شكسبيرُ الصَّحراء – ﻣﻦ وﺟﺪان اﻟﺼَّﺤﺮاء إﻟﻰ ذاﻛﺮةِ اﻟﻠَّﻮﺣﺔ
ﻗﻄﻊ ﻓﻨﻴﺔ وﺷﻌﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﺑﺪر ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻤﺤﺴﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ.
اشتُهر بكلماته التي تلامس قلوب أجيال من محبي الشِّعر، كلمات اشتهرت في شمال المملكة العربية السعودية وجنوبها وشرقها وغربها وما وراءها، كلمات خُلِّدت من خلال أبيات شعرية، وأغانٍ وأقوال شهيرة. فالأمير بدر بن عبد المحسن هو شاعر الشعب بمعنى الكلمة.
الرّسم بالنسبة إلى الأمير بدر هو أقرب شيء إلى الشِّعر، على الرغم من أنّ صفته كشاعرٍ طغت على موهبة الظلّ التي احتفظ بها لنفسه. في الكثير من الأوقات بقي الرّسم واحدًا من الفضاءات التي يهرع إليها الأمير بدر، ويبثّ في اللّوحات مشاعره وأحاسيسه التي تنعكس على الموضوعات والألوان.
في مقابلة حصرية بمنزله في الرياض، يقول الأمير بدر لرئيسة تحرير مجلة إثرائيات ريم الغزال: “إنّني أرسم بكلماتي..."
"اللّوحة إذا بدأتها تفتح لك أبوابًا وآفاقًا غير متوقعة، مثلها الشِّعر، فأجمل ما كتب الشّعراء هي القصائد غير المنتهية، ذات الآفاق المفتوحة، جمال القصيدة هو ثراء الخيارات والنهايات، والأبواب المواربة المنفتحة وغير المتبلورة".
"إلا أن الشِّعر يتعدى كونه مجرّد لوحة، إنّه أشبه بنَحتٍ بأبعاد متعددة، فمن زوايا مختلفة نرى شيئًا جديدًا، شيئًا قد يكون فريدًا".
عوضًا عن اللغة العربية الكلاسيكية، يستخدم الأمير السعودي اللّهجة المحلّية النبطيَّة، حيث تُجسد إبداعاته الشِّعرية طبقات متنوعة من التّراث والرّومانسية، والفخر والثّقافة، والرّوح الوطنية.
إنَّ من شعره وأغانيه العاطفية، ما هو قريب لقلوب مستمعيها وخيال قرائها، فمن خلال كلماته تشعر وكأنها تلامسُ الوطن. يمتدُّ الرَّصيد الشِّعري للأمير بدر لعقود مديدة، حيث ألهمت رحلته وكلماته العديد من الشّعراء والفنّانين والكتّاب الآخرين لخلق أشكال فنّية مختلفة.
وفي عام 2019، بمناسبة يوم الشِّعر العالمي، قامت منظمة الأمم المتحدة للتّربية والعلم والثّقافة - (اليونسكو) - بتكريم الأمير لمساهماته الفنِّية على مدار الأربعين عامًا الماضية. كما أعربت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي بهذه المناسبة، بقولها: "كل قصيدة شِعر فريدة بحد ذاتها... وتعكس عالمية التّجربة الإنسانية، وتعزّز الطموح نحو الإبداع الذي يتجاوز كل الحدود وحواجز الزمن. كذلك أجواء التأكيد على استمرارية الإنسانية كعائلة واحدة. هذه هي قوة الشِّعر!".
كل شكل من أشكال الفنِّ هو نافذة على فرادة الثّقافة وتقاليدها وشعبها. إلى جانب إرث الأمير بدر كرائد في الشِّعر الحديث في شبه الجزيرة العربية، فإن الكثير من معجبيه يجهلون بعده الإبداعي الآخر كفنَّان تشكيلي. فكلّ لوحةٍ من لوحاته لها أسلوبها وقصّتها الخاصة. فيقول: "أحب التّجربة دائمًا، كالشِّعر، بمجرد أن تبدأ اللوحة، فإنها تفتح لك أبوابًا وآفاقًا غير متوقعة".
من خلال قطع الأمير الفنِّية، نجد أمزجة وأفكارًا مختلفة نابضة بالحياة، تتراوح بين الانطباعية إلى السّريالية، والبورتريهات، والرّسومات، والأشكال التّوضيحية، والمناظر الطّبيعية. كما تشمل الموضوعات المتكررة رسمًا لتفسيرات مختلفة تعبِّر عن والده الراحل، وهو شخصيَّة فنِّية في حدّ ذاته. الأمير بدر هو نجل أحد شعراء المملكة البارزين وحاكم المدينة المنورة السابق الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز.
تشمل الموضوعات الأخرى؛ الصحراء، والحصان العربي الأصيل، والرّموز التّقليدية، والعناصر المجرّدة المختلفة المنفتحة على التّصورات والتّحليلات.
يقول الأمير: “يتميز فنّي بأنماط مختلفة، لذلك لا يمكن للمرء أن يقول آها! هذا هو العمل الفنّي للأمير بدر، بينما قصائدي كتبت بطريقة مميزة، يمكن للناس أن يقولوا، آها نعم، هذا هو أسلوب للأمير بدر المميز”.
ولد الأمير بدر عام 1949 في الرياض، ودرس في السعودية ومصر وبريطانيا والولايات المتحدة. كان الرّئيس المؤسّس للجمعية العربيّة السعودية للثّقافة والفنون، وقام برعاية وإنتاج العديد من الحفلات الموسيقيّة والأغاني الوطنيّة المهمة، وقدم دورًا داعمًا رائدًا للعاملين في ميدان الثقافة؛ فهو عضو في مجلس إدارة الهيئة السعودية للموسيقا، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة بدر بن عبد المحسن الثقافية، تلك المؤسّسة تنتج وتقدم الفنون والمبادرات الثقافيّة في المملكة العربية السعودية، بينما يوجه ويدعم تطور الجيل القادم من الفنّانين.
إلى جانب محمد عبده، تضم مسيرة الأمير بدر الموسيقية العديد من المطربين العرب البارزين، مثل: طلال مداح، وعبادي الجوهر، وعبدالمجيد عبدالله، وأحلام، وحسين الجسمي، وكاظم الساهر، بالإضافة إلى ملحنين، مثل: سراج عمر، ومحمد شفيق، وسامي احسان، وعبد الرب ادريس.
لقد جاب صاحب السمو الملكي أغلب بلدان العالم، إلا أنَّ صحراءه الحبيبة ظلت تحتل مكانة خاصة في ذاكرته وقلبه.
"أنا من هالأرض
أمي الصحراء
أحضنتني رمالها
وارتويت بطهرها
أطعمتني ثمرها
وفرشتلي ظلالها
أنا من هالأرض.... "
لقِّب بـ "شكسبير الصحراء" و"مهندس الكلمة" لنثره المتقن الصنع، عندما سئل الأمير الشاعر عن الصحراء، أجاب بشاعرية بهذه الكلمات: "الصحراء مثل المرأة، قاسية، صارمة خلال الشتاء، لكنها لطيفة ورقيقة خلال فصلي الخريف والربيع. مزاج الصحراء مثل مزاج المرأة، عميق ومؤثر".
على غلاف هذا العدد من إثرائيات، والذي يحمل عنوان (صحراء)، قطعة فنّية للأمير بدر، تجسِّد مختلف الملامح والألوان داخل الصحراء، وتتناقض مع الصورة النمطية لصحراء في أرض قاحلة. يقول الأمير بدر وهو يتأمل لوحته: "في وسطها شخص عادي، شخص كان من الممكن أن يكون من الماضي، والذي سيأخذ قسطًا من الرّاحة (قيلولة)، وعصاه في مكان قريب. كانت منطقة آمنة وبسيطة. تجسد هذه اللّوحة الحياة النابضة في الصحراء من صخورها إلى نباتاتها إلى ألوانها الرّملية المختلفة، والقصص التي لا بد أنّها شوهدت على مدى عقود، بل على مر القرون".
ابتسم برهة وهو يسترجع ذكرياته العزيزة عن الوقت الذي قضاه في الصحراء، وقال: "الصحراء نابضة بالحياة، يمكن التقاط قصة الصحراء المعقدة من خلال أشجار نخيلها وإبلها. البدو الذين سافروا عبر تضاريسها كانوا أكثر وطنية وتعلقًا بأرضهم من أي شخص آخر. لقد عرفوا وطنهم جيدًا، عرفوا كل صخرة وشجرة فيه، وارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بأرضه".
وعندما سئل الأمير بدر عن الأيام السابقة الصعبة لفيروس كوفيد -19، مع عمليات الإغلاق وحظر التجول، حين وجد الناس أنفسهم معزولين، أجاب بأنه وجد صعوبة في الإبداع: “اعتقدت بدايةً أنّ لدي كل الوقت للكتابة والرسم أخيرًا، وسأعمل بتركيز دون مقاطعة من أحد، لكنني لم أستطع. لقد فقدت التواصل، والفنّ بحاجة إلى التواصل، بحاجة إلى الجمهور والمشاهدين، بحاجة للنقاش والجدال حول الإبداع".
مقابل كلّ قطعة فنّية وشعريّة مكتملة، هناك العديد من القطع غير المكتملة.
يبدي صاحب السمو الملكي ألفة خاصة نحو العمل "غير المكتمل"، ويدعو المبدعين إلى الاحتفاظ بأعمالهم غير المكتملة، إذ يمكن للقطع "المفتوحة" أن تلهم الكثير من النهايات والإمكانيات. إذ يقول: "في بعض الأحيان لا تريد أن ينتهي شيء ما، لأن الموضوع أجمل من الخاتمة".
بالنسبة للأعمال المنجزة، يشارك الأمير بدر رؤيته المنهجية، يقول الأمير: "يجب أن أرى وأتخيل النتيجة النهائية عندما أكتب وأرسم". وأردف قائلًا: "إذا لم أرَ النهاية عند البدء، فغالبًا ما ينتهي الأمر بكونها قطعة غير مكتملة. أعتقد أن هذا هو حال العديد من الفنانين، حيث يحتاجون إلى رؤية الوجهة النهائية".
يراجع الأمير بدر تجربته على مدى عقود، ويختار المسارات التي ترسخت في الذاكرة الشخصية، والتي تعكس في بعض جوانبها التغييرات التي طرأت على وطنه وبلده.
في الستينيات
يقول الأمير: "لقد كانت حياة بسيطة. كانت مخاوفك تخصك أنت وجارك المجاور لك. الآن، همومنا تشمل المخاوف الدولية والبلدان خارج حدودنا. أيضًا، كان الناس يستأجرون أجهزة عرض الأفلام، ولديهم سينما خاصة بهم في منازلهم، ويشاهدون الأفلام المصرية التي كانت شائعة في ذلك الوقت"، ثم أردف: "قبل الآن كنت تسافر 10 كيلومترات لتكون في حضن الصحراء. الآن عليك أن تقود سيارتك لمسافة 100 كيلومتر، إن لم يكن أكثر، للوصول إلى قلب الصحراء. هذا يخبرنا تمامًا عن المسافة التي قطعناها عما يميزنا وعن جوهرنا".
ﻗﻄﻊ ﻓﻨﻴﺔ وﺷﻌﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﺑﺪر ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻤﺤﺴﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ.
ﻗﻄﻊ ﻓﻨﻴﺔ وﺷﻌﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﺑﺪر ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻤﺤﺴﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ.
في السبعينيات
يقول الأمير: "هنا يتبادر إلى الذهن عام 1973. حدث تاريخي هام في أكتوبر، الحرب بين العرب والإسرائيليين، لقد غيرت عالمنا العربي من نواح كثيرة. كنت قد سافرت وعدت إلى المملكة العربية السعودية وحصلت على استراحة كبيرة مع أغنية كتبت للمغني السعودي محمد عبده بعنوان (لا تردي الرسايل)، وأكمل: "شهدت السبعينيات والثمانينيات نموًا بطيئًا للجهود الفردية. بسبب تنظيم عدد أقل من الأشياء من قبل وزارة الإعلام، وأخذ الفنّانون زمام المبادرة بأنفسهم. لا يمكنك التوقف عن الفنّ، سيجد حتمًا سبلًا للتعبير عن نفسه".
في الثمانينيات والتسعينيات
ويتابع قوله: "كنت في ذروة إبداعي في هذا الحين، لقد حزت النجومية، سافرت وأقمت أمسيات شعرية في كل المناطق. النجومية هي مرحلة خطيرة في حياة المشاهير، تفقد مكانتك كفنان وشاعر، وعليك أن تكون ذلك المؤدي. أنا لست لاعب سيرك، لكنهم يعاملونك بهذه الطريقة. يقولون أشياء مثل: (اجلس هكذا، البس هذا، اكتب لنا هذا أو ذاك) إنه توازن دقيق للغاية، عليك أن تسعى جاهدًا حتى لا تنجرف في شهرتك، لا تفقد نفسك وخصوصيتك. إذا كنت شاعرًا فكن شاعرًا صادقًا. أدركت بسرعة أنني لا أريد أن أخرج عن هدفي الحقيقي".
يضيف الأمير: "إنَّ الطموح والدّافع من أهم محرِّكات الإبداع في تحسين تجربة الفرد، حتى إذا كانت بعض الأحلام بعيدة وشاقة، فمن صالح الإنسان أن يصرَّ على الوصول إليها. توسيع الأفق أمامك بمسافات الطموح يحرّضك على قطع المشوار والمضيّ قدمًا بموهبتك، ومن توقَّف عن الطموح وطلب المعالي في مشواره الإبداعي، فالأولى به أن يتوقّف عن الكتابة أو الاستمرار في إبداعه".
في الألفية الثانية
"كان عام 2000 مميزًا، وأردتُ شيئًا يخصه، مثل الفوز بجائزة نوبل في الآداب. من المهم الاعتراف بثروة الثقافة الشفاهية والشعرية لشبه الجزيرة العربية دوليًا، كان هدفي تحقيق حضور محلي. وأعتقد أنني حققت ذلك، لكن هذا لا يعني أنني يجب أن أتوقف عن امتلاك طموحات أعلى".
مع خطة نشر مجموعته الشعرية الكاملة من قبل وزارة الثقافة، والإبداعات الجديدة التي تم ابتكرها للفنانين والمناسبات الخاصة، يعمل الأمير بدر باستمرار على الإبداع والعمل المتفاني. أما الشاعر الذي يحيا فينا جميعًا، ينصح الأمير بدر بأنه لكي يتفوق الشعر حقًا، يجب أن "تتحدى" القصيدة التي يتم إبداعها الشِّعر الموجود. يقول الأمير: "إذا كنت تحب زينب فلا تستخدم الشِّعر المكتوب لسلوى. اكتب كلمات فريدة وصحيحة لزينب، تلك التي تخص زينب فقط".
وأضاف نقطة أخرى مهمة، وهي تجنب الغلو الفني، سواء كان ذلك تجاه مدرسة شِعر أو نوع معين من الفنِّ. وقال: "أنا شخصيًّا أرفض كل أنواع الغلو، لا تنسخ وتكرر فقط، يجب أن تتجاوز قدوتك، وهي الطريقة الوحيدة لتشكيل هويَّتك وترك أثرك ... تحدى نفسك دائمًا".
ﻗﻄﻊ ﻓﻨﻴﺔ وﺷﻌﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﺑﺪر ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻤﺤﺴﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ.
وفي نصيحته لكل المواهب الشابة، يقول الأمير البدر: "عندما تقرأ ديوان شِعر، أو تجلس مع فنّان يعجبك أو تسمع له وتنظر في إبداعه، احتفظ بمشروعك الخاص، ولا تأخذه من غيرك، اكتب حاجتك أنت، اكتب إحساسك أنت، اكتب معاناتك أنت، وفي نفس الوقت لا تضع النموذج العظيم الذي تعتقد بتفرده سقفًا نهائيًّا لك، وضع في بالك دائمًا أنها مرحلة ستتجاوزها في يوم من الأيام، وسواء تجاوزتها أو لم تفعل، سترتقي تلقائيًّا بمجرد إيمانك بنفسك، ورغبتك في رفض المسافة والسور والحارس".
”الطموح والدافع من أهم محركات الإبداع…اللوحة إذا بدأتها تفتح لك أبوابًا وآفاقًا غير متوقعة، مثلها الشعر، فأجمل ما كتب الشعراء هي القصائد غير المنتهية، ذات الآفاق المفتوحة، جمال القصيدة هو ثراء الخيارات والنهايات، والأبواب المواربة المنفتحة وغير المتبلورة."
قال الأمير البدر بن عبدالمحسن في حديث خاص لمجلة إثرائيات
على غلاف هذا العدد من إثرائيات، والذي يحمل عنوان (صحراء)، قطعة فنية للأمير بدر، تجسد مختلف الملامح والألوان داخل الصحراء، وتتناقض مع الصورة النمطية لصحراء في أرض قاحلة.