بصمة فريدة في الصحراء: قصة مبنى إثراء
تصوّر لتصميم إثراء في مراحله الأولى، الصورة بإذن من سنوهيتا.
لكلّ مَن يعيش في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية أو يزورها، يبرز مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي بوصفه معلمًا معماريًّا وثقافيًّا متفردًا، بفضل تصميمه اللافت بارتفاعه الشاهق وعرضه الرحب، وواجهاته المعدنية العاكسة، وأنابيبه الملتوية المدهشة —التي تحاكي أنابيب النفط باعتبارها شرايين الحياة في المملكة— يبدو هذا المبنى كأنّه مركبة فضائية "حطّت" في عام 2018. ومنذ ذلك الحين، وهو يرسّخ حضوره كمركز مؤثّرٍ ثقافيًّا وتعليميًّا ومجتمعيًّا، داخل حدوده المعمارية وخارجها.
أسّست أرامكو السعودية مركز إثراء – بمعنى "الكثرة والغنى" في المعاجم - كمبادرة ضمن مسؤولياتها الاجتماعية، ليعكس رؤية طموحة تخدم المجتمع، وتستثمر في الإنسان. كما يُعد مركز إثراء الوُجهة الثقافية والإبداعية الرائدة في المملكة، حيث يقدّم تجارب وفعاليات متعدّدة الثقافات، تترك أثرًا عميقًا في زواره والمبدعين على حدّ سواء.
وقد تمّ اختيار التصميم المعماري للمركز من خلال مسابقة دولية شاركت فيها مكاتب معمارية رائدة، من بينها مكتب المعمارية الراحلة زها حديد، إلى أن رسى الاختيار في النهاية على التصميم المقدّم من المكتب النرويجي الشهير "سنوهيتا" الذي استغرق إنجازه لاحقًا أكثر من عقد، ويُعتبر تجسيدًا معماريًّا بارزًا عن الوحدة، حيث صُمّم كمجموعة متداخلة من الأحجار، استُلهمت من الخصائص الجيولوجية للمكان.

نصبٌ متخيل: تصور لتصميم مركز إثراء في مراحله الأولى، الصورة بإذن من سنوهيتا.
إنّ هذا الصرح يتميز بملامح معمارية جريئة، كما يجسّد حوارًا متكاملًا مع الزمن؛ فبرجه المرتفع يشير إلى تطلعات المستقبل، بينما تنبض فضاءاته الأرضية بنبض الحاضر، وتحتضن أجزاؤه السفلية ذاكرة الماضي. إذ يشكّل هذا المعلم تحفة معمارية تمزج بين الرمز والابتكار في توازن فريد يجمع بين الرؤية المستقبلية، والارتباط بجذور التاريخ.
تشرّفت مجلة إثرائيات بلقاء السيدة إيلي سينيفوغ، إحدى المهندسات المعماريات الأصليات في فريق تصميم مركز إثراء، وتشغل حاليًّا منصب مديرة تطوير الأعمال والاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا لدى شركة سنوهيتا، إضافة إلى كونها مهندسة معمارية أولى معتمدة لدى الرابطة النرويجية للمعماريين (MNAL)، وذلك خلال زيارتها الثانية للمركز منذ افتتاحه.

السيدة إيلي سينيفوغ، مديرة تطوير الأعمال والاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، والمهندسة المعمارية الأولى (MNAL)، تعيد التواصل بجدار "التراب المدكوك" في مركز إثراء. تصوير: ريم الغزال.
قالت في لقائها مع اثرائيات: "كان التصميم مُبتكرًا كسراب في الصحراء — كتعبير معماري جريء يحمل في طياته القدرة على تجسيد الرؤية الثقافية، ودفعها نحو برنامج متكامل."
لديها ولَع خاص بالقاعة الواسعة وساحة مركز إثراء، إضافة إلى جدار "التراب المدكوك" —ذلك الجدار الذي استخدمت في بنائه تقنية تقليدية تجمع بين التراب الطبيعي غير المعالج بالإسمنت، والحصى والطين، ثمّ يُروى بالماء ويُضغط ليشكّل هيكلًا متينًا. تقول: "كنت على صلة وثيقة بهذه المناطق، وشعرت بارتباط قوي معها خلال كامل عملية التصميم."
إنّ تصميم مشروع بهذا الحجم من الأهمّية يتطلّب الصبر والخيال والمثابرة، ومن خلال حديث إيلي نستطيع التعرّف بشكل أدقّ على تفاصيل بناء مركز إثراء.

الصخور التي كانت مصدر إلهام لبناء مركز إثراء، بحسب ما صرّحت به السيدة إيلي سينيفوغ: "استلهمنا الفكرة من الطبيعة الجيولوجية في السعودية، لا سيما التكوينات الصخرية الملساء التي نحتتها الرياح في صحراء الظهران".
امتدّ تنفيذ المشروع لما يقترب من عشر سنوات، وجاء نتيجة تعاون وثيق بين فريق متعدّد التخصّصات من شركة سنوهيتا، إلى جانب عدد من الشركاء المحليين والإقليميين والمهنيين المتخصّصين. بدأت المرحلة الأولى من المشروع، والمتمثلة في مسابقة التصميم، بمشاركة نحو سبعة معماريين. ومع تطور المشروع، نما الفريق ليضمّ أكثر من 60 معماريًّا في مراحله النهائية. كما تعاونّا مع مهندسين وخبراء من مختلف أنحاء العالم، ما أتاح توظيف شبكة دولية واسعة من الكفاءات لتحويل الرؤية إلى واقع ملموس.

رسم تخطيطي لقصة إثراء - بإذن من سنوهيتا.
في بداية المسابقة خضنا العديد من النقاشات العميقة التي جاءت من منطلق فهمنا الأساسي بأنّ الثقافة هي جوهر هذا المشروع الطموح، ومن خلال هذه النقاشات صغنا مفهومًا يجسّد الوحدة والتنوع والترابط المتبادل في آنٍ واحد.
وجاءت فكرة هذا العمل مستلهمة من الجيولوجيا الطبيعية في جبال السعودية، وبخاصة التكوينات الصخرية الناعمة التي نحتتها الرياح في صحراء الظهران. منذ البداية اعتبرنا هذه الأشكال الطبيعية رمزًا قويًّا لتراكم الثقافة عبر الزمن. يُجسّد مركز "إثراء" في جوهره قصة تحول؛ تنبع من البيئة الطبيعية، وتتشكّل بفعل الزمن، وتندفع نحو المستقبل بقوة الزخم الثقافي المشترك.
وكما هو الحال في القوس الروماني الذي تعتمد متانته على حجر الأساس، جاءت الصخور في التصميم وكأنّها حصى معلّقة في الزمن—تُعبّر عن فكرة أنّ الثقافة لا تنمو من جهود فردية منعزلة، بل تتكوّن من شبكة مترابطة من الأفكار والتخصّصات التي تتكامل، وتدعم بعضها بعضًا. وقد صُمّم كلّ "صخر" ليحتضن وظيفة ثقافية محدّدة—مثل المكتبة، المسرح، المتحف، قاعة السينما، وقاعة المعارض—لتتضافر هذه المكونات وتشكّل معًا منظومة ثقافية موحّدة. ويعكس الشكل القوسي للتكوين المعماري مبدأ الترابط المتبادل والتكامل الثقافي.
ينعكس هذا المفهوم أيضًا على الخطّ الزمني الذي يتجلّى ضمن الهيكل المعماري للمبنى؛ إذ ترتكز بعض أجزائه عميقًا في الصخور، في رمز واضح للماضي والجذور التاريخية، بينما ترتفع أجزاء أخرى نحو السماء، إشارة إلى الطموح والتطلّع إلى المستقبل. يؤكّد هذا الأسلوب المعماري المتدرج على أنّ الثقافة المعاصرة يجب أن تنبع من التاريخ لتسهم في رسم ملامح المستقبل.
فمن حيث الشكل والمضمون، يستلهم التصميم عراقة الماضي، في الوقت الذي يوجّه فيه نظره بثقة نحو الغد، ليخلق تفاعلًا حيًّا وقويًّا بين الإرث الثقافي، والابتكار الحديث.

الساحة الواسعة والعوارض الخشبية الملتفة: رؤية بصرية لتصميم مركز إثراء في بداياته الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.
كان التصميم الأولي يتضمّن حلًّا معماريًّا مختلفًا، ولكن مع تطور المساحات المحيطة بما أطلقنا عليه اسم "المصدر"، قرّرنا تبسيط هيكل الإطار المحيط بهذه المساحة المركزية، ما أدّى إلى اعتماد العوارض الخشبية الملتفّة التي أصبحت عنصرًا مميزًا يضفي على المكان طابعًا فريدًا وحيويًّا.
تمّ تصميم العناصر الخشبية الملتفة كاستجابة مادّية ومعنوية للطابع الصلب والمكثف للكتلة المعمارية الخارجية التي تتكوّن من الفولاذ والأحجار ذات الطابع الجيولوجي. تهدف هذه العناصر إلى إدخال لغة معمارية دافئة تعزّز الحسّ الإنساني داخل الفضاء، من خلال استحضار قيم الحرفة، والحركة، والمقياس البشري. بينما يعبّر التصميم الخارجي عن الثبات والاستمرارية الزمنية، فإنّ هذه التركيبات الخشبية توفّر تصميمًا داخليًّا متوازيًا بصريًّا ووظيفيًّا، وتستحضر بشكل رمزي هيئة بدن السفينة، بما يحيل إلى مفاهيم الترحال والاكتشاف وبناء المعرفة—وهي مفاهيم مركزية في برنامج إثراء الثقافي.
من الناحية التقنية، لم يتمّ تنفيذ هذه العناصر عبر الانحناء التقليدي للأخشاب بعد تصنيعها، بل من خلال تقنية الخشب الرقائقي المُشكّل (Glulam)، والتي تعتمد على لصق طبقات خشبية رقيقة ضمن قوالب مصمّمة رقميًّا، ما يتيح التحكّم الكامل في تحقيق أشكال منحنية معقّدة وديناميكية دون التأثير في السلامة الإنشائية.
تمّ تطوير هذه الأشكال أولًا ضمن بيئة رقمية ثلاثية الأبعاد باستخدام نماذج حاسوبية دقيقة، ثمّ صُنعت خارج الموقع باستخدام معدّات تصنيع متخصّصة، قبل أن تُركّب في الموقع النهائي وفق تسلسل إنشائي محكم يضمن التكامل التامّ بين الشكل والوظيفة. والنتيجة هي تكوين نحتي متماسك يعكس التقاء التصميم المعماري بالهندسة الدقيقة والحرفية العالية.
من خلال اعتماد التفاف طفيف في الكتلة، تمكنّا من الارتقاء بتجربة الفضاء المعماري، مع تحقيق تحسين ملموس في اعتماد تصميم واضح ذي كفاءة إنشائية.

هيكل من أنابيب الفولاذ المقاوم للصدأ، تصوّر أولي لتصميم مركز إثراء، بإذن من سنوهيتا.
أجرينا نقاشات طويلة حول تصميم الواجهة، وكيفية تغليف المبنى بشكل متناسق، على هيئة تشبه "الأحجار". وخلال هذه العملية، استعرضنا عدّة خيارات للموادّ، مثل الحجر الطبيعي والألواح الخرسانية، إلّا أنّ رغبتنا في إيجاد حلّ أكثر انسجامًا مع الطبيعة، وأكثر قدرة على التعبير البصري، قادتنا إلى تطوير فكرة مستوحاة من نمط بصمة الإصبع، حيث تنبع الخطوط من مركز محدّد، وتمتدّ خارجه، في حركة شعاعية تُجسّد الانسيابية والتكامل العضوي للشكل المعماري.
نتج عن هذا التوجّه اعتماد نظام تغليف مبتكر يعتمد على أنابيب فولاذية تلتفّ حول الكتل المعمارية بطريقة تشبه خطوط الارتفاع الطبوغرافي. هذه الأنابيب تشكّل غلافًا نحتيًّا يغطي جدارًا إنشائيًّا تقليديًّا مقاومًا للعوامل الجوية، ما يمنح المبنى مظهرًا بصريًّا مميزًا مع الحفاظ على الكفاءة التقنية والوظيفية للواجهة.
قد يبدو اختيار تغليف المبنى بالفولاذ المقاوم للصدأ في مناخ الظهران الحار والمشمس أمرًا غير متوقّع للوهلة الأولى، غير أنّ هذا القرار كان مدروسًا بعناية حيث تمّ الجمع بين الاعتبارات الجمالية والرمزية من جهة، وبين الكفاءة الهندسية والمتانة الطويلة الأمد من جهة أخرى، ما جعله حلًّا متوازنًا يجمع بين الشكل والوظيفة.
على الرغم من أنّ المعدن يمتصّ الحرارة بسرعة، فإنّ التصميم الأنبوبي للكسوة يسهم بشكل فعّال في تقليل كسب الحرارة الشمسية، إذ تُركت الأنابيب بعيدًا عن الغلاف الخارجي للمبنى، ما يخلق واجهة مهوّاة تسمح بتدفّق الهواء بين الكسوة والهيكل، وهذا يساعد في تبديد الحرارة وتقليل تأثير أشعّة الشمس المباشرة في المبنى.
يُعرف الفولاذ المقاوم للصدأ بمقاومته العالية للتآكل، وهو أمر بالغ الأهمّية في البيئة الساحلية المالحة والرطبة بمدينة الظهران. بخلاف الموادّ المطلية أو المسامية، يتمتّع الفولاذ المقاوم للصدأ بقدرة على تحمّل التعرّض الطويل لعقود دون أن يتأثّر لونه، أو يتعرّض للتلف، ما يقلّل من متطلبات الصيانة على المدى الطويل.
ولقد تمّ تصنيع أنابيب الفولاذ المصقول بشكل مخصّص وتركيبها بدقة متناهية بواسطة شركة هندسية ألمانية مختارة لخبرتها الواسعة في تنفيذ أنظمة الكسوة المعقدة.

إثراء على جدار مكتب سنوهيتا في أوسلو. تصوير نورة الحارثي، يونيو 2025.
حين أنظر إلى مركز "إثراء" اليوم، لا أراه مجرد بناءٍ قائم، بل أرى رمزًا حيويًّا للحراك الثقافي والتنوع الاجتماعي. إنّ مركز "إثراء" يتجاوز كونه مشروعًا معماريًّا ليصبح منظومة حيّة من المعرفة والفنون والمجتمع. إنّه فضاء ثقافي متكامل، يعجّ بالفعاليات والبرامج المتنوعة، ويصنع تأثيرًا يتجاوز حدود مكانه، ليكون منارة للإبداع والتواصل بين الثقافات.
كُنّا نهدف إلى أن يكون مركز "إثراء" بمثابة منارة للمستقبل، المكان النابض بالابتكار والتغيير، والمتجذّر في عمق المناظر الطبيعية القديمة. في الوقت نفسه يحمل المبنى في جوهره ارتباطًا وثيقًا بالأرض، مستمدًّا جذوره من جيولوجيا المنطقة وتراثها الثقافي وتاريخها. لذا، وعلى الرغم من أنّ شكله الخارجي يشبه مركبة فضائية، فإنّه في الواقع جسر يربط بين الماضي والمستقبل، ناشرًا المعرفة والثقافة والإبداع إلى الأجيال القادمة. بهذا المعنى، فإنّ تشبيهه (بالمركبة الفضائية) إطراء رائع.
نعبّر عن امتناننا للسيدة إيلي على رؤاها القيمة وإبرازها جانبًا جديدًا من قصة إثراء، بينما يواصل هذا المركز نموه وتطوره كمبنى وفكرة ومشروع، لتستمرّ قصته في التألق والتأثير، مع ترك بصمة دائمة على كلّ مَن يتفاعل معه، ويزوره.
اكتشفوا المزيد من تصاميم مجموعة إثراء، واستمتعوا بها:

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

مخطّط نموذجي: تصور لتصميم إثراء في مراحله الأولى. بإذن من سنوهيتا.

رسم تخطيطي لقصة إثراء. بإذن من سنوهيتا.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

نموذج لتصميم الواجهة الخارجية لإثراء في مكتب سنوهيتا بأوسلو. تصوير نورة الحارثي، يونيو 2025.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.

تصوّر تصميم إثراء في مراحله الأولى. الصورة بإذن من سنوهيتا.


