نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

البحث عن فنّ ما بعد الغيث
A-
A+
لقاء خاص

البحث عن فنّ ما بعد الغيث

البحث عن فنّ ما بعد الغيث

دانا عورتاني، (تعال، ودعني أداوي جروحك)، 2020، بإذن من مؤسسة بينالي الدرعية. بعدسة ماركو كاباليتي.
 

بقلم عبير النمري
July 15th, 2024
يتطلَّع البينالي بنسخته (ما بعد الغيث) إلى أن يكون تجربة متعدِّدة الحواس، فهو يسعى إلى تشجيع المشاهدين للتفكير في مغزى هذا الفن، وتأثيره فيهم. لم نرغب فقط في إيصال رسالة للجمهور من خلال البينالي؛ بل أردنا أيضًا معرفة آرائهم
— أوتي ميتا باور، المديرة الفنية والقيّمة الرئيسية على بينالي الدرعية للفن المعاصر، ما بعد الغيث.

الغيث ظاهرة طبيعية تعيد الحياة لعالمنا، واللحظة التي تلي هطوله هي لحظة تستحق التأمُّل والتفكُّر؛ تكون الأرض مكسوَّةً بمياه المطر، وتغطَّى النباتات بقطرات ناعمة، والسماء تنبض وكلُّ ما حولها برائحة المطر، فتتلوَّن بألوانٍ زاهية.
في بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024 بنسخته (ما بعد الغيث)، دُعينا لنعيش هذه اللحظة البهيّة، والغنيّة بتجارب متنوعة من الأشكال الفنية، والمنظورات، والتعبيرات، والخلفيات. نظمت مؤسسة بينالي الدرعية البينالي بإشراف المديرة الفنية أوتي ميتا باور، وقد عَرضت 

 

هذه النسخة حوالي 177 عملًا فنيًا من قبل 100 فنان، وجزء منهم حوالي (30 فنانًا) من منطقة الخليج، مستحضرة بين دفّتيها مشاعر التجديد، والانتعاش، والانفتاح.
ولإلقاء نظرة معمَّقة حول الغاية من إقامة البينالي؛ قام فريق تحرير إثرائيات بلقاء المديرة الفنية، السيدة أوتي ميتا باور، ومناقشتها حول مفهوم النسخة الأخيرة من البينالي (ما بعد الغيث)، ومدى ارتباطه بالمناظر الطبيعية في الدرعية، إضافة إلى بعض التجارب التي قدَّمها للفنانين والزوار على حدٍ سواء.
 

حدِّثينا أكثر عن إعداد معرض (ما بعد الغيث).

كانت البداية مع رحلتي الأولى إلى المملكة العربية السعودية في عام 2018، عندما أعلموني عن خطة إعداد بينالي في الرياض. يومها لم أكن على دراية بالمشهد الفني في السعودية، إذ لم أزر البلاد قبل عام 2018. شدّتني الفكرة المقترحة لترتيب النسخة الثانية، والتي أعتبرها فرصة لاستكشاف ما يمكن أن يقدمه البينالي في هذه الفترة من التحول. خلال تلك الرحلة زرت استوديوهات دانا عورتاني، وناصر السالم في جدة، والتقيت أيضًا بسارة عبده. تساءلت في نفسي عن كيفية إعداد البينالي من الصفر، وكيف يمكن تنفيذ ذلك المشروع في المملكة، وما هو ممكن عرضه لجمهور جديد على الفنِّ. كان دافع هذا المشروع ومنبعه بالنسبة لي: الفضول.
كانت وجدان رضا - المساعدة القيّمة في النسخة الأولى، وتشغل حاليًّا منصب قيّمة فنية في مؤسسة بينالي الدرعية - مصدر إلهام وإرشاد، وذات بصيرة لي منذ بداية هذا المشروع، ولها دور فعَّال في عملية الالتقاء بالفنانين المحليين من مختلف الأجيال في جميع أنحاء المملكة. كما كانت مؤسسة بينالي الدرعية سخيّة جدًا في تمكيننا – نحن القيّمين الفنيين والفنانين - من الذهاب في رحلات إلى مناطق مختلفة في المملكة، لزيارة استوديوهات الفنون، والتحدُّث مع مجموعة متنوعة من الأشخاص، كذلك زيارة البلدان المجاورة مثل الكويت، الأردن، والبحرين. كان طموحي يرنو إلى بينالي لا يتحدَّث فقط عن اللحظة الراهنة؛ إنما عن المشهد الفني شامل. ومن خلال المشهد الفني حضر جمهور واسع، والآن هم يكتشفون الفن كجزءٍ من حياتهم اليومية.
 

ما بعد الغيث، بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024، عرض التركيب الفني لأدي دارماوان (توبان) (2019) في المقدمة؛ وكريستين فينزل (نساء الرياض) (2023) في الخلفية. بعدسة أليساندرو برازيلي، بإذن من مؤسسة بينالي الدرعية. 
في أيِّ مرحلة من مراحل تعرُّفك على المنطقة ومشهدها الفني، قرَّرتِ أن يكون الموضوع (ما بعد الغيث)؟

إنها ليست موضوعًا بالضرورة، إنّما جاء العنوان استلهامًا من الشعر العربي، ومن الصعوبة بمكان ترجمة الشعر العربي إلى الإنجليزية (والعكس)، لذلك حاولنا التوصُّل إلى عنوان يجذب الجمهور المحلّي الناطق بالعربية، وهم المستهدفين من البينالي، الذي يتوجه بشكل أساسي نحوهم، وهو عنوان يلخِّص ما حاولنا القيام به في البينالي. من الضروري لي فهم الجمهور، والتوقُّف لحظة للتفكير في ما سيعودون به من هذا البينالي، وما الموضوعات التي نتناولها في (ما بعد الغيث). 

لحظة هطول المطر تكون الرائحة ساحرة، وهذا الشعور ينطبق أينما كنا في أنحاء العالم. إنَّها حادثة تؤثِّر في الكيمياء الحيوية لدينا - فعندما يهطل المطر على التربة الجافة، يتمُّ إطلاق الهباء الجوّي حاملًا رائحة ترابيّة نديّة تسمَّى (القَفْو)، ويقال عنها بالإنجليزية (Petrichor)، وتعتبر مضادة للاكتئاب. على أية حال إنها لحظة تفاؤل كبيرة، لحظة طاقة وأمل. في كلِّ مكان من عالمنا لسنا في وضع يبعث على الأمل؛ من أزمة المناخ العالمية إلى القضايا الاقتصادية والصراعات المسلحة، وعلى الرغم من المعاناة المنتشرة في راهننا، شعرت بطاقة جيدة عندما أتيت إلى موقع البينالي؛ هناك الكثير من الشباب ممن يريدون التعبير عن أنفسهم، وعن رغباتهم من خلال الفن. يدرك بينالي (مابعد الغيث) بأن العالم قد لا يكون على ما يرام، إلّا أننا بحاجة إلى الشعور بالأمل والمستقبل.


 

ما بعد الغيث، بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024، عرض التركيب، إل أناتسوي، (لوغولوجي لوغاريثم) (2019)، تفاصيل. بعدسة أليساندرو برازيلي، بإذن من مؤسسة بينالي الدرعية. 
هل هناك رابط بين ما وصفتِه وبين موقع البينالي في حيّ جاكس في الدرعيّة؟

الدرعيّة مدينة أقدم من الرياض، واليوم يوجد بها موقع (حي الطريف) المسجل على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وهو مقر الأسرة الحاكمة آل سعود. تقع (الدرعية) على حافة وادي حنيفة، وهو مجرى نهر موسمي، في المنطقة الصحراوية. ولأن المطر مطلوب في كلِّ منطقة قاحلة، تنتظر التربة فعليًّا هطول المطر، ما يتيح الفرصة للحظة التي يظهر فيها كل شيء. مجازيًّا، إنها لحظة التنشيط والتجديد، إنَّها طاقة تشعر بها فعليًا عندما تكون هنا في جاكس. نحن - القائمين على البينالي - واجهنا تحديات عديدة، لكننا نقرُّ بالعرفان للمهمة المعقدة المتمثلة في العمل مع هذا العدد الكبير من الفنانين، ولأننا تمكنَّا من البدء بهذا القدر من الأعمال الفنية الجديدة. وهذا ما يمنحنا الشعور بأننا كنا قادرين على تنشيط الناس عاطفيًا، وبهذه الطاقة يمكنك تحريك الجبال.
 

ما بعد الغيث، بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024، عمل تركيبي، أرمين لينكه وأحمد ماطر، "السعودية المستقبلية" (2024). بعدسة ماركو كابيليتي، بإذن من مؤسسة بينالي الدرعية. 
سبق لكِ ذكر أهمية التفكير في الجمهور، والفائدة التي ستنعكس عليهم من البينالي، فهل هناك رسالة محددة ترغبين في توصيلها للزوار؟

شُيِّدَ البينالي من قبل فريق مؤهل؛ أنا أكبرهم كقيمة، ثم لدينا قيّمين في منتصف حياتهم المهنية، ومنهم الأصغر سنًّا. لقد مررنا جميعًا بلحظات مختلفة من الوقت عندما كنا ندرس، ونكتشف السياق الذي نعيش فيه والثقافة من حولنا. قمنا برحلات بحثية انضمّ إليها فنانون محليون وعالميون لرؤية منطقة عسير وأبها - في الجزء الجنوب الغربي من السعودية - والتي زارها معظمنا للمرة الأولى. لقد كانت رحلة مذهلة ومشوقة، حظينا من خلالها بمعرفة واسعة. كنا جميعًا نقول: "نريد مشاركة هذه الرحلة مع الجمهور". نأمل أن يبدو المعرض نفسه بمثابة رحلة لمشاركة ما اختبرناه في أثناء البحث والتحضير لهذا البينالي. تم تصميم (ما بعد الغيث) ليكون تجربة متعدِّدة الحواس، تدعو المشاهدين إلى التفكير في موضوع كل الفنون، وما تفرزه التجربة معها. لم نرغب فقط في إخبار الجمهور بشيء ما خلال البينالي؛ إنما أردناهم أيضًا أن يخبرونا بدورهم بشيء ما.
 

ما بعد الغيث، بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024، منظر التثبيت، أعمال سامية زارو "الحياة بسجادة محيكة" (1995) في المقدمة على اليسار، و"الحياة سجادة محيكة" (2001) في المقدمة على اليمين؛ وأعمال متعددة لعبد الرحمن السليمان وهند ناصر في الخلفية. بعدسة ماركو كابيليتي، بإذن من مؤسسة بينالي الدرعية. 
هل يمكنكِ التحدُّث عن بعض الأعمال التي تم عرضها في البينالي؟ لقد ذكرتِ أن البينالي كان يهدف إلى بدء حوارات جديدة وإلهام الناس ليكونوا أكثر فضولًا. ما هي بعض الأعمال التي حقَّقت هذا بشكل لافت؟

من الصعب جدًا اختيار أي عمل فني منفرد، لأنَّني أحبها جميعًا. إنه يُشبه السؤال عن الآلات الموسيقية التي يحبها المرء في الأوركسترا - الطبل، الكمان، أو الفلوت - والتي يصعب اختيار أحدها، إذ لا يمكنك عزل واحدة عن الأخرى في المقطوعة الموسيقية. أوصي بتجربة البينالي كرحلة شاملة. جميع الأعمال الفنية في البينالي تهدف إلى حثِّ الناس ليكونوا فضوليين تجاه الجمال. بالنسبة للأعمال الجديدة، طلبنا من الفنانين المحليين والإقليميين وغيرهم من الفنانين المشاركين أن يخبرونا بما يرونه عند زيارتهم للسعودية، وما يريدون إخباره للجمهور عن هذا المكان من خلال وجهة نظرهم. أيضًا ما هي المحادثات التي يرغبون في توجيهها. جميع الزوار مدعوون لتجربة وجهات نظر هؤلاء الفنانين، وبدء حوار مع العمل الفنّي، وعليهم ألا يترددوا في طرح تساؤلاتهم، فالبينالي يهدف إلى تشجيع الناس على التحدُّث مع بعضهم بعضًا، وفي الوقت نفسه فهم الأشياء على مستوى التجربة الشخصية. لا نريد أن يشعر الجمهور أنهم ليسوا على دراية كافية، أو أنهم ليسوا خبراء في الفن، أو تاريخ الفن.

هل يمكنكِ التحدث قليلًا عن العمل الذي يوثّق المستقبل الفني السعودي؟

أمر جدير بالاهتمام. طلبت من اثنين من الفنانين: الفنان السعودي أحمد ماطر، والمصور أرمين لينكه المقيم في برلين، العمل معًا على شيء في هذا البينالي. اعتقدت أنه قد يكون من الجيد بدء حوار حول إنتاج الصورة الفنية في السعودية. مثلًا ما هي الصورة التي يتم إنتاجها الآن؟ ما هي الصورة التي تم إنتاجها في الماضي؟
قام الفنانان، على سبيل المثال، بتصفح أرشيف أرامكو ومراجعة معارف أحمد؛ كان لديهم وصول سخي للغاية إلى وكالة الفضاء السعودية. لم أكن أعلم أن السعودية لديها برنامج فضائي! كما بحثوا أيضًا عن الهندسة المعمارية التي تم بناؤها في السبعينيات، وزاروا الموقع الذي تم تشييد نيوم عليه. لذا فإن هذا العمل يطرح التساؤل: ما الصورة التي يريد المرء خلقها عن مكان أو بلد؟ ماذا يعني بالضبط إنتاج الصورة؟ قام الفنانان بالتقاط الصور معًا، لكنَّهما استكشفا أيضًا بشكل فردي مواقع مختلفة في المملكة العربية السعودية إضافة إلى صور حول المملكة معروضة في أماكن أخرى.
 

هل عرضَ فنان أعماله لأول مرة؟

نعم، كثيرون، لكنهم ليسوا بالضرورة فنانين لم يعرضوا أعمالهم من قبل، إذ أن المشاركة في البينالي تتطلَّب منك بعض الخبرة في تقديم أعمالك. ما أعنيه هو أن هناك بعض كبار الفنانين الذين لديهم خبرة كبيرة في المعارض، لكن ليس في البيناليات على وجه الخصوص. هذه هي النسخة الثانية فقط في المملكة. على سبيل المثال: نبيلة البسام، معروفة جدًّا في المملكة، وتدير معرض التراث العربي منذ 50 عامًا. إنّها تصنع هذه التركيبات المعمارية الجميلة من المنسوجات القبلية، وعملها معروف بالفعل محليًّا، لكن ربما ليس عالميًا بعد. لذا يقدم البينالي أيضًا هذا العرض للفنانين الذين كانوا نشطين منذ الستينيات.
فكرة المعاصرة مهمة بالنسبة لي. ماذا يعني المعاصر؟ هناك عدد لا بأس به من الفنانين المحليين المتمتعين بعقلية منفتحة، وكانوا يافعين في السبعينيات والثمانينيات. كان عليهم القيام بعملهم في وقت لم يكن من السهل فيه أن تكون فنانًا، ولا وجود لسوق فنية، أو بنية تحتية في السعودية كما هي اليوم. هذا الجيل، بالنسبة لي، جديد تمامًا، وهم فنانون (معاصرون). كما يقدِّم جيل شاب من الفنانين مثل سارة عبده - وهي فنانة من جدة ذات جذور يمنية - أعمالًا تم إنشاؤها لهذا البينالي على نطاق أوسع بكثير، أو تم تبنيها حديثًا، لذلك لم يرها أحد من قبل.
 

نحن مهتمون بمعرفة رأيكِ حول الذكاء الاصطناعي في الفن، وتأثيره عليه، والعلاقة بينهما اليوم؟

أنا أنحدر من خلفية تدريسية في الجامعات التكنولوجية مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتحدة، وحاليًّا جامعة تايوان الوطنية في سنغافورة. أرى الذكاء الاصطناعي باعتباره تطورًا تقنيًّا وعلميًّا ربما يتعيَّن علينا التعايش معه، وكما هو الحال مع جميع التقنيات، يعتمد الأمر على ما تَصنع منها. التكنولوجيا مفيدة لنا إلى حدٍ ما، لكن لها أيضًا جوانبها السلبية. ومن المهم مع تطور الذكاء الاصطناعي حاليًا أن نفهم مدى تعقيده وتأثيره على حياة الجميع. أرى فيه اختراعًا يمكن أن يحدث ثورة في حياتنا، لكن لا أستطيع أن أقول إن تأثيره مختلف تمامًا من حيث الحجم والمساحة عن اختراع الطائرات والهواتف وأجهزة الفاكس وأجهزة الحاسوب. من الواضح أن كلًا من هذه (الاختراعات) قد غيرت طريقة عيشنا وتواصلنا مع بعضنا بعضًا. لكن علينا أن ننتظر، ونرى كيف سيؤثِّر الذكاء الاصطناعي في الطريقة التي نعيش بها. 
 

مع وداعنا لبينالي الفن المعاصر لهذا العام في الدرعية، نتطلع إلى القصص والتجارب الجديدة التي سيجلبها البينالي القادم، تمامًا كما تتركنا لحظة الانتعاش (ما بعد الغيث) متحمسين للجولة التالية من المطر.
 

إعادة تعيين الألوان