نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

بين المطرقة والبيذانة
لقاء خاص

بين المطرقة والبيذانة

بين المطرقة والبيذانة

 نقش البيذانة. بإذن من د. سعيد الوايل.

بقلم حسن الباذر
July 15th, 2024
لو طَهُرت أبواب البصيرة، لرأى الإنسان كل شيء كما هو في جوهره، لا نهاية له.
الشاعر الإنجليزي ويليام بليك (1757 - 1827م)

بدأ الدكتور سعيد الوايل حياته المهنية بالتأمل في الحرف التراثية وكيف تَجسّد الموروث الثقافي للإنسان في الأشياء، وبالأخص في ذلك الشيء الذي يحميه من ضجيج العالم الخارجي، يوفر له الوقاية ويعطيه مدخلاً إلى ما يعتبره منزلاً وسكنى، أي مساحته الآمنة. لذا شرع في دراسة الأبواب عن كثب، متفحصاً تصاميمها وزخارفها وتطورها عبر الزمن وتأثير الثقافة الإسلامية عليها وعلى مظهرها؛ إضافةً إلى مدى تأثرها بثقافات الشعوب التي تعاطت عبر طرق التجارة مع شبه الجزيرة العربية.
للتعرف على الأبواب وتطور حرفة بنائها على مدى الساحل الشرقي وتصاميمها التقليدية والمعاني التي قد تعبر عنها والعلاقة بين الوظيفة والجمال في الحرف اليدوية التقليدية، أجرينا مقابلة مع الدكتور سعيد الوايل وهو خبير ضليع بهذا الشأن، وقد سبق له وأن نشر خمسة كتب تركز على الأبواب والزخارف الخشبية والجبسية في الخليج العربي، وهو على أعتاب نشر عملين مهمّين يتعلقان بالأبواب وقاموس المصطلحات التي استخدمها الحرفيين التقليديين في أنحاء الجزيرة العربية.
الدكتور سعيد هو رسام وفنان تشكيلي كرّس أربعة عقود من عمره في توثيق التراث العمراني ودراسة عناصر الحرف التقليدية. بدأ بالتركيز على الأحساء والساحل الشرقي، وتعاون .مع مركز التراث الشعبي بالدوحة (1982 – 2005) لنشر .مقالاته العلمية وأبحاثه حول موضوع الحرف والزخارف الجصّية والخشبية.
 

الدكتور سعيد الوايل خلال المقابلة،2024. بعدسة “نقطة”
"أبحث عن الإنسان خلف المنتج".
الدكتور سعيد الوايل عن اهتمامه بالحرف التقليدية.
الأستاذ علوي السادة، أحد أبرز صانعي الأبواب في القطيف، ممسكًا بـ"الجدّوم" في حديث مع الدكتور سعيد. بإذن من د. سعيد الوايل. 

"بدأت بالبحث عن الحرفيين والنجارين والحدادين والبنائين وجلست معهم في ورشهم ومنازلهم، وتمكنت بذلك من جمع قدر كبير من المعلومات التي لم تكن لتُدون لولا ذلك العناء. تواجدَت منشورات أخرى أثناء بدايتي، ولكنها كانت استعراضية وحسب، لم تكن تحتوي إلا على الصور، وعلى الرغم من كونها نافعة ومفيدة في تأدية غرضها إلا أنها كانت خالية من التبحّث في الدلالات أو التوسّع في موضوعات الزخارف ومعانيها. بينما أنا أردت أن أجلس مع الحرفيين وأسمع قصصهم وأنصت إلى المشاكل التي واجهوها وكيف تغلبوا عليها ولماذا وقع اختيارهم على هاته الزخارف دون تلك، والأسباب التي دفعتهم لهذه الأدوات والمواد، والرمزية الكامنة خلف عناصر التصميم".
بعد تعاونه مع مركز التراث الشعبي بالدوحة انطلق الدكتور سعيد إلى الشارقة، حيث تسنى له العمل عن قرب مع الدكتور عبد الستار عزاوي الذي كان في حينها مشرفًا على ترميم المناطق التراثية والمهجورة، مما سمح للدكتور سعيد الوايل بفحص هذه المناطق وهي في حالتها الأولية. كان لهذه التجربة وقعاً كبيراً عليه، حيث أمكنه أن يرصد العناصر الجمالية المتواجدة في التراث الشعبي وما قد توفره من فرص شتّى عند التبحر فيها. بدأ حينذاك بتفحص الزخارف الجصّية، ثم لاحظ الشبه الذي تحمله مع الزخارف الخشبية الموجودة على الأبواب، وتساءل عن علاقتهما ببعضهما، وما إن كان ذلك اختيارًا جماليًا أم ضرورة وظيفية.
 

الأستاذ داود الحسن، أحد أبرز الحرفيين الذين عملوا في الأحساء والخبر والبحرين وقد عرف بابتكاراته في رسم ونقش الزخارف الخشبية وفي تصميم الآلات والمعدات التي يعمل عليها. بإذن من د. سعيد الوايل. 
الدكتور سعيد الوايل في جولة ميدانية لمعاينة النقوش التراثية. بإذن من د. سعيد الوايل. 
"أردت التقاط ملامح تراثنا. شعرت بالمسؤولية تجاهه، وأن الأدبيات العربية بحاجة ملحّة لمن يسد هذا الفراغ، وبحاجة إلى توثيق شامل وموضوعي لحرفة صناعة الأبواب".
الدكتور سعيد الوايل متحدثًا عما دفعه لرصد صناعة الأبواب وزخارفها.

عند سؤاله عن تطور تصاميم الأبواب وموادها الأولية عبر الزمن وتأثير طرق التجارة على مهنة صناعة الأبواب وزخارفها، قال الدكتور سعيد: "في الواقع، كان هذا أحد الجوانب التي تمكنا من رصدها وتتبعها بدقة. وهو عامل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحرفة صناعة الأبواب أكثر من غيرها من الحرف الأخرى كالزخارف الجصية على سبيل المثال. بدأ الحرفيون باستخدام الأخشاب المأخوذة من الأشجار المحلية كالنخيل والإثل والسدر. ويمكن لنا أن ننظر إلى حقبتين زمنيتين ساهمتا في تطور مهنة صناعة الأبواب بشكل خاص مثل فترة ازدهار تجارة اللؤلؤ في الخليج والفترة الثانية هي عند اكتشاف النفط في المنطقة. فعند انقضاء الفترة الأولى وتعرض المنطقة للكساد جراء توقف الغوص على اللؤلؤ، انتقل الحرفيين من صناعة السفن إلى صناعة الأبواب وقد شهد ذلك تأثيرهم الكبير عليها، وعلى عناصر التصميم وحتى بعض المصطلحات التي جلبوها معهم عند امتهانهم للحرفة الجديدة. كان لكلتا الحقبتين تأثيراً عظيماً على جميع الأصعدة، وقد فتحتا منطقتنا على العالم، مما أدى بدوره إلى استيراد أخشاب ذات جودة أعلى من البلدان الأخرى كالهند وأفريقيا، ليتمكن الحرفيين من التعامل معها بسهولة أكبر وإنشاء تصاميم موحدة وعناصر تصميمية مختلفة".

كان صانعو الأبواب نجارين في الأصل، إلا أنها كانت أعلى أنواع النجارة تقديراً ومكانة، وذلك لأنها كانت تتطلب قدراً كبيراً من الدقة والمهارة. كانت مهنة يتناقلها الأجيال، وكان لكل عائلة تصاميمها وأدواتها الخاصة التي تميزهم عن الآخرين. وعند سؤاله عن مدى تأثير التطور الصناعي وتطور الشحن على حرفة صناعة الأبواب، أجاب الدكتور سعيد الوايل: "كانت تجمع الحدادين والنجارين علاقة خاصة، إذ كان كل منهما يعتمد في رزقه على الآخر. كانت أدوات الحرفيّ مصدراً لفخره، فبها يتميز عمله ويبني سمعته في السوق. وما قد يبدو في النظرة الأولى تصميماً موحّداً ومتشابهاً، لم يكن كذلك في الواقع. كان لدى الناس معرفة بالحرفية الجيدة، وكانوا حثيثي السعي خلف أفضل الحرفيين وصانعي الأبواب، فكان أولئك الصناع يخرجون من الأحساء أو القطيف للعمل في شتى مناطق الساحل الشرقي أو نجد. كانوا يحملون أدواتهم الخاصة، ولكل منهم نظرته المختلفة حول ما يجب أن يبدو عليه الباب كمنتج نهائي. وهذا ينطبق أيضاً على الغرض من هذا الباب، ونوع المبنى الذي سيتصل به. بمرور الوقت، وعند تطور التقنية وحدوث العولمة، طوّر صنّاع الأبواب من الجوانب التي يركزون عليها، وبدأت عناصر التصميم بالتوحد مع تلك الموجودة ببقية العالم، حيث شهد تصميم المنازل والحواضر السكنية ككل تغييراً هائلًا. ولكن ما أود أن أسلط النظر عليه، هو أن الأبواب لم تُصمم بتلك الأشكال لغرض جماليٍ مطلق، فكل العناصر المضافة كانت لها وظائف ضرورية، ولكنها دمجت معها تلك الإضافات التصميمية الجميلة".
 

صفوف من المسامير المجدولة بما يشبه السلسلة في إطار الباب ونقش ورقة التين المُدرج في خشم "بو جُرو" في الأحساء. بإذن من د. سعيد الوايل. 
باب شيخ قبيلة الخوالد في الجبيل وهو من نوع "أبو خوخة". بإذن من د. سعيد الوايل. 
باب مسماري مُزين بالنقوش والآيات القرآنية في القطيف. بإذن من د. سعيد الوايل. 
هل تُعد صناعة الأبواب نوعًا من أنواع الفن؟ وهل هنالك فوارق بين الفن والصناعة اليدوية؟

"عند الحديث عن صناعة الأبواب فإننا نتحدث عن واحدة من المهن المتجذرة في مجتمعنا السعودي، بالأخص في الأحساء والمنطقة الشرقية. وعند التطرق للفن فما تغير هو الانطباع العام تجاهه، وذلك باعتباره تعبيرًا إبداعيًا وجماليًا دون الالتفات للنواحي الوظيفية. ولكن هذا لم يكن موجودًا في السابق، فقد كان الأمر الأكثر أهمية هو صنع أبواب ذات جودة وفعالية، ولهذا انعكاس على سمعة الحرفيين الموهوبين والقادرين على مزج الجانب الجمالي بالوظيفي، فأخذوا بذلك حصتهم من السوق وتجاوزت شهرتهم مجتمعهم المحلي. فسافروا إلى مناطق مختلفة وتركوا بصماتهم على الأشكال والزخارف والتصاميم الموجودة هناك. بالمختصر، إن حرفة صناعة الأبواب والزخارف الخشبية هي مزيج بين الفن والحرفية، ولكن مع التركيز على الجانب الوظيفي".
 

بعد عقود من العمل في مجال البحث الأكاديمي والتركيز على مجال لم يحظ بالأضواء المسلطة على المجالات الأخرى، تحدث الدكتور سعيد الوايل على الإنجازات التي حققها وكيف أثرت على حياته: "كان للبحث تأثيراً هائلاً على تجربتي الفنية، ولكن ليس ذلك فحسب. بل تعلمت الكثير حول موروثنا الثقافي وتاريخ الصناعة اليدوية في منطقتنا، والتقيت بصانعي أبواب وحرفيين موهوبين للغاية، ووثقت كل ما عثرت عليه، وعملت على إثراء الأدبيات العربية في هذا المجال. وما يجعلني فخوراً أن ما كرست له حياتي يعود بالنفع على الأجيال القادمة، وأن الشباب أبدوا اهتمامًا كبيرًا بما جمعته في منشوراتي".

خشم "بو خوازرين" في الفريج الشمالي بالأحساء. بإذن من د. سعيد الوايل. 
مثال على الخشم "المسكتي". بإذن من د. سعيد الوايل. 
 مثال على خشم "بو خوازرين" في الأحساء. بإذن من د. سعيد الوايل. 

    .

نقطة الإبداعية: ساعدت على تصوير وتوثيق هذه المقابلة.

إعادة تعيين الألوان