ﻛﻠﻮد ﻣﻮﻧﻴﻪ: “ﻣﺪﻳﻦ ﻟﻠﺰﻫﻮر ﺑﻜﻮﻧﻲ أﺻﺒﺤﺖ رساّماً”
لوحة زيتية على قماش رسمها كلود مونيه في عام 1900 الآن في متحف أورسيه ، باريس
يعد الفنان الفرنسي كلود مونيه من أبرز من عبر عن الطبيعة، بحدائقها وزهورها، وقد قال ذات يوم: «نحن نرسم كما يغني الطير؛ الرسوم لا تصنعها الشرائع». منذ طفولته أحب الطبيعة، حيث لاحظت والدته شغفه بالرسم، واهتمامه بالمناظر الطبيعيّة، حيث كان يقضي ساعات طويلة من اليوم بعد انتهائه من المدرسة يتجول ويتأمل الحدائق والحقول، فكانت والدته هي جمهوره الأول، والداعم لموهبة ابنها، بأن تكبر هذه الموهبة وتستمر، ليصبح الفنان الانطباعي كلود مونيه.
لوحة زيتية على قماش رسمها كلود مونيه في عام 1900 الآن في متحف أورسيه ، باريس.
اعتُبر مؤسسَ المدرسة الانطباعيّة بعد انجازه للوحة أسماها انطباع شمس مشرقة في العام 1872م، ما يميّزه بأنّه لم يرسم الطبيعة في غرفة مُغلقة، بل كان ينجزها مباشرة في الهواء الطَّلق، في رحلات ينظمها مع أصدقائه الفنانين، أو بمفرده ، كان من مؤسسي فكر المدرسة الانطباعية في الفنّ وفلسفتها، التي سعت إلى التركيز على حواس الإنسان، وخاصة بصريًّا، وتسجيل الظاهر الحسيّ والشكليّ للأشياء، دون الخوض في التفاصيل، كما كان يحدث في الرسم الكلاسيكيّ التقليديّ. هدفَ الانطباعيون، ومنهم مونيه، إلى رسم ذات المنظر في ساعات مختلفة من اليوم، وتأمل التغيرات اللونيّة الطبيعيّة التي تنعكس على الطبيعة، وتأثيرات تغير الفصول وتعاقب الليل والنهار، ومن جماليات
المدرسة الانطباعية أنها جعلت من فعل الرؤية والإبصار قاعدة ركيزة لمعرفة الأشياء من حولنا، لذلك لم تكن حدائق مونيه تشبه الحدائق الأخرى المتعارف عليها في فترة حياته، وإنما كانت ثمرة رؤيته. قدمت المدرسة الانطباعية نقلة في مجال الفنّ التشكيليّ، لأنها جعلت الفنانين يغادرون مراسمهم، ويخرجون مباشرة إلى الطبيعة، الملهمِ الأول لموضوعات اللوحات التي رسموها، هذا الفعل الذي أسهم في دراسة انطباعات الضوء على الأشكال، وتفاعلها مع اللون، وتميز الانطباعيون بأنهم أعطوا حضورًا قويًّا للمسات الفرشاة على سطح القماش اللوحيّ، بحيث أصبحت أكثر وضوحًا، وأدى اعتمادهم أن تكون ظلال الألوان ملونة، إلى الخروج عن الظلال المألوفة في المدارس الفنية.
كان من أبرز الموضوعات التي تناولها مونيه في لوحاته الزهور والحدائق الحديثة منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين، وفي أحد المعارض التي أقيمت حول أعماله في لندن، ذكرت منسقة المعرض آن دوما: «كان مونيه يعتبر نفسه بستانيًّا أفضل مما كان رسامًا، ولا يعرف كثيرون كم كان بستانيًّا جادًّا وعليمًا بحرفته».
أغرب ما في هذه اللوحات هو المزاج التأملّي الذي تخلقه، فهي تجذب الناظر أكثر فأكثر إلى أن يذوب في فوضى من الألوان. قال مونيه إنّه أراد من خلال هذه السلسلة من الرسوم خلق ملاذٍ للتأمّل الهادئ، وسط الأزهار والماء، ويصف ذلك بقوله: «لقد زرعتها من أجل المتعة فحسب، ولم يخطر ببالي أن أرسمها يومًا».
أصبح منزله، وحديقته التي عاش بها السنوات الأربعين الأخيرة، مزارًا يقصده العديد من الزوّار والباحثين والمهتمين بالفنّ وأُدرج منزله على لائحة أجمل وجهات أوروبا.
حيث تعد حديقة مونيه في جيفرني، في نورماندي شمال فرنسا، مصدر إلهام للانطباعيّة، ومع تعالي شدة الحرب العالمية الأولى، وهروب العديد من السكان، بقي مونيه مكانه مع لوحاته مع قربه من مواقع القتال، مما جعل العديد من المؤرخين يصفون تجربته الفنية في تلك الفترة بأنّها وسيلة لتخطي مشهد الحرب الذي كان يحيط في الأرجاء من
حوله، كان انشغاله بحديقته ـ وتنسيقها، وتزيينها بألوان متنوعة من الزهور ، رسالةً للبحث عن السلام والرغبة الملحة برؤية الجانب المشرق للحياة، كانت له محطات ومواقف من النزاع مع جيرانه من المزارعين بسبب التغييرات والتوسعات التي كان يجريها في حديقته، كما أنّه وهب اللوحات إلى الدولة إسهامًا منه في استعادة روح السلام.
مونيه، كان يخشى العتمة ويخاف منها، إلا أنه عانى من إعتام عدسة العين عند تقدمه بالعمر، وهو ما انعكس على اختياراته اللونيّة في أعماله الأخيرة.
تكتبه: د. خلود البقمي األستاذ المساعد بكلية التصاميم والفنون - جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن