نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

الخيال أداتنا لاكتشاف المجهول
تأملات

الخيال أداتنا لاكتشاف المجهول

الخيال أداتنا لاكتشاف المجهول

ليوناردو دافينشي. بينما يمثّل الرسم دراسات لآليات شبيهة بالدبابات العسكرية، بما في ذلك واحدة في الأعلى تظهر خيولًا تجرّ آلة تحتوي على مجرفة دوّارة، ربما يكون مصدر إلهام بسيط لسفينة فضائية. التاريخ: 1485 (تقريبًا). بإذن من: المتحف البريطاني.
 

بقلم روان طلال
September 30th, 2025

نكتشف العالم بفطرةٍ تدفعنا لرؤية ما لا يُرى، وتخيّل ما لم يوجد بعد، وتبدأ الشرارة الأولى من سؤال بسيط: "ماذا لو؟". الخيال في جوهره مرآة الواقع الخفية، وإنْ بدا للوهلة الأولى منفصلًا عنه، أو وسيلة للهروب منه، فهو ما يمنح الإنسان القدرة على عبور حدود المعرفة المألوفة في العلم والفنّ، أو حتى في تفاصيل الحياة اليومية. أداةٌ لاكتشاف المجهول، وإعادة تعريف المعلوم، ووسيلة لطرح ما لا يمكن إثباته حتى الآن.

 

في العلم لم تكن أهمّ النظريات والاكتشافات الكبرى سوى رؤى متخيّلة، إلى أنْ أثبتتها الأرقام والمعادلات والتجارب. لم نكتفِ يومًا بما هو كائن، بل حاولنا تصوّر ما يمكن أنْ يكون، وفي خيالنا رسمنا نماذج للكون قبل أنْ نبحث عن أدلّة تثبتها. إنّ نظريات مثل الجاذبية والنسبية والذرية والكمّية وغيرها، والتي غيّرت فهمنا للعالم، لم تكن أكثر من فكرة متخيّلة في البداية. في واحدة من أولى محاولات الطيران في التاريخ، لم يرَ عباس بن فرناس الطيران واقعًا، لكنّه تخيّله، فحاول محاكاة الطيور بأجنحة صنعها بيديه. ومهّد الحسن بن الهيثم لاختراع ما لم يتخيّله "الكاميرا"! بعد أنْ وصل إلى تصوّرٍ لقوانين الضوء وانتقالاته. أمّا ليوناردو دافنشي فامتزج لديه الواقع بالخيال، وفي أحد رسوماته التي تعود إلى عام 1485 نرى دراسة لأشكالٍ تُشبه الآلات الحربية، عربات مزوّدة بشفرات دوارة تجرّها الخيول! بلغة اليوم يُشير تكوينها إلى رؤية أولية إلى سفينة فضائية، غير أنّها صُمّمت في عصر النهضة لأغراضٍ عسكرية، فهل هناك حدّ -حقيقي- فاصل بين الواقع والخيال؟ 

بفعل الخيال والمحاولات الجادة، أوجد الإنسان الطائرات، وعبَر البحار، ووصل إلى الفضاء.

 

وفي التقنية بدأ الذكاء الاصطناعي من فكرة مجنونة: تخيّل أنّ هناك آلات تفكّر وتتصرّف مثل البشر! تداخلت العلوم الأساسية في نشوء هذه الفكرة وتطوّرها، وأضاف كلّ منها ركيزة معرفية أو تقنية أسهمت في ظهورها بالصورة التي نعرفها اليوم.. ما بين الفلسفة، والرياضيات، وعلوم الحاسب، وعلم الأعصاب، وعلم النفس المعرفي، واللسانيات، أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم واقعًا يتداخل مع تفاصيل يومنا.

 

أمّا في الفن فالخيال ليس إلّا جوهره، محاولة لفهم ما لا نراه، لكنّنا نشعر به، بالتالي توثيقه، وطريقة لإعادة فهم الحياة من منظورٍ أوسع، فالرسام ينقل المشهد كما يشعر به لا كما يراه، والمصوّر يلتقط اللحظة التي يحلم بها، والكاتب يعيد خلق عوالم جديدة، والموسيقي يسمع نغمات لم تُعزف بعد، والنحات يرى أشكالًا مختبئة داخل كتلة من الحجر. الفنّ، في صُلبه، تمرينٌ يومي على استكشاف الممكن، وإعادة اكتشاف المألوف عبر الخيال.

 

وفي الحياة اليومية نركض في مساراتها متخيّلين سيناريوهات لم تحدث بعد، ومتجاوزين حدود الظروف الآنية. الخيال هو الدافع الذي لا ينضب، ولا يقلّ، والمحرّك في القرارات البسيطة، وهو مثل كلّ ثمين، لا ينبت من فراغ، بل ينمو في بيئات تحتضنه، وتؤمن بحرّيته وأهمّيته، وتسمح له بالتمدّد والتجريب، وتحتفي به شعلة تسبق كلّ إنجاز
 

إعادة تعيين الألوان