الأوديسة التي يقرؤها جمهور كرة القدم: علاقتنا بالأساطير
نكونو حارس الكاميرون، والرجل الذي يعتبر قدوة بوفون، وباعثه الأول لتغيير مركزه. مصدر الصورة: Bob Thomas Sports Photography via Getty Images.
في عام 1990، وفي قلب ميلانو، رأى فتى إيطالي أنيق في الثاني عشر من عمره مع أصدقائه معجزة القرن: الكاميرون تهزم مارادونا، لكن الطفل لم يلتفت إلى مَن سجل الهدف، بل إلى من ثبت أقدام فريقه بتسعة لاعبين أمام أساطير التانغو. ذلك الحارس الذي بدا له كأبطال الملاحم، واقفًا بين الخشبات الثلاث، كان توماس نكونو. من تلك اللحظة، غيّر جانلويجي بوفون مركزه من لاعب وسط إلى حارس مرمى، ليصير هو نفسه لاحقًا أسطورة، كأنما يردّ الدين لتلك اللحظة.
قصة، وإنْ بدت فردية، إلّا أنّها تشبه حكاية ثيسيوس حينما رأى هرقل في بيت جدّه الملك، فاختار على خطاه، درب الأخطار والبطولة. كلاهما — الطفل الإيطالي، والطفل الإغريقي — رأى في رجلٍ ما ليس إنسانًا فحسب، بل مسارًا يمكن أنْ يُحتذى. هنا تنشأ الأسطورة: حين لا تظل اللحظة لحظة، بل تتحول إلى ضوء في الذاكرة لا ينطفئ.
وما استهللت بهاتين القصتين إلّا لأتساءل بإلحاح: لماذا اختار الإنسان قراءة هاتين القصتين بعينين لامعتين بالإعجاب؟ ولماذا أضاف لهما العديد من الطبقات العاطفية، وغلفهما بها؟ هذا السؤال يجعلنا نستخلص أن كرة القدم تملك في المجتمع الحديث بُعدًا مختلفًا عن ظاهرها، يميل فيه الناس إلى أسطرتها وأسطرة رموزها. لكن لماذا؟ هل لأننا نعاني اليوم كبشر من توتر في رابطتنا الروحية؟ هل لنشعر بالانتماء؟ هل لأنّ الرموز في كرة القدم يمثلون حاجزًا ذهبيًّا حول ذكرياتنا، وتفريغهم من هذه الأسطرة يُهدم هذا الحاجز، ويحول ذكرياتنا من سعيدة ومشبعة بالمشاعر إلى ذكريات جوفاء؟

مشجّع إيطالي يحمل علمًا بصورة مارادونا بعد وفاته، حين انطفأت شمس نابولي برحيله. المصدر: FILIPPO MONTEFORTE/AFP via Getty Images.
لن يجيب عن هذا السؤال الأخير إلّا ابن بَجْدَتِها: رولان بارت، الدلالي الفرنسي، الذي أحاط بمدلولات الأساطير في المجتمع الحديث، وأفاض فيها. يعرّف بارت الأسطورة بأنّها: "شكل من أشكال الخطاب؛ نظام تواصلي، وأسلوب من أساليب إنتاج المعنى". الأسطورة، عند بارت، لا تلغي الواقع، بل تنقّيه، تُعيد تأويل الحدث ليظهر في صورته المنشودة، لا حقيقته الكاملة.
مارادونا، في هذا السياق، يمثل نموذجًا حيًّا لما شرحه رولان بارت عن الأسطورة. كان في حقيقته لاعبًا عبقريًّا وفوضويًّا، شهد قممًا شاهقة، وسقطات مدوية، بعيدًا عن صورة الكمال. مع ذلك لم يتعامل معه المجتمع بوصفه شخصًا عاديًّا، بل حوّله إلى رمز. ففي الأرجنتين أصبح "بطل الشعب"، و"يد الله"، مجسدًا لثأر وطني بعد حرب الفوكلاند. وفي نابولي الفقيرة والمهمشة، صار شبه إله شعبي، رمزًا للتمرد على هيمنة الشمال الغني. تلاشت صورة مارادونا الإنسان، وحلّت محلها أسطورة، تفسر كلّ سقطاته باعتبارها علامات على صدقه وقربه من الناس.
وهكذا، كما يرى بارت، غطى السرد الأسطوري على الواقع، وحوّل حقيقة تاريخية إلى قدر طبيعي، حتى بدا وكأن مارادونا لم يُخلق إلّا ليكون مخلصًا شعبيًّا، لا مجرد لاعب كرة قدم. لكن الأدهى أن مَن لم يشهد تلك اللحظات صار يقدّسها. طفل في أقاصي الأرض يقول إنّ بيليه أسطورة، على الرغم من أنّه لم يره قط. هنا تنفعنا مقولة إريك هوبسباوم عن "التقاليد المخترعة": كثير من المسلّمات العاطفية التي نعيشها حديثة النشأة، لكنّها — مع التكرار — تكتسب سمة العراقة، وتُعامل كحقائق مطلقة.

ماجد عبد الله في مونديال 94. المصدر: Richard Sellers via Getty Images.
وحين نتحدّث عن ماجد عبد الله، أو يوسف الثنيان، نكاد نراهما يقارعان لاعبي العالم أجمع، على الرغم من أنّنا لا نملك، فعليًّا، ما يُثبت هذا اليقين، بل إنّنا نخلق عبارات تؤطرهم في أسطورة: "لاعب البلايستيشن في زمن الأتاري"، أو "ولد في القارة الخطأ".
تعبيرات تتجاوز المنطق، لكنها تُرضي شعورًا جمعيًّا بالحاجة إلى مَن يمثلنا، مَن نعلّق عليه ما لم تستطع أقدامنا تحقيقه. ليست خداعًا، بل عزاء، ففي زمن خيبات كروية متكررة، نتمسك بما تبقى في الذاكرة، ونخلّده. لا يعني هذا أنّ تلك الأساطير باطلة، بل أنّ صدقها لا يُقاس فقط بما هو قابل للإثبات، كما قال هوبسباوم: "التقاليد هي استجابة لأوضاع مستجدة، تتقمص شكل استدعاء ماضٍ قديم". أيْ إنّنا نخلق الأسطورة حين نشعر أنّ الواقع لم يعد يكفينا.

كريستيانو رونالدو، ولحظة تصويب لهدف! المصدر: Jan S0L0, licensed under CC BY-SA 2.0 via Wikimedia Commons.
لذلك لا يتعلق الأمر باللاعب فحسب، بل بالرحلة التي يخوضها. هنا يأتي جوزيف كامبل الذي تتبع "رحلة البطل" في الميثولوجيا: من نداء المغامرة إلى التحديات، ثمّ العودة بالحكمة، وهذا بالضبط ما نراه في ميسي ورونالدو، أسطورتين على النقيض، لكنْ كلّ منهما يشبع سردية مختلفة:
● رونالدو: البطل الذي ارتقى بقدمه، قادمًا من القاع، وشق طريقه بالإرادة الحديدية.
● ميسي: الطفل المختار، الموهبة الملهمة، الذي خاض المعركة، ليحمي نقاءه في عالم ملوث.
أحدهما يمثل الطموح، والآخر يمثل المعجزة، ومثل كلّ أسطورة، لا تكتمل بدون خصومة، لهذا يستمر جمهورهما في النزاع، لأنّ كلّ طرف لا يدافع عن لاعب فقط، بل عن قصة كاملة، عن معنى اختاره ليؤمن به.

بوفون يلتقي بمحمد الدعيع في مباراة اعتزال الأخير. المصدر: FAYEZ NURELDINE/AFP via Getty Images.
أكثر اللحظات شفافية، هي تلك التي يعود فيها بوفون، بعد كل المجد، ليذكر نكونو. عدت أنا أيضًا، لأبحث عن ذلك الوهج، فوجدت نكونو حارسًا جيدًا، لا يتجاوز ما قدمه محمد الدعيع مثلًا، لكن نكونو ظهر له في اللحظة المناسبة، في لحظة هشاشة التكوين، حين يكفي ظِل إنسان واقف أن يَحُل محل الأسطورة. لعل هذا ما يجعل كرة القدم، كما يرى سيمون كريتشلي، أكثر من رياضة. إنها طقس اجتماعي، يحمل وظائف الأسطورة. حين نهتف للاعب، نحن نهتف لخيبتنا وأملنا، لفوضانا وانتصاراتنا الصغيرة، وحين نخلّده، نحن لا نصف موهبته، بل نوثق لحظة لمسنا فيها المعنى، فالأساطير ليست زيفًا، بل لغة أخرى لفهم العالم، وحين نردد أسماء بيليه، مارادونا، ماجد، الثنيان، ميسي، رونالدو، فنحن لا نسترجع فقط من لعب جيدًا، بل من أنار فينا شيئًا كدنا نفقده.