ما وراء الباب
باب نجدي بنقوش ملونة واضحة، بإذن من هيئة تطوير بوابة الدرعية.
لم يكن الباب في الثقافة السعودية مجرد فاصل عبور إلى مدخل البيت، فالباب يمثّل الضيافة والحماية، والمنطقة الفاصلة بين الحياة الخاصة والعامة. وعند الحديث عن الباب النجدي على وجه التحديد نجد تفصيلًا إضافيًّا، فهو صورة اجتماعية ونافذة، وقصة لمن يسكن في هذا البيت.
لأجل هذه الأدوار وغيرها يروي معرض (ما وراء الباب) قصة الباب النجدي، وأسرار صناعته واستدامته.
(ما وراء الباب) أكثر من معرض فنّي، هو احتفالية بالتراث النجدي متمثلًا في الأبواب وسحرها الدائم. وهو لا يكتفي بتكريم الحرفيين التقليديين والفنانين المشاركين في المعرض وحسب، بل يلهم جيلًا جديدًا من الشباب والشابات، ويحفزهم لإظهار التقدير لثقافتهم المحلية. وهو أيضًا من جهة أخرى، ثمرة البحث الذي امتدّ لعامين، وضمّنت فيه القيّمة الفنية د. إيمان الجبرين حصيلة مشاهدات ولقاءات وتأمّل عميق في تاريخ الباب النجدي وجمالياته.
يقدّم هذا المعرض الذي انطلق في قلب الدرعية فرصة ذهبية للإبحار في أحد أكثر التعبيرات الفنية التصاقًا بالتراث النجدي مستكشفًا الأهمّية التاريخية والثقافية والفنية لها.
كلّ مساحة من المعرض مخصّصة لتوضيح وشرح تفاصيل مختلفة من الباب النجدي، من التراكيب الهندسية والقطع المشكّلة للباب وأقفاله، إلى الألوان ورمزيتها وارتباطها بالنقوش المستوحاة من الطبيعة حولها.
عريشة الفنان علي الرزيزاء، بإذن من هيئة تطوير بوابة الدرعية.
بين الأبواب القديمة وحياتنا المعاصرة رابطة سرّية لا ترى، فهي وإن كانت مرتبطة بالماضي والتراث؛ إلّا أنّها ظهرت اليوم في عدّة مشاريع فنية في المعرض. وقُسّمت مساحاتها كما لو كانت أجزاء للباب نفسه، فالزائر ينطلق من مساحة استخدامات الباب النجدي، إلى جمالياته، ومن ثمّ أُسس الحركة في الأبواب، مرورًا بأدوات صناعتها. وبين كلّ مساحة وأخرى تكشف القطع الفنية عن تاريخ أو إلهام معاصر.
ولعلّ أهمّ هذه المساحات عريشة الفنان علي الرزيزاء، الذي نشأ في كنَف جدّته، رحمها الله، إذ كان لبيته وتفاصيله النجدية بالغ الأثر فيه. ومن هنا بدأ اهتمامه بالأبواب النجدية والنقوش الجصّية للبيوت باعتبارها أحد أهمّ السمات الفنية البارزة في العمارة النجدية، ليبدأ لاحقًا بتصميم أثاثه وصناعته بنفسه. وجدنا الباب النجدي بجميع نقوشه حاضرًا في ما يصنعه. ومن خلال هذا الامتداد، شهدنا الارتباط بين الماضي والحاضر، والدمج بين الزخارف التراثية والتقنيات التقليدية والهندسة المعمارية.
المنطقة التفاعلية في المعرض، بإذن من هيئة تطوير بوابة الدرعية.
احتفظت الأبواب النجدية ببساطتها وجاذبيتها على مرّ السنين، فهي تُصنع من موادّ محلية أوليّة، وتقتبس عناصرها الزخرفية من البيئة الطبيعية، وفنون العمارة المحليّة، إضافة لما يحيط بها من تأثيرات بيئية وثقافية أخرى، وفي اختلاف وظائفها تنوّعت الأبواب، وتعدّدت، ومن أهمّها:
تختلف أحجام الأبواب الخارجية، وتتبع أحجام البيوت التي تنتمي لها، وهكذا نرى في البيوت المتوسطة والكبيرة عادةً بابين رئيسيين: أحدهما لاستقبال الضيوف، يتميز بحجمه وكثرة زخارفه وألوانه وقربه من الشارع متوسّطًا واجهة المنزل الأمامية، والآخر مخصّص للعائلة متواريًا عن الشارع ليمنح ساكني البيت الهدوء والخصوصية، يكون حجم الباب هنا أصغر، ونقوشه وزخارفه أقلّ.
إنّ باب المدخل، إضافة لكونه طريقًا للدخول والخروج من البيت، إلّا أنّه أول ما يستقبل الضيوف، وفي زخارفه دلالات الاعتزاز بالكرم والجود.
يجسّد هذا الباب قيم الكرم والجود لدى أهل نجد، وأصبح المجلس - أو ما يسمّى القهوة – منطقة محورية في تصميم بيوت أهل نجد، فهو أكبرها مساحة، ويحتضن الاجتماعات ومظاهر الضيافة.
يبنى المشبّ في صدر المجلس رمزًا للضيافة، ويتكون من الوجار والكمار. والوجار فتحة مجوفة إلى الخارج، توقد فيها النار لتجهيز القهوة السعودية للضيوف، بينما تبنى أرفف الكمار من الطين والجصّ، وتستخدم لتخزين أدوات الضيافة: كالدلال والمحماس والملقاط والفناجين، وأدوات تقديم القهوة والشاي للضيوف على اختلافها.
أبواب نجدية لأغراض متعدّدة، بإذن من هيئة تطوير بوابة الدرعية.
تصنع الأبواب النجدية من موادّ أوليّة محلية كخشب الأثل أو النخيل، وما يحدّد المادّة الخام لصناعة الباب استخداماته ووظائفه، فخشب الأثل خيار الصانع للأبواب التي تتطلّب الصلابة والتّحمل، أمّا تلك التي تتطلّب القوة والخفة فتصنع من خشب النخيل، لذلك صنعت بوابات القصور من ألواح جذوع النخيل لتصبح أخفّ وزنًا، وأسهل حركة.
أمّا خشب الأثل فهو خيار مثالي للأبواب الداخلية في البيوت بسبب قوّته وصلابته. هذا الخشب يحتمل النحت والتزيين والتلوين، كما تطعّم الأبواب المصنوعة من خشب النخيل في بعض الأحيان بقطع من خشب الأثل، لتزيد من متانتها وقوتها دون تحميلها وزنًا مضاعفًا يخلّ بوظيفتها.
النقوش والزخارف في الأبواب النجدية، بإذن من هيئة تطوير بوابة الدرعية.
النقوش والزخارف في الأبواب النجدية، بإذن من هيئة تطوير بوابة الدرعية.
نشاط تفاعلي في المعرض لتركيب الأبواب، بإذن من هيئة تطوير بوابة الدرعية.
زُيّنت الأبواب النجدية قديمًا بتقنيات الحفر والكيّ، ويتمّ اختيار التقنية المناسبة بناءً على مكان تركيب الباب واستخداماته. فالأبواب الخارجية تزخرف عادة بالكيّ بالنار لتظهر زخارفها بوضوح للعين، ولتقاوم الظروف المناخية الصعبة للمنطقة. هذه التقنيّة تسمّى في اللهجة النجدية التكواة، حيث تسخّن الأدوات الحديدية مختلفة الأحجام والسماكة حسب الزخارف المرغوبة، ويكوى بها الخشب مباشرة. كما تزيّن الأبواب الخارجية أحيانًا ببعض العناصر المعدنية كالمسامير المقبّبة والمسّطحة والسلاسل، وهذا يرتبط بالقدرة المالية لصاحب البيت، وتوافر الموادّ الخام في الأسواق المحلية. أمّا الأبواب الداخلية فتنفّذ زخرفتها بالحفر اليدوي السطحي، أو العميق بمعدّات خاصة دون الحاجة إلى الكيّ.
1- النقطة التي تُرتّب بشكل فردي، أو في مجموعات لتكوّن ما يسمّى عنقود العنب. يُعتقد أنّ هذا التصميم استلهم من عناقيد العنب التي كانت تنبت في وادي حنيفة.
2- الدائرة التي تظهر في مجموعة من عدّة دوائر بعضها داخل بعض، وقد تأخذ أيضًا شكل الشمس.
3- المثلّث ويظهر منفردًا أحيانًا، أو منتظمًا في مجموعات.
لُوّنت الأبواب في البدء بطريقة مبسّطة، وزيّنت باللونين الأسود والأحمر وأحيانًا الأصفر. وعندما نشطت الحركة التجارية، وزاد التبادل الاقتصادي مع الهند والعراق وبلاد الشام، شهدت الأبواب انتعاشًا في تصاميمها وألوانها، وأصبحت الألوان جزءًا مهمًّا من جماليات الأبواب.
هذه النقوش والألوان قدّمت شهادة حيّة إلى يومنا الحالي، فالباب النجدي مؤشّر للحالة الاقتصادية والاجتماعية لصاحبه. والبيوت تُعرف من أبوابها وحرفيّة صانعيها.
النقوش والزخارف في الأبواب النجدية، بإذن من هيئة تطوير بوابة الدرعية.
بين أيدينا اليوم واحد من منتجات الحرف اليدوية المحلية التي تلقّت الكثير من الاهتمام والاحتفاء، ففي كلّ باب نجدي نقرأ الإرث العريق للمنطقة، وتفاصيل مهارة صانعيها. كان المعرض فرصة ذهبية لالتقاء أجيال من المهتمّين والفنانين المتخصّصين في العمارة النجدية، والفنون المنبثقة منها. وشهد جلساتٍ وحوارات ثقافية مصاحبة كانت نقطة انطلاق لما سيبدو عليه مستقبل هذا الفنّ.
المراجع
ما وراء الباب: أسرار ومدلولات الباب النجدي التقليدي / د. إيمان عبدالعزيز الجبرين، 1445ه