نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

صور التخيّل في ألعاب الفيديو
ضيف العامود

صور التخيّل في ألعاب الفيديو

صور التخيّل في ألعاب الفيديو

الخيال المرح: منذ إصدار لعبة "أسطورة زيلدا: رابط إلى الماضي" عام 1991 من قبل نينتندو، استمتع اللاعبون بتجربة جمعت بين المتعة والمغامرة والدهشة - هنا "لينك" يتمكّن من إزعاج الدجاج أو ما يُعرف بـ "الكوكو"! ومنذ انطلاق السلسلة الأولى عام 1986، واصلت زيلدا تطورها الكبير، موسّعة آفاق عالم الخيال، حتى باتت على مشارف الاحتفال بذكراها الأربعين، مستقطبة مع كل إصدار جديد جيلًا آخر من المعجبين. الصورة بإذن من UML Connector.

بقلم عبد السلام عمر
September 30th, 2025

تتجاوز المخيلة في ألعاب الفيديو التأطير المجحف بأنّها مجرد محاولة هروب من الواقع، ففي العوالم الثرية لألعاب الفيديو يفصح الخيال عن نفسه كعنصر أساسي ضمن عناصر أخرى، ويشكّل جزءًا مهمًّا من العملية التجريبية لخوض القصة والمغامرة كما يريد صانعوها. تستفيد ألعاب الفيديو من الذاكرة البشرية في كسر حدود مكوناتها بشكل فريد، حيث يتماهى الواقع مع الخيال في أوقات متعدّدة، من خلال مناظر العوالم المتشابكة والمثيرة للذكريات، أو القرارات المشحونة عاطفيًّا، أو في إعادة خلق الروايات الأسطورية المتجذّرة في العمق الثقافي للإنسان، فهذه العوالم ليست بالصور الجامدة والباردة، لكنّها أيضًا لوحات تدعو اللاعبين إلى نسج القصص، وتكوين المعالم، والبحث عن المفقود، وقد لا تكتفي ألعاب الفيديو بالترفيه أحيانًا، بل تثير استجابات معرفية وعاطفية وارتباطات عميقة، ويتحول الفعل الأساسي للألعاب إلى استكشاف مؤثّر للوعي والإبداع البشري.

ذاكرة الأثر، أسطورة زيلدا، نفس البرية أنموذجًا

 

عند الغوص العميق في تأثير المكان، نجد أحيانًا أنّ هناك تجاوزات تتخطّى التمثيل الجغرافي للعوالم، وأنّ خرائط العالم لا تشكّل الطريق فقط، بل تكوّن الذاكرة، ليصبح المكان أداة سرد عميقة لتاريخ غابر تتشابك فيه موضوعات اللعبة. 

منذ انطلاقتها الأولى عام 1986، واصلت سلسلة ألعاب زيلدا تطورها المستمر، كاشفة عن عوالم خيالية متجددة، ومع اقترابها من الاحتفال بذكراها الأربعين، ما تزال تجذب في كل محطة جيلًا جديدًا من المعجبين. وتعد أسطورة زيلدا: نفس البرية (Breath of the Wild) الصادرة عام 2017، محطة فارقة وتحفة مميزة في هذا المجال، فهي تبرز كمثال على تخطّي العوالم للتأثير البصري. تشكّل زيلدا مزيجًا فريدًا من عالم مصمّم بدقّة، يضمّ مناطق حيوية، كلّ منها له نظامه البيئي الخاص، وأنماطه المعمارية المختلفة، مشيرةً إلى التنوع الثقافي للسكان في عالم هايرول، كما يواجه اللاعبون بقايا الحضارات المندثرة، والرسائل المنسية التي توحي بتاريخ عميق الطبقات، وهذا المحفز يشكّل حفرًا في ذاكرة البشر للبحث عميقًا عن المنسي من التاريخ في عالم متخيّل بالكامل.

وبعيدًا عن زيلدا نجد أنّ ريد ديد ريدمشن استخدمت هذا النسق في سرد القصص وتحفيز الخيال لدى اللاعب، فاللعبة أيضًا استخدمت خرائط العالم كأداة قوية لسرد القصص معيدة الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر. تميَّز عالم اللعبة بالبيئات المتنوعة التي تتكامل مع تجربة الأفراد، وفي عالم منسوج بدقّة نجد ترابطًا بين المعالم التاريخية والأنماط المعمارية متيحةً للاعبين تخيّل الحياة بوضوح من خلال هذه الحقبة المحورية، وذلك عبر إعادة إحياء هذا التاريخ، والعيش في صراعاته وتحولاته المجتمعية. يساعد هذا النوع من العمق في العالم اللاعبين على إعادة التفكير في تأثيرات التقدّم البشري وتداعياته في الطبيعة والسكان الأصليين، بالتالي تشكّل جسرًا بين التخيّل الافتراضي، والوعي التاريخي عبر شكل من أشكال الترفيه.
 

حرّية السرد: الخيال كقوة تأليف

 

في الألعاب التي ترتكز على السرد، لا يقتصر الخيال على التلقّي المحض، بل يصبح محركًا للتأليف. في حالة سرد القصص التقليدية نجد عادة مسارًا واضحًا لتكوين القصة وتفريعاتها، لكن في (ذا ويتشر) على سبيل المثال نجد أنّ السردية تتشكّل وتتبدّل، في الوهلة الأولى نتصور أنّ القرار متعلّق بحالة لحظية لكلّ قصة ومرحلة من القصة، لكنّها في الحقيقة عندما يختار اللاعب نصًّا من النصوص المطروحة فهو يتخيّل بشكلٍ ما المستقبل.

هناك دراسة صدرت بعنوان : التحليل الفلسفي للاختيارات الأخلاقية في لعبة ذا ويتشر - A Philosophical Analysis of Moral Choices in the Game The Witcher 3: Wild Hunt توصّلت الدراسة إلى نتيجة مفادها أنّ العديد من الخيارات الأخلاقية في اللعبة تحفز التفكير الداخلي لدى الفرد، وتسبّب صراعًا محيرًا داخليًّا حيث يتعين الاختيار بين شرّ أقلّ أو أعظم، وتنوعت الصراعات الأخرى بين المصلحة الذاتية ومساعدة الآخرين، مع تقاطعات بين الأسرة والصداقة. وكشفت الدراسة ملاحظة أنّ الخيارات كلّها تتمحور حول المفاهيم الأخلاقية الأساسية، كأنْ تتاح بعض الخيارات للاعب موازنة عواقب أفعاله مع مبادئ مثل العدالة والرحمة. وتطرّقت الدراسة إلى التنوع الفريد في المعضلات الأخلاقية التي تواجه اللاعب مع التشديد على ثقل العواقب والقيم، وتأثيرها في العلاقات الشخصية، وهذا الجزء من التأثير الأخلاقي في العوالم المتخيلة وتشعباتها يجعلنا نثير نقاشًا حول الأخلاق والقيم في عالمنا الواقعي.

 

جيرالت من ريفيا يمتطي حصانه روتش متوجهًا نحو قلعة مهجورة، بينما يحلّق التنين فوقها في أفق عالم ويتشر الساحر والغامض. The Witcher 3: Wild Hunt بأذن Akash moish.
تشبه الألعاب الأسطورية المتاحف الشعبية؛ فهي تجمع السرد الميثولوجي داخل فضاءات اللعب كقصص بيئية، أو عبر أصوات شخصيات الأسطورة نفسها، ما يمكّن اللاعبين من الجمع بين الخيال والتاريخ معًا.
الأسطورة والعبور نحو المستقبل

عندما نعود إلى محور الخيال والقصة، نجد أنّ هناك تحولات ومحاولات عدّة لإعادة خلق القصص عبر الأسطورة المحكية، لكنّها بكلّ حالاتها ليست إلّا امتدادًا لمتخيّل عبَر كلّ الحدود التاريخية حتى وصل إلى هذا المكان تحديدًا، ففي بعض القصص نجد أنّ هناك اجتزاء وتركيزًا محدّدًا أو استكمالًا لقصص نعرفها بشكل مسبق، ما يجعل المخيال البشري جزءًا من الرهان الواضح للمطورين بما حجب وخفي من القصة.

جزء من هذه المحاولات نجحت بحفرها في ذاكرة البشر وتخيلاتهم في الزمان والمكان والشخوص، وخلقت تجارب فريدة تعيد الخيال البشري إلى ذاكرة الشعوب وثقافاتها، في لعبة مثل GOD OF WAR لا يلاحظ اللاعبون الأسطورة كجزء من التكوين، بل يعيشونها، ويتعمّقون في موضوعات معقّدة فيها مثل القدر والانتقام وغيرها من المواضيع التي تجلب معها رموزها الثقافية، ما يسمح للاعبين باستكشاف المعضلات الأخلاقية والمعتقدات والنماذج التاريخية، بالتالي تتحول اللعبة إلى ساحة تفكيكية للمفاهيم العابرة لكلّ هذا الزمن. 

توصّلت دراسة علمية صدرت عام 2024 بعنوان ألعاب الفيديو بصفتها متحفًا للميثولوجيا (Video Games as Mythology Museums? Mythographical Story Collections in Games)  إلى تحديد الأساليب التي انتهجتها بعض ألعاب الفيديو في خلق هذه الصلة العميقة، وكانت النتيجة ما أطلقت عليه الدراسة Environmental mythography ،أو أسطرة المكان، وهي الطريقة التي تخلق بها اللعبة العالم المتخيّل، وتكون مرتبطة باستكشاف الفرد لذاته، مشكّلةً مفهوم الرحلة الطويلة والاستكشاف العميق، ومحفزةً على الترحال المستمرّ لأجل توطيد هذه العلاقة المعرفية بالمتعة. المفهوم الثاني هو Actorial mythography ، وهي التفاصيل والقصص التي تروى من طرف الشخصيات، أو الراوي الخفي دون مشاركة مباشرة من اللاعب. تتطلّب هذه النقطة استثمار أعمق في البحث حيث إنّ الرمزية الصوتية للأسطورة لم تكن حاضرة في السرد القديم، ما يشكّل تحدّيًا في مرحلة إعادة التخيل. أمّا المفهوم الثالث الذي توصّلت إليه الدراسة فهو أنّ البعض من هذه الألعاب تحاكي هوية القصص والمراجع التاريخية في جمع العديد من القصص المتفرّقة زمانيًّا ومكانيًّا في مكان واحد مع خلق تقاطعات بين الشخصيات. وبفضل هذه المفاهيم تشكّل لدينا فهم لما أطلق عليه: المتحف التفاعلي، وهو دلالة لاستعارة ألعاب الفيديو مفهوم المتحف وتقاطعه مع المتخيّل للاعب. 
 

إعادة تعيين الألوان