نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

طَبطَبَةُ المَوروثات الشَّعبية
A-
A+
إسقاطات فنّية

طَبطَبَةُ المَوروثات الشَّعبية

طَبطَبَةُ المَوروثات الشَّعبية

ألوان الطبيعة

بقلم فاطمة ذياب
December 14th, 2023
الفرق بين الحاضر وبين الماضي هو أن الوعي بالحاضر هو وعي بالماضي بطريقة ما
- تي إس إليوت، التقليد والموهبة الفردية.

بألوانها البراقة والزائفة أحيانًا ابتلعت الحداثة الموروثات وأفرغتها من معانيها ودلالتها الروحانية، حتى غدا التمسك بها يرهق الروح ويقض مضجعها. وكَكُل كيانٍ حائر، تتساءل الروح عن جدوى الموروثات في عالمٍ يسير للانقراض، وعن معنى التمسك بها في حين تكمن السهولة كلها في التخلي عنها. التمسك على صعوبته فيه عزاء للروح بانتمائها وانتسابها لموروثات أصيلة، مما يدفعها لتقاوم الخواء بتلمس التاريخ والثقافة غير المادية. وكطبطبة الماء على فؤاد العطشان، يطبطب السدو وتاريخه على وجدان الانسان العربي الخليجي. تبدأ حكاية بيت السدو في السبعينيات في بيت عائلة المرزوق، قبل أن يطغى عليه مسمى بيت السدو. كانت البدويات تجتمعن فيه مع سيدات المجتمع، ليتفاعلن معهن ويعملن في حياكة السدو لسنواتٍ عدة، حتى أتت التسعينيات لتجلب معها تساؤلات عن كيفية نقل جماليات السدو للأجيال القادمة، إلى أن أُنشئت جمعية حرفية تعاونية برعاية وزارة الشؤون الكويتية، لتتمسك بأهداب السدو حتى لا يندثر مع الماضي ولا يتغير في المستقبل، بل يثبت ذكرى جميلة تؤثر على مجتمعها وتجعل أفرادها بدورهم يعتزون بتاريخٍ ينتسبون إليه.

 

بيت السدو لا يحمل السدو فقط، بل يحمل تاريخًا عمره ثمانٍ وسبعون سنة منذ أن تم بناؤه من طين لتهدمه أمواج البحر عدة مرات قبل أن يبنى من الأسمنت كي يصمد ويدوم، ثم تأثّر هذا البناء من الغزو العراقي الغاشم للكويت، ليتم ترميمه مرةً أخرى، وفي كل هذه المرات أثبت السدو لنا بأنه موروث جاء ليبقى. ولكي يلم بيت السدو جوهر هذا الموروث فإنه يحكي قصته في متحفه، ويمارس عملية إحياءه في أنشطته التي تعدت حدود بيت السدو، إذ أدرج في المناهج التعليمية المدرسية في مادة الفن. ليحافظ السدو على حضوره، يجب ألا ينجرف مع انطباعاتنا ورؤيتنا الشخصية عنه. فالذكريات التي تنجرف مع مزاج صاحبها تتحول إلى شيء هلامي مبتذل لا يحمل قيمة ولا ثباتًا. لهذا يطلق مسمى السدو لغًة فقط على النسيج الذي يُحاك على الطريقة التقليدية لعمل السدو. فالتقليد ينقل الأصالة إلى المستقبل، بحيث نستمد هويتنا الثقافية منها، فإذا تحركت وتغيرت قواعدها، فستتحول الهوية بدورها إلى شيء مائع. ولكن الزمن - ذلك الشيء الذي كلنا نعيش في ظله – بحد ذاته متغير. وإن بقي السدو بجوهره، بكل تأكيد ستزداد أهميته مع الوقت.

 

في الماضي كان السدو حاجة، ورموزه تتعدى الحدود الفنية، فَمثلًا كانت النساء البدويات تعلمه لبناتهن منذ التاسعة حتى تعمل البنات على سدوهن الخاص استعدادًا للزواج والتفاخر به في بيت الزوجية دليلًا على مهارتها وإبداعها. وكان يرمز للمكانة الاجتماعية، فقِطع الفقراء تختلف اختلافًا تامًا عن قِطعِ الأغنياء ونقوشها. وكانت بعض الرموز (صورة الدلة) تُنقش على السدو نفسه حتى ترسخ تاريخها ووجودها، أما في الحاضر، يحافظ الإنسان العصري على جوهر السدو باستخدامه لأشياءٍ مختلفة كالتأمل والراحة وقضاء وقت مريح وأداة لتسهيل العيش، كاستخدام قطعة (الخرج) لخزن الملابس والاغراض. ومع تقدم الزمن يظل الحاضر يحاكي الماضي ويكمل فصوله.

ألوان الطبيعة
روح السدو
 تناسب وانتظام

يلم السدو في جوهره عبق الماضي، ويعكس الهوية الصحراوية في ظاهره. كل شكل ورمز فيه مترع في طياته بالطبيعة والتنوع الثقافي والمناخي لشبه الجزيرة العربية. يحوي متحف بيت السدو الكثير من القطع التي تبين معاني ورموز السدو في قطعه المعروضة. فَفي قطعة الفجة المنسوجة بنقشة الشجرة في الوسط التي تمت حياكتها قبل عام 1973م، نستطيع رؤية "الدلة" كرمز يعكس ثقافة البادية في الضيافة والكرم. النقوش المستعملة تعتمد في الأساس على أشكال هندسية مبسطة، تعتمد في جوهرها على مبدأ التناظر والانتظام. ليدل على تآلف الإنسان الصحراوي مع الطبيعة ورتابة تحولاتها. وتختلف أساليب ونماذج الحياكة التي تعتمد على طريقة إعداد وجمع خيوط التسدية وربطها بالسدى، وازداد جمال القطع المتنوعة بسبب تطور تقنية الحياكة. هناك النسيج المسطح والبسيط الذي يعتبر من أبسط أنواع الحياكة، حيث يكون وجه النسيج وظهره متشابهين. ويستخدم لهذا التصميم خيوط من صوف الغنم وشعر الماعز ووبر الجمل والقطن، ويتمتع هذا النسيج بكافة الألوان الطبيعية الصحراوية. 
 

بينما يختلف أسلوب اللقطة إذ يكون الشغل على النقوش أكثر تعقيدًا، بحيث تتم حياكته من خلال لف مجموعة من خيوط السدى مع بعضها البعض بخيط اللحمة، وتظهر فيها اللحمة على الوجه فقط، على عكس أسلوب النسيج البسيط. تتعدد الأساليب وأنواع الأنسجة، ومع اختلافها تظل خيوط التسدية هذه تربط بين الثقافات العربية والغربية. فلكل حائكي السدو بيئتهم التي نسجت لهم نسيجًا خاصًّا بهويتهم الثقافية. تميزت بادية الخليج بصوف الغنم وشعر الماعز ووبر الإبل، بينما اشتهرت مصر بنسيجها الناعم القطني والكتان، والصين نسجت الحرير لاكتشافهم دودة القز، وتقترب تايلند من الصين لتشابه البيئة. لا توجد حدود لاختلاف الطرق والأساليب، وأيضًا المسميات، فبينما يطلق بدو الخليج على تطريزهم اسم "السدو"، يُسمى في دمشق "بالأغباني" الذي كان يُصنع من الحرير الطبيعي الموجود في البيئة السورية. وفي البيئة الأردنية يطلق على الثوب التقليدي "المدرقة" مشتقًّا من فعل درق أيّ تَسَتر. بينما يُسمى التطريز الفلسطيني "الرومي" أو "الرهباني".
 

وتتشابه نساء فلسطين مع بدو الخليج في تعلم الحياكة منذ نعومة الأظافر، وتتعلم نساء كل قرية الأشكال الزخرفية المستخدمة في التطريز الدال على الهوية القروية الفلسطينية، ومع التجديد في التطريز يتم الحفاظ على البنية الأساسية.يختلف العرب في مسميات السدو ومظاهره، ومع ذلك يجتمع جوهرهم في ماهية واحدة. فالانتساب الطبيعي للأرض هو ما ارتسم على الوجه الأصيل لثقافتنا غير المادية في الحياكة والتطريز. فالحداثة لا تستطيع محو الأصالة، ولا تتشوه ما دامت الجذور متأصلة في التقاليد كتأصل شجرة الزيتون في فلسطين لما يقارب الستمائة سنة. تحنو علينا ثقافتنا هذه بالانتساب والانتماء لهوية يرتكز جمالها في لبّها وظاهرها، تطبطب علينا كل يوم، لئلا نغدو فارغين وعابرين لا نملك أرضًا ولا وطنًا.
 

إعادة تعيين الألوان