقية الصورة في أحلامه الجميلة، ولا أنسى أنني في فترة مبكرة صحبت أحد هؤلاء الرواة سيرًا على الأقدام لنرى أحاديث الذاكرة

على خرائط الأرض، كان يسير وعيناه تحدّقان في كل اتجاه، هنا كانت شجرة باسقة للحماط لا يعرف لمذاقها مثيلًا، ومن هذا المنعطف كان يسير جدول الماء القادم من جبل برد، وهناك بقايا القلعة والسور الذي كان يطوف بالمدينة.

أما الطائف الثالثة فهي التي عشتها صغيرًا، وأحملها الآن معي، كما يحمل طفل صغير حقيبته المدرسيّة بكتب أكبر منه حجمًا! أتذكر بساتين السلامة، وقروى، وعبث الطفولة ونحن نتسورها بحثًا عن الطيور والعصافير، وعن ثمار التوت والتين والنبق البلدي، وأعود للأيام التي نقضيها في أودية الشفا في صيفه العليل، بين أشجار الرمان، والخوخ، والزراعات المختلفة، ولا زالت أصوات السواقي ومواطير الماء تقرع في أذني نغمة من تاريخ جميل.

وفي مواسم الورد مع فصل الربيع في مارس، أحاديث أخرى مع روائح العشق التي تملأ فضاء المكان، وكأن الأرض تتنفس من جديد، حين يستيقظ أصحاب المزارع فجرًا، لالتقاط الورد متفتحًا باكرًا، ليذهبوا به إلى مصانع التقطير التقليديّة، على أنغام (وردك يا زارع الورد).

كانت وكنت، وما زلت أعيشها في خيال يخشى أن تصبح هذه المدينة بعد زمن أسطورة لا يصدق أحاديثها الأحفاد، لأبقى بينهم إنسانًا بذاكرة بساتين!

إعادة تعيين الألوان