بينما تضج مدن العالم الكبرى وتجمعاته الحضريّة بصخب الحياة المشبع بتراكمات القرون وتعاقب الحضارات، يواصل جزأه الآخر مسيرة من الصمت والحكمة، تجاوزت عشرات القرون، بل لعلّها تجاوزتها إلى بداية الحياة نفسها. إنّها الصحراء، ذلك البرزخ الرابض بين ضفاف الحضارات، الذي جمع من المتناقضات أشدها إدهاشًا، ورسم رفقة الإنسان مشهدًا ليست السرمديّة إلا بعضًا من دلالاته، وليس الغموض إلا بعضًا من ديكوراته.
ربما لم يكن من الإنصاف اعتبار الصحراء مجرد حيّزٍ، أو إطار مكانيٍّ يحتوي الأحداث، دون أن تكون له بصمة واضحة فيها، إذ إنّها تختزن في كل حبّة رمل كمًّا من الدلالات والرمزيات، يكاد يكون لا نهائيًّا. هل الإنسان هو من يسكن المكان، أم أنّ المكان هو الذي يسكن الإنسان؟ يلعب هذا التساؤل الفلسفيّ هنا دور المفتاح الذي سيفتح أمامنا أبواب معرفة العلاقة بين الصحراء وساكنها الإنسان.
وفي الحقيقة تتميز الصحراء بتكثيف دلاليّ ورمزيّ قلما وجدناه في غيرها، فهي تجمع بين رسوخ المشهد والديكور، وسرمديّة الحيّز المفتوح الممتد اللانهائيّ، الذي بقي حتى اليوم عصيًّا على أصابع التمدُّد العمرانيّ الجشع، من جهة، وبين تغير دائم متواصل في المعالم والتضاريس وفي خريطة الحياة بين جنبيها، من جهة أخرى. وإلى جانب ذلك تعزف الصحراء معزوفة الغموض، الذي يرتفع أحيانًا إلى مرتبة الأسطورة، حين تتكفل عناصر المشهد بإزالة الحدود بين البدايات والنهايات، لتتحول الصحراء إلى مشهد عبثيّ يدور في حلقة مفرغة. وفي خضم ذلك؛ يجد الإنسان نفسه فيها بعيدًا عن ترف المجتمعات الحضريّة، ومحرومًا من رفاهية السلوك التشاركيّ الذي يميّزها، مطالبًا بالاعتماد على نفسه، أو على الدائرة الضيقة التي تحيط به، والمتكونة أساسًا من أدواته البسيطة، وحيواناته المستأنسة، وما تجود عليه الطبيعة به من خيرات شحيحة. ورغم ما في هذا النمط الحياتيّ من انعدام للاستقرار، إلا أنّه يمنح ساكن الصحراء ترف الحرية واختيار المصير، بعيدًا عن قيود المدينة وتعقيداتها، فهو في النهاية يفضّل قسوة الصحراء مع رحابتها على رخاء الحضر المسجون في ضيق المساحة.
ورغم الطبيعة الساكنة للصحراء، والرتابة التي طالما صاحبت إيقاعَها، إلا أنّ ديناميكيّةً ما كانت دائمًا حاضرة بين ثنايا المشهد، الذي لم يكتفِ بلعب دور الحيّز المكانيّ الجامد، وإنّما تحوّل عبر الزمن من فضاء يحتوي الأحداث إلى منتج للدلالة ومكمن للرمزيّة، ومن مكان مهجور إلى مشهد متحرك تتفاعل العناصر التي تؤثثه لتصنع نمطًا حضاريًّا قائمًا بذاته، وصل به الاكتمال إلى أن يتفرد بثقافته الخاصة، المبنيّة على منظومة القيم، والقواعد، والممارسات، وصولًا إلى أشكال التعبير الإبداعيّ: كالشعر، والغناء.
يمكن القول: إن الشعر هو الابن المدلل للصحراء، الذي نشأ بين كثبانها، واشتد عوده بين شعابها وأخطارها، وانفتحت آفاقه عبر فضائها الممتد في المكان والزمان، وانتظمت موسيقاه على إيقاعات ارتحالاتها. ولا شكّ أنّ الصحراء مثّلت مسرحًا مكتمل الأركان والديكور، اجتمعت عناصره المتنوعة من: كثبان، وجبال، وكهوف، وأنماطه القائمة على الترحال وعدم الاستقرار، ولمساته العاطفية التي تسكن بين عيون المها وغزلان الريم وأطلال الأحبة، لتقدم تجربة إبداعيّة قلّ
نظيرها. إن الشعر هو ديوان الصحراء، قبل أن يكون ديوان العرب، وقلما برز شاعر إلا وللصحراء بامتدادها وغموضها وصمتها الصاخب بصمات في شاعريّته. وقد تأثّر الشعراء العرب بالصحراء في نصوصهم، حتى أولئك الذين عاصروا فترة الانتقال من بيئتهم الصحراويّة التقليديّة إلى البيئة الحضريّة ورخاء المدن في العصرين الأمويّ والعباسيّ، فكانوا يصفون جمال الطبيعة في الأمصار المفتوحة، مستلهمين من تجارب الآباء والأجداد، المطبوعين بوصف الصحراء ومعالمها.
هذه الطاقة الإلهاميّة لم تتوقف عند حدود بيئتها الأصليّة، وإنّما كان بديهيًّا أن تستأثر بنصيب من الإبداع التعبيريّ الإنسانيّ يتناسب مع ما تزخر به من رمزيّة ودلالات وجماليّات. وقد مثلت حملة نابوليون بونابارت على الشرق نقطة البداية للرسامين الأوروبيّين في مرحلة فنيّة كان عنوانها الأبرز: استكشاف هذا المجهول الرابض شرق المتوسط وجنوبه. لقد مثلت الصحراء في هذه النقلة الفنيّة الحديثة فراغًا يبحث الجميع عن ترويضه، لا بل تحديًّا غير مأمون العواقب، لإعادة إنتاج هذه المساحات الضوئيّة الجديدة على قماش، بامتدادها اللانهائيّ، وبخلوّها من الإشارات المرئيّة
التقليديّة. يمكن القول بثقة أن الحلول التصويريّة والابتكارات الفنيّة الرائدة، التي أوجدها فنّانو القرن التاسع عشر للتمكن من تخيّل الصحراء أولًا وتجسيدها ثانيًّا، قد كان لها أبلغ الأثر في انعتاق الفنانين من ربقة التقاليد وانطلاقهم نحو الفنّ الحديث بأشكاله المعروفة الآن. ولم تكن الصحراء هدفًا سهلًا لكلّ هؤلاء الرسامين المغامرين، الذين كانوا على موعد غير مسبوق مع فصل حضاريّ نهض من سبات القرون ليستقبل ضيوفًا يختلفون حتمًا عن سكان الصحراء الأوائل، ولكنّهم يشتركون معهم في خوض هذا الغمار السرمديّ الساحر والنهل من أسراره.
ومع تطور أنماط الحياة المعاصرة وتنامي فكرة المواطنة، بدأت البداوة تتحول تدريجيّا إلى نزعة استقرار في المدن والدخول في منظومة الدولة الحديثة، وأصبحت الثقافة البدويّة بطقوسها ومعالمها ذكريات جميلة تملأ أروقة المتاحف ورفوف "البازارات" السياحيّة، إلا قليلًا ممن بقي من أجيال ظلت تتمسك بالتاريخ وبالفكرة، وتحافظ على تراثٍ سُطِّر على امتداد عشرات القرون، ظلّت عبرها الصحراء الحصن الأمين لبساطة الإنسان وتحررّه من سجن الزمكان إلى رحابة السرمديّة، ومن ديناميكيّة الحلقة المفرغة إلى رتابة الدهشة وامتداد اللانهائيّ.