إرثٌ من الضَّوءِ واللَّون
ويلهو شوستروم، أمسية صيفية، 1912. الصورة بإذن من المتحف الوطني الفنلندي، هانو باكارينين.

كلود مونيه، مكعبات ثلج، 1880. صور متحف دورسيه القصر الكبير باتريس شميدت.
اللَّون والضَّوء والظِّل ورقصات الطَّبيعة وأغانيها الصَّغيرة، مثل حفيف أوراق الشَّجر وتموجات الماء الإيقاعية، ليست سوى بعض الأشياء التي نراها كل يوم ونعتبرها أمرًا اعتياديًّا. أمّا بالنسبة للفنّانين الذين ينظرون إلى العالم بعيون مختلفة، فهذه العوامل تعدُّ مصادر إلهام، تُخلق من خلالها أشكالٌ جديدة من التعبير والإبداع.
تكريمًا لواحدة من أهم الحركات الفنية، يقيم متحف (أتينيوم للفنون) معرضَ "اللّون والضّوء - تراث الانطباعية"، الذي يستكشف التأثير العميق للانطباعية على الفن الفنلندي. يغطي المعرض الفترة بين عامي 1860 و1916، ويضم روائع فنية لفنانين مشهورين مثل إدغار ديغا، وكلود مونيه، وكاميل بيسارو، وأوغست رينوار، وبول سيناك.
توضح هذه الأعمال المميّزة التّأثير العميق لروّاد الانطباعيّة وما بعد الانطباعيّة على الفنّانين الذين واصلوا تشكيل حركة اللّون الفنلنديّة، مثل ماغنوس إنكل، وألفريد ويليام فينش، وإلين ثيسليف، وتيكو سالينن.
يضمّ المعرض الرّئيسي استكشافًا رائعًا لتفاعلات فنيَّة هامَّة وتأثيراتها على نحو عميق، فيما يقارب من 150 لوحة ورسومات ومطبوعات ومنحوتات، كشفت عن فترة غير معروفة سابقًا في البلاد.
كانت مدينة باريس المركز الفنّي الحديث في ستينيّات القرن التاسع عشر، إذ يرسم هذا المعرض بمهارة كيفيّة توافد الفنانّين الفنلنديين على العاصمة الفرنسيّة واحتكاكهم بالانطباعيّة في مطلع القرن.
أثّرت هذه اللّقاءات "الانطباعيّة" على الفنّ الفنلندي، وأعادت تشكيله في العقد الأول من القرن العشرين، وألهمت أشكالًا ومواضيع أسلوبيّة جديدة في اللوحات الفنيّة الفنلنديّة.
يُقام معرض (اللّون والضّوء - تراث الانطباعية) برعاية ماريا ساكاري (مديرة المتحف) وآنا ماريا فون بونسدورف (رئيسة قسم الأمناء)، بمشاركة خبيرة الانطباعية الرّائدة عالميًا، البروفيسور أنثيا كالين. يعرض فيه لوحات معارة من متحف دورسيه، ومعهد كلارك للفنون، ومجموعة أتينيوم الخاصة.
إنها المرة الأولى التي تقدّم فيها إثرائيات أعمالًا فنيّة من هذه المدرسة، ويشرفني كثيرًا أن أعرض لأول مرّة مثل هذه القطع المهمّة من العصر الانطباعي.
تَسعدُ "إثرائيات" أيضًا بإجراء مقابلات مع العقول المدبرة - المشرفين الفنيّين اللذين عملا على هذا المعرض – للتّجول بنا في رحلة ملوّنة بين الماضي والحاضر.

بول سينياك، أنتيب (لوحة غير مؤرخة). المتحف الوطني الفنلندي، متحف أتينيوم للفنون، مجموعة أنتيل. صور المعرض الوطني الفنلندي جيني نورمينين.
ما تزال الانطباعيّة تتمتع بأهمّية ملحوظة حتى يومنا هذا، ربما لأنها كانت الحركة الفنيّة الأكثر شعبية في الماضي. كما أنها تثير اهتمام الناس أيضًا بسبب الأسعار المرتفعة جدًا للأعمال الفنية في سوق الفن.
كانت الانطباعيّة واحدة من أولى التّيارات الفنيّة التي تمّ تسويقها عالميًا من قبل معارض مثل دوران-روي. بدأ الأثرياء الأمريكيون والرّوس في شرائها مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وتعتبر الانطباعيّة أيضًا أول شكل من أشكال الفنِّ الحديث الذي أكّد على وسائل الرَّسم ذاتها، وهي تأثيرات اللّون والضّوء. لم يكن الموضوع في حد ذاته مهمًا جدًا، كما قال مونيه - 1890: "عندما تخرج للرّسم، حاول أن تنسى الشيء الذي أمامك، شجرة كانت أو منزل، حقل أو أي شيء آخر. مجرّد التفكير بأن هنا مربع صغير من اللون الأزرق، وهنا مستطيل من اللون الوردي، وهنا خط من اللون الأصفر، بعدها قم بطلائه تمامًا كما يبدو لك باللّون والشكل الدّقيقين، حتى يعطيك انطباعًا عفويًّا عن المشهد الذي أمامك".
لذا، كانت الانطباعية حقًا شكلاً فنيًا ثوريًّا عندما نقارنها بالحركات النفيسة مثل الواقعية والطبيعية. وقد سبقه الرسم في الهواء الطلق، وهو ما مهد الطريق لأفكار الرسم على القماش أن تهتم بالانطباع الخالص والحقائق البصرية للمرئي. مكّنت الانطباعية من ظهور الحركات الفنيّة اللاحقة، مثل: الوحشيّة، والتكعيبيّة، والتعبيريّة. حيث حرّرت اللّوحة من مجرّد التّشابه بما تراه محاكاة للتّقليد الفنّي.

إلين ثيسليف، منظر طبيعي زخرفي، 1910. تصوير - المتحف الوطني الفنلندي، يحيى عويس.
الحكاية وراء معرضنا "اللّون والضّوء"؛ مبنيّة على تاريخ الفنِّ الفنلندي وتأثّره بمتحف أتينيوم الفنّي الرئيسي في فنلندا.
في الواقع، لم تتّبع دول الشمال أبدًا الحركة الانطباعية بشكل مباشر، إنما اعتبروها حركة سطحية للغاية وتافهة، مقارنة بأذواق الفنانّين ونقّاد الفنّ في نهاية القرن التاسع عشر. بالتأكيد لاحظ الفنانون أن شيئًا ما كان يحدث ويغير أسلوب الرسم، ولكن فقط في العقد الأول من القرن العشرين، بدأ الفنانون في فنلندا في الرسم بألوان أكثر إشراقًا. لذلك يتتبع معرضنا العوامل والمؤثرات المختلفة التي أدت إلى هذه الفترة الجديدة من الفن الفنلندي. كما نعرض أعمال فنّانين فنلنديين، جنبًا إلى جنب مع الانطباعيين الفرنسيين، والانطباعيين الجدد وغيرهم من الفنانين العالميين.
بسبب تأثير الحركة الانطباعية الجديدة في فنلندا، ظهر لدينا فنان مؤثر، وهو البريطاني البلجيكي ألفريد ويليام فينش، الذي انتقل إلى بورفو، وهي بلدة صغيرة بالقرب من هلسنكي، ليدير مصنعًا لإنتاج السيراميك والأثاث، كما كان أيضًا فنانًا خزفيًا لامعًا. ومع ذلك، فقد بدأ حياته المهنية كرسام (نقطي) وكان أحد مؤسسي المجموعة الطليعية Les XX، التي تأسست عام 1883، مروجةً أفكارًا جديدة في الفن.
بعد إغلاق مصنع إيريس في عام 1902، عاد فينش إلى شكله الفني الأصلي، وهو الرسم الانطباعي الجديد. بدأ مع الفنان الفنلندي ماغنوس إنكل في التخطيط لإقامة معرض للانطباعية وما بعد الانطباعية الفرنسية والبلجيكية، والذي أقيم في الأتينيوم عام 1904. تم إرسال جزء من الأعمال الفنية إلى المعرض بواسطة صالة دورند رويل، كان الفنانون جزئيًا أصدقاء قدامى لفينش منذ أن كان عضوًا في Les XX.
كان المعرض مبتكرًا في الترويج للأفكار الجديدة في فنلندا، وأحد القوى الرائدة لإحداث التغيير في عقول الفنانين. كما وجدت عوامل أخرى أيضًا، مثل اثنين من المهندسين المعماريين، غوستاف سترينجل وسيجورد فروستيروس، اللذين كانا يكتبان مقالات نظرية حول اتجاهات التلوين الجديدة في الفن.
دعت الحاجة إلى الكثير من المؤثرات لتغيير ألوان لوحات الفنانين الفنلنديين، ففي فترة ما يقرب من عشر سنوات - من عام 1906 إلى عام 1916 - قام كل فنان تقريبًا في فنلندا بتغيير ألوانه إلى درجات ألوان زاهية

أوغست رينوار، (طريق شاقة في العشب الطويل) حوالي عام 1875. صورة – متحف دورسيه القصر الكبير، باتريس شميدت.
غالبية الموضوعات الرئيسية في الفن الانطباعي كانت من المدن؛ كالمشاهد الصناعية الجديدة التي يظهر فيها الدخان المتصاعد من المداخن أو القطارات، وأيضًا أوقات الفراغ في المتنزهات وشواطئ البحار. الصور كانت ما تزال تُرسم هناك، ولكن في تصوّر انطباعي، إذ كان التركيز الرئيسي على عملية الرّسم نفسها.
لقد اخترنا سبعة مواضيع مختلفة لمعرضنا: الحديقة، والشتاء، والمناظر الطبيعية الريفية، والبحر، والحياة الشاطئية، والعراة، والحياة الحضرية. لم يكن الهدف من اللوحات حلّ أي قضايا سياسية أو اجتماعية، بل كان التركيز على القماش وضربات الفرشاة الملونة المرئية عليه.
من المحتمل أن تكون أشهر أعمال الرسم الانطباعي لمونيه: (انطباع شروق الشمس) عام 1872، التي بفضلها تم اشتقاق اسم المدرسة الانطباعية منها.
تشمل اللوحات الأخرى اللوحات من مطعم Grenouillière الشهير على نهر السين. كان كلود مونيه وأوغست رينوار يرسمان مشاهد من المطعم. وفي الوقت نفسه، كان آخرون مثل بيسارو أو سيسلي يرسمون مناظر المدينة أو مشاهد الموانئ.
المشاهد تضجُّ بالحيويّة فعلًا، وهي تلتقط لحظات اليوم بضربات فرشاة ملوّنة، وهي على الأرجح سرّ جاذبيّتها.

ألفريد ويليام فينش، بستان في لا لوفيير، 1890. تصوير - المتحف الوطني الفنلندي، هانو آلتونين.
لدينا بعض الفنّانين الذين تمّ تضمينهم أيضًا في معرض عام 1904 في متحف أتينيوم، مثل: كلود مونيه، أو كاميل بيسارو، أو ألفريد سيسلي، أو ألفريد ويليام فينش - الذي عرض لوحاته علنًا لأول مرة بعد وصوله إلى فنلندا.
كما يضم المعرض العديد من الفنّانين الفنلنديين، من بينهم: بيكا هالونين، وماغنوس إنكل، وإلين ثيسليف، الذين قدموا جميعًا جنبًا إلى جنب مع فنانين أجانب، وهو أمر مثير للاهتمام.
من الجميل أن نكتشف (أو نعيد اكتشاف) هذا العصر الخاص من البحث الفني والأسلوب، حيث بدأ الفنانون في التركيز أكثر على وسائل الراحة والحريات التي توفرها حياة الطبقة المتوسطة.
يتم تنظيم المعرض حول أنواع مختلفة من المشاهد، حيث الغرف تتمحور حول تصوير الحياة الحضرية والحدائق والحمامات الشمسية وغيرها. تعكس لوحات الأجساد العارية الرجولية والسباحين التي قام بها ماغنوس إينكيل وفيرنر ثوم، الطابع الليبرالي لهذه المرحلة الفنية الجديدة. بينما تلتقط لوحات إينكيل الديناميكية لحركة الانطباعية في حشود المسارح والأسواق الطبيعة المصورة.
وكما هو مذكور في بيانهم الصحفي، سيضم المعرض أيضًا فنانين من مجموعات وحركات أخرى انبثقت عن حركة التلوين الفنلندية. وتشمل هذه المجموعة مجموعة (سبتم) - وهي المجموعة الأولى التي شكلها فنانون فنلنديون، والتي ضمت ثيسليف وإنكل وتومي، الذين استمروا في دفع إمكانيات الألوان، وغالبًا ما كانوا يستخدمون لوحة الألوان الوحشية لماتيس؛ ومجموعة نوفمبر، والتي ضمت العضو المؤسس تيكو سالينن، الذي كانت شخصياته العارية بمثابة تحرك نحو أنماط أكثر تعبيرية.
احتفالًا بالألوان والضوء والطبيعة الراديكالية للانطباعية كحركة فنية إصلاحية، يقدم هذا المعرض نظرة نادرة على تأثيرها وإرثها على الفنون الجميلة الحديثة في فنلندا في العقد الأول من القرن العشرين. وبعد أكثر من قرن من الزمان، فإنه يعكس التاريخ المترابط للحركة الانطباعية والتبادلات الدولية المختلفة التي ربطت هؤلاء الفنانين معًا.

تيكو سالينن، الغسالات (1911). متحف أتينيوم للفنون. الصورة: المعرض الوطني الفنلندي / هانو آلتونين؛ ماغنوس إنكل،

منظر للمنتزه من سان ريمو (1913). متحف أتينيوم للفنون. تصوير: المتحف الوطني الفنلندي / يحيى عويس.
لمعرفة المزيد عن معرض (اللّون والضّوء – تراث الانطباعية)، قم بزيارة موقعهم على الإنترنت.
https://ateneum.fi/en/exhibitions/colour-and-light/
التواريخ: 20 أكتوبر 2023 – 25 فبراير 2024
الموقع: متحف أتينيوم للفنون، المعرض الوطني الفنلندي، هلسنكي.