نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

أبوابٌ صامتة، وحروفٌ مرهفة..
A-
A+
فنان الغلاف

أبوابٌ صامتة، وحروفٌ مرهفة..

أبوابٌ صامتة، وحروفٌ مرهفة..

البراجيل، ما بين الواقعية والرومنسية والسحرية، اللوحة الفنية من عمل عبد القادر الريس، بإذن من الفنان.

بقلم ريم الغزال
July 15th, 2024
"المُهمَل والوحيد، وتلك الشّقوق، والانحناءات، والظِّلال... كلها ألهمتني بجمالها الأخَّاذ، فكان لا بد لي من توثيقها، وكشف أسرارها الخفية".
عبد القادر الريس، فنان إماراتي مبدع.


الفنان عبد القادر الريس، رائد الفنون الجميلة الإماراتية، الذي عُرفَ بإبداعاته الفنية المفعمة بالألوان المتنوعة، بدأ حياته زاهدًا بعيدًا عنها.
يستعيد الرجل - الذي أبدع بريشته على مدار 60 عامًا - ذاكرته من خلال لوحاتٍ فنية ساحرة، تُصنَّف ضمن الواقعية السحرية، فيصفها قائلًا: "لم يكن متاحًا في ذلك الوقت سوى اللَّون الأسود، وربما القليل من الأزرق".


يحوِّل الفنان تلك الكتل المعمارية، إلى أعمالٍ فنية مبهرة، مثل نافذة تقليدية مهجورة إلى منحوتة مُزهَّرة، وباب خشبي إماراتي تقليدي إلى جدارية بأشكال هندسية رمزية، وقارب صيد اللُّؤلؤ أو الأسماك إلى رمزٍ نابضٍ للأمة، وأبراج الرياح المعروفة باسم (البراجيل) إلى أحلامٍ ساحرة، تُحاكي الخيال، وتُعيد للأذهان أجواء القصصِ الخرافية والمحكية في كتاب ألف ليلة وليلة.

عبد القادر الريس، رائد الفنون الجميلة الإماراتيّة. 
أبواب تقليديَّة من مجموعة (البيت) للفنّان عبد القادر الريس، بإذن من الفنان. 
أبواب تقليديَّة من مجموعة (البيت) للفنّان عبد القادر الريس، بإذن من الفنان. 
"أريد لأعمالي الفنية أن تسافر إلى قلوب الناس، وتحثُّ مشاعرهم، وهي بالفعل تنجحُ في ذلك، إذ يتردد صداها بشكلٍ مختلف باختلاف المتلقي".
عبد القادر الريس، فنان إماراتي مبدع.

كل قطعة فنية صاغها الفنان عبد القادر تحكي قصة استثنائية من الألوان، والرُّموز النافرة والمموَّهة، والحروف، و(النقطة) التي يَشتهر بها، بالإضافة إلى المواضيع الاجتماعية والتاريخية.
تتوزّع أعمال الفنّان الحائز على جوائز في أماكن متنوِّعة، بدءًا من المنازل الخاصة، والمتاحف، والمؤسسات، وصولًا إلى المكاتب الحكومية، بل حتى على متن قطار المترو في دبي، حيث تستقبل مرحبةً بالرُّكاب.
 

ولد الفنان في بر دبي عام 1951،

في بلدٍ يتَّسم بالبساطة، وقلَّة المباني، وانعدام الطرق المعبَّدة. فترة غابرة تتناقض بشكل صارخ مع دبي الحالية، الإمارة النابضة بالحياة، ومدينة المستقبل، في واحدة من أغنى دول العالم.
في الوقت ذاته، كانت أوروبا تنهض من ركام الحرب العالمية الثانية، وتغرس بذور الاتحاد الأوروبي المتين، ساعيةً إلى تجنُّب العودة إلى حقبة الدمار المظلمة. لقد غرقت القارة العجوز بكل ما للكلمة من معنى في ظلالٍ رماديةٍ قاتمة، وهي تحاول لملمة جراحها وإعادة بناء ذاتها.
يقول الفنان عبد القادر: "في تلك الفترة كانت الكويت هي زهرة المنطقة، فيها اكتشفت ألواني".
 

لوحة بورتريه للفنان عبد القادر الريس - 1973، زيت على خشب، بإذن من الفنان. 

فقدانه المفجع لوالده دفعه وهو في عمر التاسعة إلى العيش مع أخته وزوجها في الكويت، إذ كانت تشهد ازدهارًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا في الستينيَّات بعد استقلالها عن بريطانيا عام 1961. فتحت أبوابها للمواطنين والمقيمين، وهناك وجدت المواهب الشابة مثل عبد القادر الدعم والتشجيع، الأمر الذي طوَّر كثيرًا من موهبته في الرسم والتلوين.
يخبرنا قائلًا: "كنت سعيد الحظ بوجود أفضل أنواع الألوان والدهانات الفرنسية بين يديّ، لم يكن ينقصني أي شيء في الكويت، وإليها يعود الفضل لما أنا عليه اليوم".
وفي الكويت التقى عبد القادر بنخبة من الفنانين العرب الرواد، ومنهم مؤسّسو حركاتٍ فنيةٍ جديدةٍ مثله، حيث استلهموا أعمالهم من هذا المنبع المترع بالإبداع والأصالة.
حسن الصلة، ورقيق الكلام، بعينين متألقتين، يبعث الريس الهدوء والفضول في نفس مَن يلتقيه. ربما شخصيته هذه تُستمد من إحساسه وقدرته على تفسير ما يراه بطريقةٍ سحريةٍ وحالمةٍ في آنٍ واحد.

 

يقول الريس: "تربطني علاقة خاصة بما أرسمه، علاقة لها خصوصيتها في معناها، فبعد أن أتعرف على موضوع لوحتي جيدًا، أعبِّر عنها للعلن بطريقةٍ مميزةٍ."
مع مئات الأعمال الفنية، يستحيل تصنيف أعمال عبد القادر ضمن فئةٍ فنية واحد، فكلٌّ منها تحمل قصتها التي تربطها بالفنان، والفترة التي مرت بها.
كان عبد القادر فنانًا عصاميًا، تعكس سْكِتشاته الأولى بقلم الرصاص طفلًا عميق المشاعر، كثيرًا ما عبَّر عن شعوره بالوحدة من خلال بورتريهات ذاتية، تُظهر ملامح حزينة وعيونًا ممتلئة بالدموع.
وجاء في حديثه: "مع أني كنت أشعر بالوحدة، وأشتاق إلى بيتي وعائلتي في دبي، إلا أن البعد عن الوطن – باعتقادي - له تأثير إيجابي أيضًا، إذ يدفعك نحو النضج، ويجعلك تقدِّر الأشياء الصغيرة في الحياة". 
 

وببلوغه عمر الشباب تطورت التفاصيل في فنه بشكلٍ ملحوظ.
من ناحية أخرى أصبحت الطيور الصغيرة المرسومة بقلم الرصاص لوحاتٍ حية بالألوان المائية، وبرزت وجوه الفتيات (المتخيَّلة) وبورتريهات أفراد العائلة والأصدقاء المحفوظة بعناية في دفاتر الرسم، مما يعكس روحًا ملؤها الحنين، تُقدّر العائلة، والطبيعة، ومفهوم (البيت).
هذا الحنين العالمي الذي يشعر به كل واحدٍ منّا تجاه بيته، وعائلته، وإحساسه بالانتماء، هو موضوع متكرر في أعماله. كما اشتُهر بتفسيره الملوَّن للأبواب الإماراتية التقليدية، التي تكون أول ما يصادف المرء عند وصوله، وبإبداعاته السحرية التي تعبر عن هُويَّته الإماراتية والعربية من خلال إعادة إحياء الفن المعماري، واللحظات التاريخية التي أثرت في حياته وحياة بلده والمنطقة، حتى أصبحت أعماله الفنية الآن أرشيفًا مهمًا، وسجلًا حافلًا للمواقع الفنية، والمعالم الأثرية، والتصاميم القديمة.
يقول في حواره معنا: "كنت أرغب في الحفاظ على تراثنا في ظل ازدهار البناء، والتوجه نحو كلِّ ما هو جديد ومختلف في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي داخل دبي وبقية الإمارات".
 

من مجموعة عبد القادر الريس (الناس والزمن)، بإذن من الفنان. 

من بين هذه الكنوز المعمارية المفقودة (مسجد العتيبة) الذي اندثر بسبب التطور العمراني، لكنه بقي محفوظًا ببهائه للأبد بفضل ريشة عبد القادر. اللوحة التي تحمل عنوان (لئن شكرتُم لأزيدنَّكم) رسمت عام 2016، وهي تجمع بين الأشكال التكعيبية التجريدية التي تميِّز الفنان، وبين صورة واقعية بالأبيض والأسود لمسجد الشيخ زايد الكبير، تحاكي في دقتها الصور الفوتوغرافية، كأنَّها نافذةٌ تطلُّ على المستقبل.
يقول الريس: "في ذلك الوقت، كانوا فقراء عندما بنوا مسجد العتيبة، ووضعوا كل ما لديهم في هذا الهيكل الرائع ذي الطابع الفريد. لذا أعود دائمًا إلى ذكرياته، وأصحب معي المشاهدين في هذه العودة".
 

ويعرّف عبد القادر كبار الفنانين الأوروبيين مثل: ليوناردو دافينشي، ورمبرانت على أنهم (أساتذته). ويستذكر الساعات الطويلة التي أمضاها في رسم لوحة الموناليزا لدافينشي و(ابتسامتها الحزينة)، كما يشير إلى أنه كلما تعمق في استكشاف الفن زادت رغبته في تطوير رؤيته الخاصة للفن التجريدي اللامحدود.
ويخبرنا من واقع تجربته: "أردت أن أضفي لمسة عربية، لذا بدأت في تجربة الخط العربي والرموز والموضوعات العربية، مثل الأشجار التي تنمو هنا، أو المناظر الطبيعية التي تميز المنطقة".
أحد أشهر أعماله الفنية مجموعة تُسمّى (حروفيات)، عبَّر عبد القادر من خلالها عن المعاني العميقة التي تحملها الحروف في الثقافة العربية.
 

أبواب تقليدية، وأبواب من أماكن مهمة بالنسبة للفنان، من مجموعة (البيت) للفنان عبد القادر الريس، بإذن من الفنان. 
أبواب تقليدية، وأبواب من أماكن مهمة بالنسبة للفنان، من مجموعة (البيت) للفنان عبد القادر الريس، بإذن من الفنان. 
 أبواب تقليدية، وأبواب من أماكن مهمة بالنسبة للفنان، من مجموعة (البيت) للفنان عبد القادر الريس، بإذن من الفنان. 

ويضيف: "بدأت بدراسة حرف الواو لجماله الفريد، إذ يتميز بمنحنياته التي تحمل معنى عميق للاتصال والتواصل بين الأفراد".
في الوقت نفسه يُمكن وصف الحرف (هاء) كأنه (امرأة تظهر من وراء برقعها)، إذ تتمتَّع كل حروف اللغة العربية بشخصية مستقلة في عالم عبد القادر الفني.
ولأن عبد القادر مرهف الحس اتجاه معاناة الآخرين ومحنتهم، قدَّم لوحات تجسد الأزمات والصراعات التي شهدها زمانه، ومأساة الشعوب التي تعاني من الحروب والاحتلال، كالقضية الفلسطينيَّة. وفي الوقت نفسه يصوّر إصرار هذه المنطقة على مواجهة التحدِّيات الكبيرة.
في عام 1969، تم بيع أول عمل فني لعبد القادر، لوحةٌ تصويريةٌ لأولاد وبنات من اللاجئين الفلسطينيين، جسَّد فيها وبعناية شديدة معاناتهم وألمهم من خلال تعبيرات وجوههم. تم بيع اللوحة بمبلغ 40 دينار آنذاك (حوالي 100 دولار أمريكي)، واشتراها سائح أوروبي يزور المنطقة، ويهتم بجمع الفنون.
يخبرنا الريس عن تجربته: "إنه شرف كبير لي أن أبيع أحد أعمالي، خصوصًا تلك التي أنجزتها بقلب يبتهل بالدُّعاء من أجل تخفيف معاناة أطفال الحرب."
عاد إلى دبي في عام 1973 بعد قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة في 2 ديسمبر 1971. انضم بعد ذلك إلى وزارة العمل، وحصل على درجة البكالوريوس في القانون والشريعة الإسلامية، وكان يُشرف على فضِّ النزاعات بين العمال وأصحاب العمل وغيرها من القضايا.
 

في أثناء عمله، وكلما سنحت له فرصة فراغ، مارس الرسم والرسم التخطيطي والتلوين، حتى أصبح واحدًا من أوائل الفنانين الإماراتيين الذين استكشفوا عالم الألوان الرائع، كما كان من الأعضاء المؤسّسين لجمعية الإمارات للفنون الجميلة في الشارقة. وبدأ بإقامة معرض فردي سنوي ابتداءً من عام 1989 في المجمَّع الثقافي بأبوظبي، باستثناء عام 1996 حيث أقام معرضين.
على الرغم من تحقيقه لعددٍ من الجوائز والشهادات التقديرية، إلا أن هناك تاريخًا محددًا يحمل له أهمية كبيرة، إذ تغمرُه السعادة كلما تذكر الخامس من يناير 1995، يقول ضاحكًا: "كان ذلك عندما قررَّت ترك وظيفتي لأصبح فنانًا بدوام كامل، إنَّه أفضل يوم في حياتي!".
سواء كان يعبِّر عن الأوضاع الراهنة من خلال فنه، أو يخلِّد الهياكل والعناصر الثقافية والتراثية، أو يعيد تصوير الحروف العربية، فإن لوحاته أصبحت سفيرة الثقافة الإماراتية.
عُرضت أعماله الفنية حول العالم، بما في ذلك بولندا، والتشيك، والولايات المتحدة، وألمانيا، والكويت، والسعودية، وفرنسا، والمغرب.
وذكَّر عبد القادر بقول المغفور له الشيخ زايد، الأب المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، بأن كل ما في حياتنا وأرضنا هي هبة من الله، ولذلك يجب علينا أن نكون متواضعين، ونرد الجميل بصدق، وأضاف أن هديته في هذه الحياة هي الفن الذي يمارسه، وألوانه التي يقدِّمها للجميع.
 

إعادة تعيين الألوان