نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

تأملات في النور
إطلالة

تأملات في النور

تأملات في النور

الصورة للمصور السعودي صالح الهذلول

بقلم محمد حامد
December 15th, 2021

باعتباري منحازًا إلى الليل، متحاماً على النهار، وكأنّي قطعة جليد حذرة من الذوبان، فإنّي أفهم لغة الانصهار؛ لأنّ الأشياء تبدو أكثر وضوحًا بمجرد أن نبتعد عنها ونراقبها. أطالع لمبة السقف، أفكر بالمشهد مثل استعارة للقمر في السماء، أتخيّل النور في حضوره الأول، كان دافعه منح كلّ شيء هبة الوضوح، لأنّي في بدايات الصباح أقول هذا نور يهطل دفعة واحدة، وعندما أتلمس الدرب أقول هذه إشارة، وإذا ما وصلتني الكلمة وشعرت بالحرارة عرفت فيها دفء الشعور، وإذا ما رأيت أثر الضحكة تذكرت الشمس والظال، وإذا ما شممت العطر أحسست بالحيويّة والحماسة، وبينما أتدثر باللحاف أستعيد ليالي السهر والسمر. طالما كنتُ مفتونًا بالمتضادات، الشيء وانعكاسه، الليل والنهار، الظل والضوء، الظام والنور، لأنّني كلما كنت هنا خطرت ببالي أسئلة بخصوص ما يحدث هناك، وعندما أجلس في هذا الجانب من العالم لا يتوقف الفضول عن محاولة معرفة ما يكون في الجانب الآخر، ذاك البعيد الذي يصير قريبًا بالفرضيات والتخمين. ولأنّ الفضول سلوك فطريّ، كنا ونحن في بيوتنا لا يتوقف انشغالنا بما يفوتنا في الخارج، الصوت ينبهنا إلى الطقس بسبب صرير النوافذ في أيام الشتاء، والانكماش، عبور النور دليلنا لمعرفة توقف المطر وتلاشي الغيوم، بينما ننتظر موعد الخروج لتحسّس الطين ومراقبة السيل، لأنّه مثلما أغوتني المتضادات فعلت البذرة والثمرة، الأسباب والنتيجة، الفعل وردة الفعل، المطر وبعد ذلك السيل والخضرة.

وإن كان الناس ينظرون إلى حياتهم بحسب مراحل الدراسة والوظيفة مثاً، أو التدرج من الطفولة إلى الصبا ثم المراهقة وبعدها الشباب وهكذا، أو تبدل الحال أو التنقل بين المدن، فإنّي أنظر لحياتي بحسب الفترات التي كنت أنام فيها والضوء مفتوح، أو بعد أن يصل الفجر، ثم مرحلة النوم والضوء مغلق ولكن طيف عمود الإنارة ثم الشروق يعبر النافذة، وبعدها مرحلة النوم في العتمة وكأن الليل في الداخل لن يتلاشى. وربما بسبب إرهاصات الكتابة، فإن النور بالنسبة لي مرتبط بالنوم، حرف واحد يتغير، الراء عندي دومًا دلالة البداية، بينما الميم علامة الوصول. أنا مررت بالمراحل الثاث التي يعيشها الناس مع حالة السهو والنعاس والنوم، أولها الذين ينامون بعد أن تبدأ العتمة حولهم وتكون بعد ذلك بداخلهم، الفئة الثانية الذين تبدأ العتمة من الداخل وتطفو إلى السطح، الثالثة هم الذين ينامون وحولهم وهج وداخلهم وهج، لذلك لا يشعرون أنهم داخل النوم بل قريبًا منه. تنوع ما بين شخص ينام في غرفة مظلمة، وشخص ينام في غرفة معتمة، وشخص ينام في النور، طفولتي كاملة كانت بحث عن الضوء حتى أصل إلى النوم، وعرفت أنني كبرت عندما تمكنت من النوم والضوء مغلق. لقد كان النور منبه الاستيقاظ وموعد النوم، وقت الخروج بالغنم ولحظة العودة عند المساء، مواقيت الصاة وانعكاس ظال المباني والأشجار. كان النور خارج البيت لأنّ البيوت كانت مخصصة للتخفّي والسكن، وكانت النوافذ ب استائر لأنه ما من شيء

تأملات في النور

يثير شهية المتلصّصين، أو يختلف عن طريقة الظهور في العلن، حينها لم تكن الأسرار بالغة الأهمية، لأن الناس كانت لهم حياة واحدة ووجه واحد.

في الواقع لقد غادرنا الظام على دفعتين، بداية عندما جاء النور وأزاحه إلى أن يكون حصته الليل، بينما ترك الظلّ أثرًا على وجوده القديم. ثم غادر ما تبقى من الظام عندما جلبوا لنا عدادات الكهرباء. وبينما كانوا ينسبون الأجيال إلى سمة العام الذي ولدوا فيه، مثل «سنة السبلة، سنة الرحمة، سنة الجدري، سنة الجرب، سنة الشهاقة »، وغيرها. إنما في عائلتنا وزعونا ودربونا على النور، أنا ولدت في زمن الفانوس والإتريك، دخلت المدرسة في زمن المواطير، تخرجت من الثانوية في وقت صارت فيه أعمدة الإنارة تبدد وحشة الشوارع، وحصلت على أول رحلة سفر بعيدًا في زمن لمبات تعمل على الطاقة الشمسيّة. غادرنا الظام وبقيت أظنّ أنّ الليل مجرد نور خافت. بالمقابل كان يمكن أن تكون الحياة محصورة على النهار فقط، لكن الإنسان القديم عثر - بينما يبحث في تفاصيل العالم حوله، ومن خال الاحتكاك - على اختراع النار، والوصول للضوء والحرارة. تنبهت الآن أن «الكشاف » احتل مقدمة المزايا التي أضيفت على جوال «نوكيا » حتى صار يطلق عليه «جوال أبو كشاف »، وافترضت أن النور طريقة للتواصل والاتصال، الرؤية قبل الكلمة، الوجهة قبل الخطوة، لأنّ النور ليس ما نراه بل الذي يرانا، ليس ما نبصره بل ما نشعر به، ليس ما نتوقعه بل ما نراهن على وجوده. اليقين الذي نقاوم به الشكّ والظنون، الثبات والحيوية مقابل الربكة والحواف، التفاؤل في وجه العتمة، الشرارة والبشارة والوميض طيلة الدرب. ولأنّ النور في الأساس هو درجة لونية، البياض عند الفجر، ضياء الشروق انغماس في لوحة وملامح ألوان وتضاريس العالم، في الظهيرة يكون النور ساطعًا وفاضحًا، أصفر مثل مواسم حصاد، لأنها محطة التمام، بينما عند الغروب ينسحب النور بحنين في الشفق، ويضع على الطرف توقيع الوصول وذكرى الرجوع، كان وهج الصورة وتفاصيل اللحظات المحميّة من الذبول.

في الكلام، عندما نتبادل التحيّة مع الآخرين بالقول «صباح الخير، صباح النور »، فإنّنا نعاود تكرار سلوك قديم وثقافة عتيقة كانت تدرك وجود الخير والشر، الهداية والضال، وكان النور هبة وأمنية ودعوة يوميّة للصاح. بالتوازي ليست مصادفة أن التنوير والمعرفة محاكاة للنور، اقتباس مثل نسمة ولذّة ولكنها على شكل نور في داخل عقولنا ومداركنا، يد العثور وحافز البحث وسبيل الاكتشاف، لذلك لا نكفّ عن تكرار «العلم نور، الجهل ظام». ولأنّ النور حضور، بينما الضوء ظهور، كان الظلّ بصمة. فإنّ أول شيء أفعله في بداية اليوم أن أفتح النافذة، أنشر النوايا والأفكار مثل قمصان وجوارب على حبل الغسيل، لأنّ الحبّ قميص، والخطوة جوارب، والاحتياج معطف، والوقت خيط مشدود بخفة، أتحسس ألفة العالم قبل أن أذهب إليه، أصافح الوقت قبل أن أنغمس فيه. وهكذا أختار أن أعيش في النور، أنجو من الضوء وأروّض الظال. النور المحظوظ بوفرة المصادر، يأتي من الشمس على شكل ضوء وقنديل يسير وفق الزمن، ويتحرك ب اخطوة مثل غيمة، المتوهج في لمبة، والمشع في النار، والدافئ في العناق، أما في التمثيات البصريّة فإنّ المصباح رمزيّة ودلالة العقل والذكاء، وكلّ فكرة نور، كل فكرة مفتاح، لذلك لا أتوقف عن التفكير لأني حريص أن يكون الشيء الوحيد الذي بوسعه أن يومض فوق رأسي، يكون على شكل مصباح ونور ومفتاح، لأني ما زلت متضامنًا ومأخوذًا بشجرة «ملكة الليل » بوصفها مرّرت نورها عبر أريجها الفاتن، كما لو أنه بديل مستعار وبرهان على أن الحواس تبصر ما تشعر به. الانصهار والمتضادات، السبب والنتيجة، الصحو والسهو، المياد والتشكل، اللون والتموج والمصادر، الكلام والإدراك، الفكرة والوصول، من كل هذه التأمات في النور أكرر ولكن على طريقتي مقولة المخترع الأمريكي توماس إديسون «أنا لم أفشل، بل وجدت 10000 طريقة لا يمكن للمصباح العمل بها »، ونحن أيضًا بوسعنا تفسير كل محاولاتنا على أساس أنّها اكتشافات صحيحة، طالما في النهاية لم نستسلم لظام التوقف والجمود والإحباط.

ومضة:

النور ليس الضوء، إنه حاسّة البصيرة.

إعادة تعيين الألوان