درويش بين الموت والنسيان
"بدون عنوان" 2023م - إيتيل عدنان، من مجموعة "بين الشرق والغرب" المعروضة في مركز إثراء.
تُنسى، كأنَّكَ لم تَكُنْ
تُنْسَى كمصرعِ طائرٍ
ككنيسةٍ مهجورةٍ تُنْسَى،
كحبٍّ عابرٍ
وكوردةٍ في الليلِ .. تُنْسَى
أَنا للطريقِ...هناكَ مَن سَبَقَتْ خُطَاهُ خُطَايَ
مَنْ أَمْلَى رُؤاهُ على رُؤَايَ. هُنَاكَ مَنْ
نَثَرَ الكلامَ على سجيَّتِه ليدخلَ في الحكايةِ
أَو يضيءَ لمَن سيأتي بعدَهُ
أَثراً غنائيّاً...وحدساً
تُنْسَى، كأنَّكَ لم تكنْ
شخصاً، ولا نصّاً... وتُنْسَى
أَمشي على هَدْيِ البصيرةِ، رُبّما
أُعطي الحكايةَ سيرةً شخصيَّةً، فالمفرداتُ
تسُوسُني وأسُوسُها. أنا شكلُها
وهي التجلِّي الحُرُّ. لكنْ قيلَ ما سأقولُ.
يسبقُني غدٌ ماضٍ. أَنا مَلِكُ الصدى.
لا عَرْشَ لي إلَّا الهوامشُ. والطريقُ
هو الطريقةُ. رُبَّما نَسِيَ الأوائلُ وَصْفَ
شيءٍ ما، أُحرِّكُ فيهِ ذاكرةً وحسّاً
تُنسَى، كأنِكَ لم تكنْ
خبراً، ولا أَثراً... وتُنْسى
أَنا للطريقِ... هناكَ مَنْ تمشي خُطَاهُ
على خُطَايَ، وَمَنْ سيتبعُني إلى رؤيايَ.
مَنْ سيقولُ شعراً في مديحِ حدائقِ المنفى،
أمامَ البيتِ، حرَّاً من عبادَةِ أمسِ،
حرَّاً من كناياتي ومن لغتي، فأشهدُ
أَنَّني حيٌّ
وحُرٌّ
حينَ أُنْسَى!
أتت الفنون، ومنها الشعر، تخليدًا للإنسان.. شرخٌ في طبيعة النسيان، وحجرُ أساسٍ في ذاكرة المجتمعات، وفعل مقاومة لتفاهة الحياة. فهناك من يكتب عن الحياة والموت، الحبّ والأسى، التجارب والخسارات، الحنين اتجاه ما كان، والرثاء الذي يلملم أوجاع القلب. الكتابة عن كلّ ما يمرّ بالحياة بهدوء، ويتخذ الهامش أرضًا، أو بهديرٍ هائلٍ حيث المتن ولا غيره.
عاش الشاعر الفلسطيني محمود درويش (١٩٤١– ٢٠٠٨) حياةً لا يمكن وصفها باليسيرة، فقد وَهبته الأيام ويلاتِها، ولاختباراتها كان الهدف، ولم يكن من السهل أن يكون شاعرًا متجرّدًا في وجه كلّ هذا! لهذا نرى أثَرًا لا يمكن تجاوزه في ما نقرأ من شعره، أثر الواقع المعيش كفلسطيني بشكلٍ عام، والمرض في سنوات حياته الأخيرة بشكلٍ خاصّ، يَدٌ عليا شكّلت تجربته. قصائده لم تُنسَ، ولن، فحضوره -حتى بعد موته- باقٍ، ولا يزول.
لم يكن الموت غائبًا عن شعر درويش، بحكم ما عاشه، لكنّه ليس الموت الغياب، بل موت الجسد ومقاومة الروح لهذا الموت.. ببقائها، الانتصار على الموت. وهذا لا يكون إلّا بمقاومةٍ كبيرة للنسيان، مقاومة القصيدة، فماذا يكون الشاعر لو ماتت قصيدته؟ لو مَحت الأيام أثره؟
في قصيدته (تُنسى، كأنّك لم تكن) التي كانت جزءًا من ديوان (لا تعتذرْ عمَّا فعلتَ) الصادر عام ٢٠٠٣م، يبدأ درويش من فرضية أن يكون الموت تحريضًا للنسيان، فكلّ ما سيُقال قيل، وكلّ ما سيُكتب كُتِب، وما الحياة في اتساعها إلّا حلقة مفرغة من التكرارات.. حتى يفتح بابًا جديدًا لتعريف النسيان، إذ لا تكون حرّية الشاعر إلّا بموته لدى الآخر، فحياته -من جديد- ثمّ حريّته، ليست إلّا نتاج النسيان.