نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

النّاقةُ التي أشعَلتْ فَتيلَ الحَرب
A-
A+
كنوز عربية

النّاقةُ التي أشعَلتْ فَتيلَ الحَرب

النّاقةُ التي أشعَلتْ فَتيلَ الحَرب

الصورة أنشأها الذكاء الاصطناعي (Midjourney) بواسطة الفنانة غادة المهنا، حيث يقدم فًنا تفسيريًّا.

بقلم غادة المهنا
December 14th, 2023

منذ قرون مضت، وعلى امتداد الصّحراء العربية، اندلع صراع واحتدم لمدة أربعة عقود عصيبة (494-534 م). ومع هذا، فإن حرب البسوس لم تبدأ بسبب صراع الملوك أو سقوط الإمبراطوريات، ولكن بسبب الموت المأساوي لناقة واحدة تدعى "سراب". كانت هذه الناقة، التي يعتز بها البسوس، أكثر من مجرّد دابّة لحمل المتاع؛ لقد كانت رفيقة عزيزة، ومصدر فخر، ومنبعٍ للثروة، في أرض كانت فيها هذه المخلوقات جزءًا لا يتجزَّأ من استمرار القبيلة ومكانتها.

وفي أثناء تجول سراب في أراضي قبيلة تغلب، قُتلت على يد كُليب، لم يُنظر إلى هذا الفعل على أنه مجرّد خسارة للممتلكات، بل باعتباره انتهاكًا خطيرًا لشرف القبيلة.

سكبت البسوس المنكوبة والمدفوعة بالحزن معاناتها في أبيات رُدِّدَت فيها مشاعر المظالم الشخصيّة والقبليّة العميقة.

وعلى الرغم من أن كلماتها جاءت من أعماق دفينة محبطة، إلا أنها أصبحت نداءً واضحًا يتردَّد صداها عبر الأجيال:

"لَعمرك لَو أصبحتُ في دارِ منقذٍ
لَما ضيمَ سعدٌ وهو جارٌ لأبياتي..

وَلَكنّني أَصبحتُ في دارِ غربةٍ
مَتى يعدُ فيها الذئبُ يعدُ عَلى شاتي..

فَيا سعدُ لا تغرر بِنَفسك واِرتَحل
فَإنّك في قومٍ عنِ الجارِ أمواتِ..

وَدونك أَذوادي فإنّي عنهمُ
لَراحلةٌ لا يَفقدوني بنيّاتي.."

وكان هذا الرّثاء حافزًا، أجبر جسّاس من قبيلة بكر على المطالبة بالانتقام لخسارة عمته التي وجدها في دماء كُليب.

وهكذا أصبح موت الناقة نذيرًا لدورة انتقامية لا هوادة فيها. لم تكن خسارة سراب هي التي أشعلت الحرب فحسب! بل إصرار القبائل الذي لا يتزعزع على الانتقام من مظلمة تُرتكب ضدّهم.
 

الصورة أنشأها الذكاء الاصطناعي (Midjourney) بواسطة الفنانة غادة المهنا، حيث يقدم فًنا تفسيريًّا.

ومع احتدام الحرب، تحوّلت صورة النّاقة سراب في الذّاكرة الجماعية للقبائل. لقد أصبحت رمزًا للغريزة المتهورة نحو الصّراع؛ كيف يمكن لحياة واحدة - سواء كانت بشرية أو حيوانية - أن تصبح نقطة ارتكاز يتمحور حولها مصير الكثيرين. لقد تمّ سرد وفاة الناقة سراب مرارًا وتكرارًا، وهي حكاية بمثابة تذكير مؤلم بتكلفة الفخر والسّعي الحثيث للانتقام.

تحوّلت السّنوات إلى عقود، ونما الخلاف، الذي بدأ على حياة ناقة واحدة، ليشمل حياة عدد لا يحصى من الأشخاص، مما أدّى إلى تغيير مسار التاريخ للقبائل المعنيّة بشكل لا رجعة فيه.

تقف حرب البسوس بمثابة شهادة على الروابط القوية بين الشّعب العربي وجِمالهم، والجُهد الكبير الذي سيبذلونه للانتقام من الظُلم لاستعادة عزّتهم.

إنها ملحمة تمّت حياكتها في النسيج الثقافي للعالم العربي، وهي مثال مؤثّر للعواقب المدمّرة للانتقام، والحال المأساوية التي يمكن أن تنجم عن عمل واحد من أعمال العنف.

ما تزال حكاية حرب البسوس والناقة سراب يتردّد صداها في العصر الحديث، وإرثها حكاية تحذيرية ضدّ السّعي وراء الانتقام، وتذكير بقيمة المصالحة والسّلام بدلًا من أثمان الصّراع والأحقاد.

الصورة أنشأها الذكاء الاصطناعي (Midjourney) بواسطة الفنانة غادة المهنا، حيث يقدم فًنا تفسيريًّا.
إعادة تعيين الألوان