ﺑﻴﺘﻬﻢ ﻫﻮ اﻟﺴﻤﺎء، واﻟﺨﻴﻤﺔ، واﻟﺄرض
اﻟﻮاﺣﺔ (1905-1844) ﻟﻮﺣﺔ زﻳﺘﻲةّ ﻋﻠﻰ ﻗﻤﺎش، رﺳﻤﻬﺎ ﻫﻴﺮﻣﺎن دﻳﻔﻴﺪ ﺳﺎﻟﻮﻣﻮن
الصحراء كانت ولا زالت محط أنظار الفنانين، حيث يوثّقون هذا التكوين الإلهيّ العظيم بصور إبداعيّة. فرسم المناظر الطبيعة له جمال مختلف، فهو لا يحاكي الواقع فقط، وإنّما يعطي مشاعر مختلفة، وكأنّنا نمتلك قطعة من الطبيعة داخل برواز. هناك سحرٌ خاصٌّ من أنامل الفنّانين، يعود لزوايا رؤاهم الخاصة، وماذا يختارون لرسم مشهد طبيعيّ؟! وقديمًا، ولما لم تكن هناك أدوات تصوير، كانت عين الفنان ـ التي يأسرها الجمال المحتّم ـ هي الكاميرا التي تخلق من هذا المشهد أو ذاك، رؤية يوثقها، لاهتمامه بالتفاصيل الجماليّة التي تلهمه، فيعطيها قيمة كبيرة بأعماله.
وأحد أبرز الفنانين تأثرًا بتكوين الصحراء هو الفنان الإيطاليّ هيرمان ديفيد سالومون الذي كان يحاكي الطبيعيّة برسمه، ويلفت انتباهه المستشرقون خلال أسفاره فيوثقها داخل أعماله الفنيّة.ترك لنا هيرمان تاريخًا فنيًّا مصورًا عن الكثير من رحلاته، وأحد أعماله التاريخيّة هو مشهد "الواحة" في ناحية من صحراء العرب.
لوحة الواحة (1844-1905) كانت مشهدًا جزئيًّا من حياة الصحراء الطبيعيّة لمخيم عربيّ أثناء غروب الشمس، حيث إنّه فصّل الحياة داخلها بصورة أقرب للشموليّة، موثقًا صورة كاملة عن طبيعة الحياة الصحراويّة. فهيرمان وسَّط موقع الخيمة المفتوحة من كلّ الجوانب بمساحات متناسقة بين السماء والأرض، وكأنّه يقول: بيتهم هو السماء، والخيمة، والأرض. كما أعطى رسم النخيل والنباتات من خلف الخيمة انطباعًا مكنونًا عن وجود الماء. وأسفر وجود الواحات بالتناوب ـ بنخيلها وأشجارها على مساحات متباينة ومتفرقة لأبعاد اللوحة ـ عن توازن غني مع باقي الصحراء، مضيفًا بتلك الخضرة انعكاس الهدوء والسكينة للمكان.
نلاحظ أيضا أن هيرمان رسم بشكل متناثر بعض الزهور والأعشاب التي تخرج من الأرض بألوان ترابيّة وصفراء، وكأنه يقول لنا عبر لوحته: إن الجمال في أصل الطبيعة، ومن الأصل ينبت الجمال ولو بصحراء قاحلة. نراه أيضا قد رسم مساحة السماء والأرض متشابهة، وأعطاها أهمية كبيرة في اللوحة، حيث اختار لها تدرجات ترابيّة، بجانب اللون الأبيض، ورسم غيومًا بضربات فرشاة قويّة بشكل متوازٍ مع الخيمة، وكأنها طبعت الأقمشة على الغيم، ليوثق لنا مشهد جمال المكان.
ومما هو مثير في لوحة هيرمان طريقة إثرائه لمحتوى اللوحة، من حيث اختلاف الأشخاص والأعمار وأنواع أعمالهم، فنجد: تصوير الخباز، وجلسة العائلة داخل الخيمة، وصاحبة الجرة على يمين اللوحة، والولدين، والراعي مع الغنم، بشكل متوازن وجميل. أيضًا، صوّر الرجل كبير السن بعمامة بيضاء بجانبه الجمل محمل بالأغراض، دليل ترحال، كما رسم أمامه الطفل وهو يساعد في أعمال القمح مع أمه. وهنا نرى غلبة الأحمر وتدرجاته، و الأزرق وتدرجاته، على بعض الثياب وأغطية الرأس، دليل: القوة، والطاقة، وخفة الحركة، والعمل الجماعي في العيش داخل بيئة صحراويّة. وكأنّه يقول لنا
عبر اختياراته: وما الحياة التي تدب بالصحراء إلا بأقدام ساكنيها. حيث وضح من خلال مجموعته المتكاملة أن الصحراء غنية بأناسها، وتجمعاتهم، وتكاتفهم للعيش. وبشكل عام، اختار هيرمان قائمة ألوانه بطريقة مميزة، حيث استخدم الأخضر والزيتيات بدرجاته، إلى جانب الأبيض والترابيات بدرجاته. وبالرغم من محدوديّة تكويناته اللونيّة، إلا أنّه أبهر المشاهد، وجعل تنقله بين تدرجات الألوان في تكوين اللوحة ساحرًا وجميلًا، عابرًا به الأزمان، برسم متكامل وخلاق لعبق الماضي.
فها هي حكايات الصحراء مستلهمة من أناسها، وترانيم هوائها، وطبيعتها المغايرة عن سواها، وربوع مساكنها، وأغطية سمائها، مستقبلة أعين الفنانين التي لا تخطئ جماليّات الكون. فاختياراتهم فيما يرسمونه كانت دقيقة، لدرجة أنها باتت تاريخًا يُسرد للحاضر.
اﻟﻮاﺣﺔ (1905-1844) ﻟﻮﺣﺔ زﻳﺘﻲةّ ﻋﻠﻰ ﻗﻤﺎش، رﺳﻤﻬﺎ ﻫﻴﺮﻣﺎن دﻳﻔﻴﺪ ﺳﺎﻟﻮﻣﻮن
ﻫﻴﺮﻣﺎن ﻃﺮﻳﻘﺔ إﺛﺮاﺋﻪ ﻟﻤﺤﺘﻮى اﻟﻠﻮﺣﺔ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﺧﺘﺎف اﻟﺄﺷﺨﺎص واﻟﺄﻋﻤﺎر وأﻧﻮاع أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ، ﻓﻨﺠﺪ: ﺗﺼﻮﻳﺮ اﻟﺨﺒﺎز، وﺟﻠﺴﺔ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ داﺧﻞ اﻟﺨﻴﻤﺔ، وﺻﺎﺣﺒﺔ اﻟﺠﺮة ﻋﻠﻰ ﻳﻤﻴﻦ اﻟﻠﻮﺣﺔ، واﻟﻮﻟﺪﻳﻦ، واﻟﺮاﻋﻲ ﻣﻊ اﻟﻐﻨﻢ، ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺘﻮازن وﺟﻤﻴﻞ. أﻳﺾاً، ﺻﻮرّ اﻟﺮﺟﻞ ﻛﺒﻴﺮ اﻟﺴﻦ ﺑﻌﻤﺎﻣﺔ ﺑﻴﻀﺎء ﺑﺠﺎﻧﺒﻪ اﻟﺠﻤﻞ ﻣﺤﻤﻞ ﺑﺎﻟﺄﻏﺮاض، دﻟﻴﻞ ﺗﺮﺣﺎل، ﻛﻤﺎ رﺳﻢ أﻣﺎﻣﻪ اﻟﻄﻔﻞ وﻫﻮ ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻓﻲ أﻋﻤﺎل اﻟﻘﻤﺢ ﻣﻊ أﻣﻪ. وﻫﻨﺎ ﻧﺮى ﻏﻠﺒﺔ اﻟﺄﺣﻤﺮ وﺗﺪرﺟﺎﺗﻪ، و اﻟﺄزرق وﺗﺪرﺟﺎﺗﻪ، ﻋﻠﻰ ﺑﻌﺾ اﻟﺜﻴﺎب وأﻏﻄﻴﺔ اﻟﺮأس، دﻟﻴﻞ: اﻟﻘﻮة، واﻟﻄﺎﻗﺔ، وﺧﻔﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ، واﻟﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ ﻓﻲ اﻟﻌﻴﺶ داﺧﻞ ﺑﻴﺌﺔ ﺻﺤﺮاوﻳّﺔ. وﻛﺄﻧّﻪ ﻳﻘﻮل ﻟﻨﺎ ﻋﺒﺮ اﺧﺘﻴﺎراﺗﻪ: وﻣﺎ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﺪب ﺑﺎﻟﺼﺤﺮاء إﻟﺎ ﺑﺄﻗﺪام ﺳﺎﻛﻨﻴﻬﺎ.