قراءة بصرية في فنِّ القمصان الكروية
في هذا القميص تَظهر المهارة الفنية لخبراء الحرف اليدوية الإيطاليون، في تصميم أطقم نادي إس إس روموليا لكرة القدم، والمستوحاة من الجمال المعماري لكاتدرائية القديس يوحنا اللاتيراني في روما القديمة.
لطالما كان للفنِّ طريقته الخاصة في التسلّل إلى حياتنا. بالنسبة لي، بدأ الأمر بألوان بسيطة، لم تكن مجرّد درجات لونية على قمصان اللاعبين، بل كانت إشارات تحدِّد إيقاع يومي. كنت أراقب تلك الألوان على المستطيل الأخضر، وأعلم أنَّ نتيجتها ستقرِّر مزاج اليومين التاليين في منزلنا. مع مرور الوقت أدركت أنَّ هذه القمصان لم تكن مجرّد أدوات تمييز بين الفِرق، بل كانت لوحات متحرّكة، ينبض الفنّ بكلّ تفاصيلها، من تصميم الشعارات، إلى الخطوط المنحنية، إلى الألوان التي تحمل معها هوية الفريق.. وهكذا وجدت نفسي مأخوذة بسحر الفنّ في قمصان كرة القدم.. من مجرّد زيٍّ رياضي إلى وسيلة تعبير عن الانتماء والشغف والهوية.
في بدايات كرة القدم، لم تكن هناك قوانين صارمة تحكم ما يرتديه اللاعبون، لم تكن اللعبة تحتاج إلى ذلك بعد، فقد كانت تُلعب بشغفٍ، وبعيدًا عن التعقيد. كان اللاعبون ينقسمون إلى فريقين، أحدهما يرتدي ملابسه اليومية العادية، بينما الآخر يتزيّن بملابس أكثر رسمية، في محاولة بسيطة للتفريق بينهم. كان البعض يضع الأوشحة الصوفية حول أعناقهم كوسيلة بدائية لتمييز الأصدقاء من الخصوم. كرة القدم لم تكن مجرّد لعبة عابرة، بل كانت شغفًا يتجذّر في القلوب، لذا كان لا بدّ أن تتطوّر حتى في أدقّ تفاصيلها، فاستخدمت القمصان وسيلة لتمييز الفرق، كانت بدائية الصنع، ثقيلة القماش، دون اهتمام حقيقي بالتفاصيل، ومع تطور اللعبة اختلف الأمر!
أولى بوادر التغيير جاءت حين اشتبك مانشستر يونايتد وسندرلاند بسبب تشابه القمصان، فظهر مفهوم "الطقم الاحتياطي"، معلنًا بداية التصميم الواعي. لاحقًا أصبح لكلّ موقع في الملعب هوية لونية، من الحَكَم الأسود إلى حراس المرمى الذين تميّزوا أولًا بالقبعات، ثمّ بألوان مختلفة منذ 1909.
بدأت الألوان تكتسب دلالات تتجاوز الجانب الوظيفي، وتحولت القمصان إلى لوحات بصرية تحكي قصة النادي ومجتمعه. ومع تطور اللعبة جاء دخول أقمشة جديدة كالبوليستر، وتحول القميص من زيّ تقني إلى بيان بصري، تعكسه الأضواء، ويلتقطه المشجّعون.
عندما ظهرت الأرقام على القمصان في إنجلترا عام 1928، بدأت علاقة جديدة بين اللاعب وقميصه. أصبح الرقم امتدادًا لشخصيته، وشارة يتوارثها الجمهور جيلًا بعد جيل، ثمّ بدأت حقبة جديدة تُشير إلى الدمج ما بين التصميم والتكنولوجيا، دخل مصنع Umbro على الخطّ بتصاميم أخفّ وزنًا وأكثر لمعانًا.
حدث التحول الجوهري في مفهوم القمصان عندما تخلّت البرازيل عن اللون الأبيض، وارتدت ألوان علمها، لتجعل من القميص رمزًا لأمّة كاملة، واستجابةً للخرافة التي ربطت بين اللون الأبيض ونحس خسارة مونديال 1950.
ومع السبعينيات والثمانينيات، أصبح الفنّ الحديث جزءًا من المعادلة: ألمانيا الغربية استلهمت من الباوهاوس - مصطلح يشير إلى مدرسة فنّية نشأت في ألمانيا، كانت مهمّتها الدمج بين الحرفة والفنون الجميلة- قميصًا أيقونيًّا حمل ألوان العلم الألماني بشكل فنّي هندسي، وهولندا بلونها البرتقالي اتخذت من الغرافيتي إلهامًا، ليخرج القميص من حدود المستطيل الأخضر إلى ثقافة الشارع.

هولندا وفن الغرافيتي.
مع دخول الشركات التجارية، أصبحت القمصان لوحات إعلانية، وعناصر ترويجية تحمل أسماء اللاعبين، وشعارات الشركات والرعاة. لكن على الرغم من وجود الطابع التجاري هذا، استمرّت الرسائل الفنّية. فتصميمات مثل "قميص عصر النهضة" لإيطاليا، أو "قميص الأزتك" للمكسيك عام 1996 كانت تحتفي بالهوية الثقافية.

المكسيك وحضارة الأزتك.
كذلك فعلت اليابان بقميص مستوحى من فنّ الأوريغامي -فنّ طيّ الورق-، ونيجيريا برسومها الإفريقية التقليدية التي تُرتدى في المناسبات السعيدة والحزينة على السواء، ليكون القميص احتفاءً بالوحدة والتقاليد.. لتكون الهوية محور التصميم، لا مجرّد خلفية له.
وتستمرّ تصاميم القمصان في سردها للحكايات، كما حصل مع نادي اس اس روموليا الإيطالي، الذي استلهم كنيسة القديس يوحنا في تصميمه، أو فريق روما الذي استعاد إرث الجنود الرومان، وحكاياتهم على أرض المعارك. وفي فرنسا أعادت أديداس الحياة لزيّ البحارة ونابليون.

لم يكن العالم العربي بعيدًا عن هذه الموجة. مصر قدّمت قميصًا يعكس حضارتها الفرعونية، حيث دُمجت النقوش الفرعونية والأهرامات والكثبان الرملية، لتخرج بتصميم يروي قصة أقدم حضارات العالم. والسعودية استخدمت رموز الطبيعة والتاريخ، فقدّمت أقمصة تحتفي بالصقور والفهد العربي، وأخيرًا مشروع نيوم، ليعكس تطلّعاتها المستقبلية، ممزوجةً بعبق تاريخها، ولتكون قمصان منتخبهم تجسيدًا حيًّا للانسجام بين الأصالة والحداثة.

قميص المنتخب السعودي ورموز من الطبيعة والتاريخ: الصقر.
لم تعد القمصان فقط للاعبين، بل للجماهير أيضًا. ملايين القطع تُباع سنويًّا، يرتديها الناس كدليل انتماء وشغف. ومع تطور التكنولوجيا، أصبح القميص أكثر من مجرّد تصميم جميل، بل أداة عملية تضمن الراحة، وتوفّر الأداء، حتى الموادّ أصبحت جزءًا من الرواية الفنّية: ريال مدريد صنع قمصانه من بلاستيك البحر المعاد تدويره، واستخدم نادي Forest Green Rovers ألياف البامبو والقهوة، في إشارةٍ إلى أنّ كرة القدم لا يجب أن تكون مجرّد لعبة، بل أيضًا قوة تدفع نحو التغيير الإيجابي.
لطالما تغنّى مشجّعو ريال مدريد بعبارة خالدة: "قميص مدريد قد يتلوّث بالعرق، بالطين، وحتى بالدم، لكنّه لن يتلطّخ بالعار أبدًا". فاليوم لم يعد القميص مجرّد قطعة قماش، بل سجلٌّ مرئي لهوية النادي واللاعب والمشجّع.. إنّه أكثر من مجرّد زيّ، بل راية ترفرف في قلوب الجماهير، ولوحاتٌ فنّية تحكي قصص الشعوب، وتعيد رسم الحضارات على صدور اللاعبين، حيث تلتقي العراقة بالإبداع في كلّ خيطٍ نُسج بعناية، رمزًا للفخر، وشاهدًا على لحظات الفرح والانتصار، كما أنّه أحيانًا يكون الدليل الوحيد على أنّ كرة القدم ليست مجرّد لعبة، بل أسلوب حياة.

ريال مدريد وقمصان من موادّ معاد تدويرها.