حكاية التيفو: الفن في المدرّجات!
تيفو جماهير لاتسيو قبل ديربي روما في 2020م، تظهر فيه لمحة من لوحة لمايكل أنجلو. المصدر: Alamy Stock Photo.
عيناكَ تطالعان اللوحة الخالدة - التي رسمها النحَّات والمعماري والشاعر الإيطالي مايكل أنجلو بين عامي 1508-1512م، غير أنّك لست في رحلة سياحيّة إلى روما، واقفًا وسط "كنيسة سيستينا"، رافعًا رأسك نحو السقف، ولست في متحفٍ يعرض نسخة من اللوحة الشهيرة، وبكل تأكيد لست تنظر إلى شاشة هاتفك بعد أن مرّت عليك صورة اللوحة في أحد حسابات وسائل التواصل الاجتماعي المهتمة بنشر الفنون العالمية.
إنك في ملعب كرة قدم بالعاصمة الإسبانية مدريد عام 2008، قبل إطلاق صافرة بداية مباراة الديربي الشهير بين الغريمين ريال مدريد، وأتلتيكو مدريد. رابطة جماهير النادي الأبيض المتعصبين، والتي تعرف باسم "أولترا-سور رابطة المدرج الجنوبي"، قررت أن تصنع نسختها الخاصة من اللوحة، وبأسلوب فنّي بارع، أعادوا رسمها بدقة من جديد على مساحة ضخمة من القماش، مع لمسة بسيطة، شعار ناديهم في المنتصف، تمتد إليه الأصابع، وينتشر منه الضياء، وتحتها كتبوا عنوانًا: "وقد حقق المعجزة"، وكأن الكون يتمحور حول ناديهم، يبدأ منه، وإليه ينتهي.
كيف وصلت هذه اللوحة إلى ملعب كرة قدم؟ متى بدأ تحوّل هذه الملاعب إلى معارض فنية، وساحة تتنافس على مدرجاتها الجماهير بالفن؟
في عام 1968، تأسست مجموعة "فوسا دي ليوني" عرين الأسود، وهي رابطة من المشجعين المتعصبين لنادي إي سي ميلان، وهي أوّل مجموعة وظيفية من هذا النوع تأُسست في العالم. الصحفي الإيطالي بييرلويجي سبانيولو في كتابه"متمردو المدرجات: تاريخ حركات الأولتراس الإيطالية"، يعيد نشأة مجموعة (عرين الأسود)، ومجموعاتٍ أخرى كثيرة نشأت في الفترة نفسها، إلى حركة الاحتجاجات الطلابية التي شهدتها إيطاليا بداية عام 1968م. إن هذا الربط مهم لفهم أساليب التشجيع التي اتبعتها هذه المجموعات، فهي لم تكن جماعاتٍ من المشجعين المتعصبين للنادي كما كان "الهوليغانز" الإنجليز على سبيل المثال، وإنما حملت أفكارهم وثقافتهم أبعادًا ومضامين سياسية وفكرية متعددة، وبالطبع كان لهذا تأثير مباشر في ظهور اللوحات التشجيعية الضخمة (التيفو) في مدرجات إيطاليا للمرّة الأولى أواخر الستينيات وبداية السبعينيات.
علاقة السياسة بالرياضة في إيطاليا هي علاقة عضوية، فالأندية تعرف أيديولوجيًّا: "ميلان" يُعتبر نادي الطبقة العاملة حيث كان ينتمي إليه عمال السكك الحديدية، بينما "انتر ميلان" ارتبط بالطبقة الوسطى في مدينة ميلانو وضواحيها، وفي إقليم إيميليا في الشمال الأوسط لإيطاليا، يُعرف المنتمون إلى نادي "بولونيا" بأنهم يساريون بالضرورة، أما "فيرونا" فهو نادٍ يميل إلى التيار المحافظ في إقليم فينيتو.

تيفو جمهور ميلان الإيطالي قبل مباراة الديربي ضد الإنتر في 2021 يعرض رسمًا يحتفي بفئات المجتمع التي كافحت وباء كوفيد-19. المصدر: Jonathan Moscrop / Sportimage.
الأرضية السياسية التي نشأت عليها كرة القدم الإيطالية، جعلت من تسلل الفن سريعًا إلى المدرجات الإيطالية مسألة حتمية. رُفعت شعارات غاضبة، وأعلام بدائية توجه ضد الخصوم، أو الحُكام مسيري المباريات، صارت هذه المدرجات مساحة للتعبير عن مشاعر الحب التي يكنُّها هؤلاء المشجعون لأنديتهم، وساحة للتنافس الرياضي الذي لم يكن شريفًا في غالب الأحيان، فالميول السياسية دائمًا حاضرة، وإن تمّت صياغتها بشكل فني جمالي.
اليوم، وبعد مرور خمسة عقود على ظهور هذه المجموعات تحوّلت مدرجات كرة القدم في إيطاليا والعالم إلى مساحاتٍ مذهلة لعرض الفنون البصرية، سواء كانت على لوحات قماشية ضخمة، أو عبر الأوراق التي تشكّل لوحاتٍ فسيفسائية. في روما عادت لوحة مايكل أنجلو لتظهر من جديد عام 2020، هذه المرة بأيدي مشجعي لاتسيو بأسلوب مذهل. مشجعو روما بدورهم كان لهم تاريخ طويل مع الفن على مدرجاتهم، ويعود بنا الزمن إلى عام 1995، حينما عرضوا لوحة قماشية ضخمة ترسم أهم معالم روما التاريخية، وكتبوا تحتها: "كم أنتِ جميلة يا روما!"

تيفو جماهير إنتر قبل مباراة ديربي ميلانو في فبراير 2023، يعرض لوحة فسيفسائية لوجه الأفعى التي هي رمز النادي. المصدر: Nicolò Campo/Alamy Live News.
في عام 1986، عرضت جماهير نادي التعاون أوّل تيفو موثّق في المملكة والعالم العربي، في افتتاح بطولة أمير منطقة القصيم عبد الإله بن عبد العزيز -رحمه الله- الودية. تكوّن التيفو من ألواح فلّين، وشكل لوحة تعرض أبرز معالم القصيم، وعبارة تقول: "القصيم ترحّبُ بكم".
انتشرت ثقافة التيفو سريعًا بين الجماهير العربية، خاصة مع تكوّن روابط الأولتراس في مصر والمغرب وتونس، ومع بداية الألفية الجديدة صارت ملاعب أندية شمال إفريقيا تتزيّن بلوحات التيفو في كل المباريات المهمة، ديربي القاهرة الذي يجمع بين الأهلي والزمالك، وديربي الدار البيضاء بين الرجاء والوداد، إضافة إلى أندية تونس العاصمة، كان لها السبق في تصميم العديد من لوحات التيفو المذهلة وتنفيذها، وصارت هذه الجماهير تنافس العالم بهذه الفنون، وفي كل مرة تتفوق على نفسها.
عادت ثقافة التيفو في المملكة لتظهر بشكل عصري حديث في جدة على يد جماهير الأهلي والاتحاد، والتنافس بين جمهور الناديين فسح المجال لأن يتطوّرا سريعًا، ويصنعا فنونًا مذهلة، حتى صار ملعب الجوهرة المشعّة قبلة تتجه إليها الأنظار في المنطقة والعالم عند كل مباراة مهمة يخوضها أحد الناديين. ولم يتأخر جمهور النصر والهلال من اللحاق بقافلة التيفو، وقد شهدت أساليبهم تطوّرًا جماليًّا ملحوظًا بعد أن صارت هذه الأندية تحت أعين العالم بعد التعاقد مع أهم اللاعبين وأفضلهم.
لقد صار فن التيفو علامة مهمة في عالم كرة القدم والرياضات الأخرى، لوحة بصرية كثيفة، تترجم المشاعر الجماعية للآلاف، وتجعل من المدرجات مسرحًا تعبيريًّا مفتوحًا، تتقاطع في هذا الفن العواطف والهويات والانتماءات، وتتشكل من خلاله المواقف بألوان ورموز واستعارات من الحياة والتاريخ والفن. وفي لحظة عرض التيفو يصبح الجمهور جسدًا واحدًا متماسكًا، يملأ المدرج تناغمًا، ليمتد العمل الفني إلى الحالة الشعورية العامة. في هذا الفن نرى التداخل بين الموهبة والمهارة وشغف الجماهير، وكيف يستطيع هؤلاء الشباب أن ينظموا أنفسهم بحماس، ليصنعوا لوحاتٍ جمالية تعبر عنهم جميعًا.