فنُّ التَّشكيلِ النَّباتي
يعد فنُّ النَّباتات من أكثر الفنون دقَّة وتفانيًا، فهي تغمر حياتنا ببهاء الطّبيعة. على مدى عقود من الزّمن، ظلّت سو ويكيسون تمارس هذا الفن بتفان، وصورت بريشتها عالمًا قليلًا ما نراه في الحياة الواقعية.
مع حصيلة مذهلة من الإنجازات والجوائز، تأثّرت سو بوالدها وهي التي وُلدت وترعرعت في سيراليون غرب إفريقيا. بصفته مدرسًا وعالم نبات هاوٍ وفنّانًا، رأى والد سو حبّ الطّبيعة والشّغف في ابنته، فكان يأخذها في مغامرات ورحلات استكشافيّة لتحديد وتصنيف وجمع العيّنات النباتيّة.
غالبًا ما يتم تجاهل النباتات والإرث الذي يحيط بها، وكأنها أمر هامشي في زحام الحياة اليومية، بفضل جهود سو وفنّانين آخرين مثلها، بدأت النّباتات تحظى بالاهتمام الذي تستحقّه. فقد أصبح الناس أكثر وعيًا بأهمية النباتات للبيئة، وبدأوا يقدرون جمالها وروعتها.
سو ويكيسون، فنّانة تشكيلية نباتية، بين أعمالها الرائعة المستمدة من نباتات القرآن.
تلعب سو دورًا مهمًا في التّوثيق البصري لهذا العالم الطّبيعي، وعبّرت عن ذلك بقولها: "إنّ المساهمة في تسجيل التّراث النّباتي اللّامادي أمر ضروري للمحافظة على التّنوع الثّقافي للمجتمعات وتعزيز العلاقات المستدامة مع البيئة. قد تشمل الجهود المبذولة لحماية هذا التّراث توثيق المعرفة التّقليدية التي تدعم مبادرات الحفظ المستمدة من المجتمعات المحلية".
تحرص سو على تسليط الضوء على الأنواع النادرة والمهدّدة بالانقراض، لتنبيه الناس إليها والحصول على الدّعم لحمايتها. يعد مشروعها الأخير (نباتات القرآن.. التاريخ والثقافة) تتويجًا لسنوات عديدة من البحث الجاد والعمل الواعد بين سيِّدتين.
يعتبر هذا الكتاب هو عمل أصيل حقًّا، إذ يضم بذور الخردل الصغيرة إلى نخلة التمر المهيبة، والنباتات الصحراوية الغامضة إلى المواد الغذائية الأساسية المعروفة، مثل: التين والبصل والعدس والقرع والزيتون.
في لقائنا مع الفنّانة سو، قدّمت لنا أعمالها الأخيرة ببهجة كجزء من هذا العدد المخصّص للتّراث غير المادي.
الفنّ هو شغف غني في حياتي. هو رحلة من التّعليم المستمر، والإلهام والمشاركة والتّواصل، راجية فيها المتعة للآخرين أيضًا. كما أنه شكل من أشكال التّراث والمهارة اليدوية في عالم يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا الرّقمية. هناك مسؤولية وشغف في تسجيل النّباتات بحرص في عدد من الأشكال المختلفة، سواء للكتب أو الطّوابع البريدية أو على القماش أو التّغليف أو السّجلات التّاريخية لتقديمها للأجيال القادمة.

سو ويكيسون، فنّانة تشكيلية نباتية، بين أعمالها الرائعة المستمدة من نباتات القرآن.
دائما ما كانت النباتات جزءًا من حياتي، كوني ولدت ونشأت في سيراليون. وقد علمني والدي - وهو عالم نباتات هاوٍ - منذ سن مبكرة أن أراقب النّباتات عن كثب، وأن أحترمها وأن أفرق بينها عند الخروج لجمعها معه.
كان ذلك الحافز الأولي الذي ساعدني فيما بعد لنيل درجة علمية في الرّسم، تخصّص رسم النباتات، وبعد ذلك عملت في حدائق النّبات الملكية في كيو بالمملكة المتحدة، لتوثيق مجموعات مختلفة من العائلات النباتية لصالح مختلف المطبوعات.
بعد مسيرة مهنية كاملة، أتممت حديثًا معرضًا فرديًا لمدة خمسة أشهر، حظي باستقبال طيِّب في كيو بلندن، لعرض نباتات القرآن. استمر هذا المشروع مدة ثماني سنوات، تُوِّج أيضًا بتعاون مع الدكتورة شاهينة غازانفر، عالمة نباتات كبيرة في كيو، قامت بالبحث والكتابة عن كتاب (نباتات القرآن والتاريخ والثقافة).

سو ويكيسون، فنّانة تشكيلية نباتية
هناك عدّة مراحل لاستكمال العمل الفنّي، منها العمل بمواد طبيعية لضرورة الحفاظ على دقة العمل وأصالته، كما أن البحث والسفر إلى بلدان مختلفة، وتدوين الملاحظات الميدانية، والرسومات التحضيرية، وملاحظة الألوان لفهم شامل لأنواع النباتات وخصائصها؛ كلها خطوات سابقة لتصميم التكوين والرسم النهائي. تستغرق العملية برمتها أشهرًا عديدة لاستكمال أي عمل، حيث يتميز العمل الفنّي بالدّقة والدراية، كما يتم استخدام فرش صغيرة لبناء طبقة فوق طبقة من التفاصيل الدقيقة. وتُستخدم أدوات القياس لقياس النباتات بدقة، وتحليل الزهور تحت المجهر يضيف طبقة إضافية من التعليم والفهم للنبات.
جاءني الإلهام الأول من خلال زيارتي للمسجد الكبير في أبوظبي في عام 2015، كان مسجدًا رائعًا برمته. حين نظرت إلى الزخارف النباتية الممتدة على الأرض والأعمدة والجدران، أردت معرفة ماذا تمثل تلك الرموز. لم تكن هناك معلومات وافية، لذا قرّرت مراسلة زميل لي في حدائق كيو، وقام بتوجيهي إلى الدكتورة شاهينة. كانت هذه بداية موفقة بالفعل، فقد كانت الدكتورة تبحث عن نباتات القرآن وتكتب عنها لسنوات.
هكذا، من فكرة صغيرة كحبة خردل، نشأ تعاون مشترك مع شاهينة من ناحية الكتابة، ومعي من ناحية رسم جميع النباتات المذكورة في القرآن. أثمر هذا التعاون على مدى ثماني سنوات، وتجسد في كتاب منشور، وأيضًا في معرض فردي ناجح أقيم في حدائق كيو في لندن، حيث تمت مشاركته بملايين المشاهدات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا كله أمر يثير التواضع بشدة.

ثمار ونبتة الرمان على الكانفاس، بإذن من الفنّانة.
كل نبتة لها ميزتها وتحدياتها. تُرى نخلة التمر في لوحتين كبيرتين، ارتفاع كل منهما 1.2 مترًا وأكثر، وفيها تَظهر النخلة في مرحلة الإزهار مع تشريح للزهور الذكرية والأنثوية، وكذلك عناقيد كبيرة في مرحلة الإثمار. استغرقت اللوحتان عامين من العمل الدؤوب مع رحلات سفر من نيوزيلندا إلى الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، ليتم جمع وتسجيل كل مرحلة من مراحل نمو النخلة بعناية. بينما كان الوقت الفعلي لإنجاز اللوحتين عدة شهور حتى اكتملت.
من خلال حديثي مع صديقتي جميلة عن نواة التمّر، تجلى لي عمق الإرث الإيماني فيها. إذ ربطت موضوع النواة بقوة إيمانها الإسلامي. وأخبرتني عن الفتـيل (الخيط الرفيع الموجود على شقّ نواة التمر)، وعن القــطمير (اللفّافة التي توجد على نواة التمر وهي غشاء رقيق). كنت على دراية بكليهما، ولكن حديث جميلة جعلني أدركهما بنظرة جديدة، حيث استخدمتهما كوحدة قياس دقيقة مقتبسة من القرآن للحكم على أعمالك الصالح منها أو الطالح، مهما بدا عملك صغيرًا.
لذا، بدافع الفضول العلمي، اضطررت إلى تناول عدد قليل من التّمور اللّذيذة، وبالفعل، كانت هذه الغمّازة الصّغيرة موجودة، ولكن كيف غفلت عن شيء مهم كهذا؟ هل هي مقياس للأعمال الصالحة أم هي النقطة الفعلية للإنبات والنمو؟!
إنّه تراث الإيمان وكيفية استخدام النباتات كدروس نتعلمها كل يوم.
ومَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا" - سورة النساء، الآية 124
منذ تلك اللحظة تعلمت أن أراقب بعناية أكبر، وأن أرصد بشكل أدق تشكل العناصر المشتركة بيننا جميعًا، بغض النظر عن معتقداتنا أو ثقافتنا، وأنه من القوة أن نتشارك وننقل المعرفة من أجل تحسين أوضاع الجميع.
ثم أشارت إلى جزء أصغر بكثير في النواة، يسمى النقــير (النقطة الصغيرة التي تظهر على ظهر نواة التمر في الجهة المقابلة لشقّها الأمامي)، والتي لم أكن على علم بها.
كن نجمًا ملهمًا، ويدًا حانية، وقلبًا عطوفًا، وساعد الآخرين حيث تستطيع.
أمضى فرديناند باور (1760-1826) الكثير من الوقت في الميدان مع المواد الطبيعية، وطور نظامًا فريدًا من نوعه لتغطية الرسومات بخريطة من الأرقام الصغيرة. يمثل كل رقم لونًا، يتعلق بمخطط ألوانه الخاص الذي يصل إلى 1000 لون وظل مختلف. في بعض الأحيان يمكن إكمال العمل بهذه الطريقة بعد سنوات بدقة لا تصدق.
وتم توظيف سيدني باركنسون من قبل جوزيف بانكس للسفر معه في رحلة جيمس كوك الأولى إلى المحيط الهادئ في عام 1768 على متن السفينة إتش إم إس إنديفور. كانت أول رسامة توضيحية تسجل النباتات من أستراليا ونيوزيلندا، وعملت في ظروف صعبة للغاية لتسجيل النباتات للأجيال القادمة.
بينما ماريان نورث (1830-1890) عالمة أحياء وفنانة نباتية إنجليزية فيكتورية غزيرة الإنتاج، مشهورة برسوماتها النباتية والمناظر الطبيعية، ورحلاتها الخارجية الواسعة النطاق بمفردها. ما يزال أكثر من 800 لوحة من لوحاتها معروضة حتى اليوم في معرض في كيو.

بإذن من الفنّانة
يعدّ فنّ رسم النباتات أحد أشكال الفنون التّشكيلية المهمّة، يتطلب فيها مهارات عدة، منها: الملاحظة الدقيقة، والكثير من الصبر والتفاني، ومعرفة علمية بعلم النباتات، والحاجة إلى العمل بشكل وثيق مع العلماء لتسجيل الخصائص الدقيقة لأنواع النباتات بطريقة حرفية وجمالية.
هناك العديد من الكتب والدورات التدريبية حول هذا الموضوع، ويحتوي موقع كاثرين تيريلز على كم هائل من المعلومات:
ما تزال النباتات مهمة لحياتنا. فالرّمان يرمز للخصوبة والخلود في العديد من الثقافات، كما أنه أحد ثمار الجنة، وهو مصدر غذائي جيد يمكن تخزينه جيدًا بفضل قشوره الصلبة.
كان التحدي بالنسبة لي، في التقاط تلك التغيُّرات الدقيقة في الألوان عبر أوراق الزهور الرقيقة والتباين القاسي في القشور الخارجية اللامعة والصلبة. هذه الثمرة مكونة من كتلة من الحبيبات اللحمية العصيرية، حيث يختلف شكل كل حبيبة عن الأخرى المجاورة. كان التحدي مشوقًا في التقاط اللمعان والشفافية حتى أتمكن من إظهار البذرة المخبأة بداخلها.
ما تزال تستخدم اليوم أغصان نبتة Salvadora persica الآراك أو المسواك (أو شجرة فرشاة الأسنان) كفرشاة أسنان. وفائدتها تكمن في أن لحاء الأغصان يحتوي على خاصية مضادة للبكتيريا للمساعدة في نظافة اللثة.
كما يتم تستخدم نبتة Lawsonia inermis (أو الحناء) على نطاق واسع لأغراض احتفالية لم تتغير عبر القرون. يتم فيها سحق أوراق النبات للحصول على صبغة حمراء غنية داكنة اللون، لتشكيل أنماط مزركشة على اليدين والذّراعين، وهو أمر شائع في عدد من الثّقافات في مناسبات الخاصة.
أثناء السّفر للعثور على نبتة Allium sativum (أو الثوم)، صعدت إلى جبال الحجر في عُمان لأرى كيف يتم زراعة الثوم على مدى أجيال، وقد منحني المزارعون في المنطقة إمكانية الوصول إلى ثوم جميل بلون بنفسجي. يحتوي هذا النبات المفيد على استخدامات طبية وتجارية واسعة النطاق، بما في ذلك مضادات الميكروبات، وخصائص مضادة للسرطان.

بإذن من الفنّانة