نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

"المخيّلة".. يا بلاد الأبد!
ضيف العامود

"المخيّلة".. يا بلاد الأبد!

"المخيّلة".. يا بلاد الأبد!

المخلوقات العجيبة: معرض حكايات الحيوان في العالم الإسلامي. حقوق النشر لمتحف الفن الإسلامي / متاحف قطر، الدوحة. الصور بوساطة مارك بيليترو.

بقلم عبد الله ثابت
September 30th, 2025

لعلّ أول ما يدفع إلى الانجذاب للأساطير هي تلك الذكريات الصغيرة الكبيرة في الطفولة. في نشأتي كنت أسمع كلام الأمّهات والجدّات عن ذلك الفلان الذي يكتب، ذلك الفلان الذي معه كتاب، ويمكنه فعل أشياء لا يمكن لأحد سواه فعلها، وقد كانت هذه فكرتهم عن القوى الخفيّة. ذهبت مخيلتي مباشرة إلى الكتب واللغة بوصفها المادي، فكنت أتلصّص على مكتبة أخي في غيابه، أفتّش عن تلك القوة الخارقة، وأتخيّل أنّني أجدها، في حين لا ألمس شيئًا منها. أكبر، وأقرأ، وأبحث في مسيرة طويلة، ثمّ أنجذب للأساطير مجدّدًا بوصفها المعين "الذي لا ينضب"، كما يصف نيكولاس فريدة، ولا يمكنك توصيفها بغير أنّها تشرع المداخل لفهم الرأس البشري، وتفاعلاته الخلاقة مع الطبيعة والظواهر، الحياة والمجتمع.

 

مرسيا إلياد عرّف الأسطورة بأنّها "تفسير أو قصة رمزية تروي حادثة غريبة، أو خارقة للطبيعة، توجد في ثقافة فرعية، وتتميّز بتناقلها وانتشارها على نطاق واسع، وتأثيرها العميق نتيجة ما تنطوي عليه من حكمة وفلسفة وإثارة وإلهام".  تتحرّك في نطاق خاص من التجربة البشرية، تتقاطع مع الخراقة والحكاية الشعبية، لكنّها تتمتّع بنفوذ قدسي، أي ذاك العالم البديع، العالم الذي اسمه الخيال!


منذ خمس سنوات خضت تجربة الكتابة لصالح التلفزيون السعودي، في برنامج من فكرتي وكتابتي، اسمه "ناس لوجيا"، كان موسمه الأول عن الأساطير والحكايات الشعبية في مختلف جهات المملكة ومناطقها، ولا يمكنني وصف ما كنت أمرّ به في هذه الرحلة من منطقة لمنطقة، ومحاولات الاقتراب من الأثر وامتداداته الخفية، عبر مئات السنين، إلى البشر اليوم؛ من عالم الجنّ، إلى عالم الأهازيج، الصخور، الألبسة، الطعام، الحبّ، الحيوانات، الزمن، التضاريس، البيوت، الموت، الخوف، الأمل، الأحزان، الخيبات، الانتصار، الحياة بأسرها، وكلّ ما يتصل بها، حياة الإنسان الذي خلق في خيالاته عبر كلّ تفصيل من حياته عالمًا آخر، وطالما ساعده هذا العالم المتخيّل على الاستمرار والصمود، البقاء والتقدّم والحلم، بكلّ ما يتشكّل منه، من الأخلاق والقيم وصفات وسمات عرب الجزيرة عامة، بصدقهم وسخائهم وإقدامهم، بطابعهم الإنساني العالمي بالتأكيد.
 

المخلوقات العجيبة: معرض حكايات الحيوان في العالم الإسلامي. حقوق النشر لمتحف الفن الإسلامي / متاحف قطر، الدوحة. الصور بوساطة مارك بيليترو.

ستجد أثرًا لحواء وصفاتها وأثرها ومصيرها في خطاب المرأة، الجبة التي غدت مهرجانًا للنسيج، النمر العربي الذي يوشك على الانقراض، والذي كان جزءًا من العائلة، الجنيات والشعر، الصحراء والوديان والصخور، البحر والسواحل، وأعالي الجبال!

 

في السياق السعودي كانت المخيلة الأسطورية حديث الأوائل. جمع الأديب السعودي عبد الكريم الجهيمان – مثلًا - 136 أسطورة وحكاية شعبية سعودية في كتابه "أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب" في خمسة أجزاء، والكثير الكثير في كتب وحكايات ومرويات أخرى. 

اللافت للانتباه أنّ هذه المخيلة لم ترفع سقف اللغة والحلم فحسب؛ بل أنسنت الجغرافيا بأدقّ تضاريسها. هذه الأساطير ربطت الإنسان وذاكرته وأقصى ما يذهب إليه في رأسه بالمكان، من الحصى إلى المرجان، ومن النخيل إلى البراري، وبالأرض والإنسان وما حوله، كلّ هذا الذي اسمه؛ الوطن، بلاد الأبد.

السعلاة، رحى الهلالي، حمارة القايلة، أم السعف والليف، أجا وسلمى النمر العربي، آبار جنيات الشعر، جبة اليتيم، خنجر برقان، ذي عين، كهوف الانتقال في الزمن... إلخ، ومئات الأساطير في عموم مناطق المملكة العربية السعودية، ما زالت يحضر مخيالها العميق في الشفهي والكتابي، في الغائر والبسيط، من سلوك الناس ولغتهم واعتقاداتهم وطباعهم، وهذه المناطق في حالتها الخام للبحث الأنثروبولوجي الذي ما يزال متوانيًا!

 

الكثير من الاستخدامات الفطرية الذكية للخيال تعكس فهمًا عميقًا لطبيعة الإنسان وحاجته إلى ابتكار عوالم تتجاوز عالمه. هكذا استطاع الخيال الشعبي تحويل الظواهر الطبيعية، والأخطار البيئية إلى شخصيات حية ومؤثّرة، تلتصق بالشعر والقدرات والقوة، تنتمي إلى القصّ، إلى سرد العالم من منظوره الخاص!

بطريقة أخرى ما زلت الذي يذهب ليس للكتب فحسب، بل للحياة والناس، أفتّش عن تلك القوة الخارقة "الخيال" والأسطورة، ويدهشني أثرها.. فِعلها!
 

إعادة تعيين الألوان