العرَّاب: كيف ابتكر أحمد خالد توفيق خيالًا عربيًّا جديدًا؟
رجل لا حدود لخياله، عاش غالبًا في عالمه الخاصّ بطرق متعدّدة، المليء بالممكنات والمستحيلات. عمل فنّي بديع يحتفي بأحمد خالد توفيق، الكاتب الرائد في أدب الرعب والخيال العلمي والفانتازيا والتشويق الطبّي في العالم العربي. العمل الفنّي: Midjourney بالتعاون مع ريم الغزال.
في تسعينيات القرن الماضي، تحوّلت حافة السرير تحت ضوء مصباحٍ خافت إلى مختبرٍ لخيالٍ علمي ورعبٍ جديد. جيلٌ كامل من المراهقين كان يختم يومه برحلة إلى عوالم غريبة بقيادة الدكتور رفعت إسماعيل؛ بطل سلسلة «ما وراء الطبيعة»، وهو طبيب أمراض دم متقاعد، مريض، قليل الثقة بنفسه، لكنّه يُجبَر دائمًا على مواجهة كائنات أسطورية مرعبة. أصبحت هذه السلسلة البسيطة، زهيدة الثمن، بوابة لعوالم خيالية جديدة على القارئ العربي.
بعد سنوات طويلة يتذكّر قارئٌ تلك اللحظات قائلًا: «كأنّها كانت تذاكر مقطوعة لأفلام تُعرض في خيالي فقط».
أحمد خالد توفيق (1962–2018)، الطبيب المصري الهادئ، هو مَن صنع هذه العوالم، وغيَّر علاقة الشباب العربي بالقراءة، وأثار تساؤلًا: كيف استطاع كاتبٌ واحدٌ بناء عالم عربي متخيَّل أسر جيلًا بأكمله؟
في الحقيقة لم يظهر توفيق من الفراغ؛ كانت هناك محاولات سابقة في الأدب العربي. ففي منتصف القرن الماضي قدَّم توفيق الحكيم مسرحية «رحلة إلى الغد» (1958)، كما أصدر الكاتب المصري نهاد شريف (1932–2011) روايات شهيرة مثل «قاهر الزمن» و«الشيء» و«تحت المجهر»، حتى لُقّب بعميد الخيال العلمي العربي. لكن منذ السبعينيات توقّف تقريبًا إنتاج هذا النوع الأدبي، وظلّت الأعمال التي تتناول الخيال العلمي المستقبلي نادرة جدًّا، إلى أن ظهرت المؤسّسة العربية الحديثة التي قدّمت نبيل فاروق بسلسلته الشهيرة «رجل المستحيل»، والتي تلتها سلسلة الخيال العلمي «ملفّ المستقبل».
خلال العقد الأخير فقط بدأ الاهتمام الأكاديمي بالخيال العلمي العربي المهمل، فتأسَّست «الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي» عام 2012، لإعادة إحياء هذا اللون الأدبي.
في هذا السياق ظهر أحمد خالد توفيق في أوائل التسعينيات مع «المؤسّسة العربية الحديثة»، وأصدر عام 1993 العدد الأول من سلسلة «ما وراء الطبيعة» التي حقّقت نجاحًا واسعًا، ثمّ أتبعها بسلسلتي «سفاري» التي تجمع المغامرة بالعلوم الطبية، و«فانتازيا»، ثمّ روايته الشهيرة «يوتوبيا» عام 2007 و التي حقّقت نجاحًا نقديًّا وتجاريًّا كبيرًا.
امتلك توفيق رؤية فكرية خاصة في بناء عوالمه المتخيلة؛ مزج فيها منهجية العلم بفتنة الأسطورة، وجمع النقيضين في حبكة واحدة. في سلسلة «ما وراء الطبيعة»، يواجه الدكتور رفعت إسماعيل مصّاصي الدماء والمستذئبين وأساطير إغريقية وتبتية، لكن بعقلية العالم المتشكّك.
في قصصه يأخذنا إلى كهوف طاسيلي الغامضة في الجزائر، أو إسكتلندا مع وحش لوخ نيس، أو إلى معملٍ طبّي في إفريقيا لشرح وباء الإيبولا ، وذبابة تسي تسي. هذا التوظيف للمعرفة العلمية في قالبٍ خارقٍ كان ميزةً خاصة به؛ فقد أضاف لأدب التشويق عمقًا يتجاوز التسلية.
توفيق ظلّ دائمًا على الحافة بين المعقول والخارق، لا يستسلم تمامًا للفانتازيا، ولا يغلق باب الغموض بالكامل، بل يُبقي قارئه معلّقًا بين التفسير العلمي والأسطوري.
انعكست هذه المقاربة في أبطاله أيضًا؛ فرفعت إسماعيل هو البطل المضاد تمامًا، بعيدٌ عن صورة البطل الخارق التقليدي، مجرد عجوز نحيل قليل الحيلة ينجو بفضل الحظّ. بسخريته وعيوبه البشرية بدا رفعت قريبًا من القراء؛ أحببناه فقط لأنّه يشبهنا. لم نتمنَّ أن نصبح مثله، لأنّنا بالفعل مثله. رفعت يمثّلنا بسبب ضعفه، وبقدرته على الانتقام بالسخرية لا القوة الجسدية.

تصوّر فني للدكتور رفعت إسماعيل، يقدّمه الذكاء الاصطناعي برؤية مبتكرة، بطل عوالم الغموض والظواهر الماورائية في سلسلة (ما وراء الطبيعة) لأحمد خالد توفيق، تقديم "استوديو مدار" باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
عوالم توفيق المتخيَّلة لم تكن هروبًا من الواقع، بل مرآة له. في ذروة مشواره كتب روايات عالجت قضايا المجتمع: «يوتوبيا» (2008) رسمت كابوسًا مستقبليًّا عن مصر عام 2023 وانقسام طبقاتها، و«شآبيب» (2018) تخيّلت وطنًا بديلًا للعرب المهاجرين.
توفيق لم يكن مجرد روائي، بل ظاهرة ثقافية صنعت جيلًا من القراء والكتّاب. لُقّب بـ«العرّاب» لأسماء لامعة مثل أحمد مراد وحسن الجندي. وألهم كتَّابًا عربًا مثل السعودييْن إبراهيم عباس، وياسر بهجت مؤلّفي رواية «حوجن»، التي تحوّلت إلى فيلم عام 2023، كذلك المصرية شيرين هنائي في سلسلة «لاشين».

مشهد متخيل من رواية يوتوبيا. تقديم "استوديو مدار"، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
عام 2020، امتدّ تأثير توفيق إلى الشاشة، حين أنتجت شبكة نتفليكس «ما وراء الطبيعة» كأول مسلسل أصلي لها باللهجة المصرية، ليُعرَض في 190 دولة، بـ 32 لغة ترجمة، و9 لغات دبلجة، ما حوّل هذا الأدب إلى جزء من القوة الناعمة العربية. في الوقت نفسه تُرجمت روايته «يوتوبيا»، ودُرِّست في جامعات مصرية وعالمية، ما أكّد مكانة الأدب الشعبي كأداة ثقافية مهمّة.
برحيل توفيق لم يترك مجرد روايات، بل أسلوب حكي، وفكرًا جديدًا ألهم آلاف الشباب. وعلى قبره كُتبت عبارته الشهيرة التي أوصى بها: «جعلتُ الشباب يقرؤون»، شهادةً حيّة على أثره الاستثنائي.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن يتحول إرث توفيق إلى تيارٍ ثقافي منظّم، أم ستظلّ عوالمه مجرد جزرٍ منعزلة تستمدّ قيمتها من ريادته فقط؟ الإجابة معلّقة بقدرة الأجيال القادمة على استلهام «العرَّاب»، وإكمال الطريق.
*أحمد الفخراني: روائي وصحفي مصري، فاز بجائزة ساويرس عن روايته «بياصة الشوام»، ووصلت روايته «بار ليالينا» للقائمة الطويلة لجائزة البوكر، ويشغل حاليًّا منصب مدير تحرير برامج الديجيتال في «العربي تيوب».


