الحياة بين عالمين: الأبواب والمجاز في السينما
الإمبراطور الأخير (1987) للمخرج برناردو برتولوتشي
تصوير شركة Recorded Picture Company.
اذهبْ وافتحِ البابَ،
لظلامٍ صامت،
وريحٍ جوفاء،
أو ربما، لا شيء هناك..
اذهبْ وافتحِ البابَ،
لنسيمٍ عابرٍ
سيمرُّ من هناك..
- ميروسلاف هولوب (1923-1998) - شاعر تشيكي / قصيدة (الباب). ترجمة: صباح ديبي.
عند الساعة العاشرة مساءً مرّت الأم على صالة البيت لتمنح ابنها أمنيات ما قبل النوم، وتأمره ألا يطيل السهر على ألعاب الفيديو، وقبل ذهابها أوصته أن يتأكد من إغلاق القفل الداخلي لباب البيت. لا يأتمر الفتى بكلام والدته، يطيل السهر إلى ما بعد منتصف الليل، ويغالبه النوم أخيرًا، ولا يستمع إلى وصيّتها. سيبقى الباب مفتوحًا. هل ستتلقى وحوش الليل بكل ما تملكه من عنفوان وشرّ، رسالة كونية؟ هل ستكون ليلة هادئة؟ حكايات الجدّات والأدب ومخيلاتنا التي تخاف المجهول، ومن خلف كل هذا السينما، جميعها تقول إنها لن تكون، وإن السوء قادم من خلف هذا الباب المفتوح.
لربما يكون الباب هو أكثر عنصر من عناصر حياتنا اليومية الذي يملك أبعادًا ومضامين فلسفية، وفكرية، وثقافية، ونفسية. إن علاقتنا نحن البشر بالباب تتجاوز حدوده المادية لما هو أبعد منها بكثير، قد لا نكون قادرين على تأمّل الباب في حياتنا، ونحن نلتقيه يوميًا، وفي كل الأرجاء، غير أن التفكر به سيقودنا تلقائيًا إلى كل أنواع الثقافة والأفكار التي عرفناها في حياتنا، بداية من الدين، إلى الميثولوجيا، وأساطير الشعوب، إلى كل التاريخ الإنساني وحضاراته المختلفة، وصولًا إلى حاضرنا الذي نزعت فيه الحداثة معاني الكثير من الأشياء، وبقي الباب صامدًا أمامها بجل معانيه.
في الكتاب التأسيسي (الباب: مقاربة إثنولوجية)، يتحدث باسكال ديبي عن الأبواب، وعلاقة الإنسان بها، ابتداءً بالأساطير وعالم الماورائيات، مرورًا بحضور الباب في الطقوس الدينية والاحتفالات الشعبية، وانتهاءً بالمعاني النفسية.
يقول في مقدمة الكتاب بعد أن استعرض مفردات (الباب) في لغات مختلفة حول العالم: "ها نحن ندور في لعبة مفردات لا تنتهي، مجبولة من المحاكاة والاستعارة، فقد اختُرع مدلول (الباب) شيئًا فشيئًا ثم بُني بصلابة، وهو مدلولٌ يقوم على حكم الضرورة: ضرورة الدخول، أو الخروج من ملاجئنا".
كانت السينما دائمًا انعكاسًا للإنسان، رؤاه وأفكاره، مخاوفه وآلامه، سيرته وحكاياته، وهذا ما جعل الباب حاضرًا بمختلف معانيه ومضامينه الفلسفية بها. بين استخدامات الباب النفسية كمصدرٍ للأمان؛ يثير غيابه الخوف في أفلام الرعب، إلى الأبواب التي تفصل بين عالمنا الواقعي، وعوالم الأسرار والماورائيات في أفلام المغامرات والخيال العلمي، وحتى الأبواب الأكثر واقعية التي تعكس المعاني نفسها في حياتنا، إذ يكون الباب فاصلًا بين ما هو داخلي وحميمي وخاص، وبين ما هو خارجي بعيد ولا يشبهنا. وهناك الاستخدام المجازي للأبواب التي لا تكون أبوابًا، غير أن العبور من خلالها هو كسر للسور، مثل تجربة المخرج الأمريكي وودي آلان، الذي دائمًا يعبر من باب خلفي مرسلًا شخصياته من عالم الخيال السينمائي نحو عالم الواقع المادّي.
باسكال ديبي، هو أستاذ علم الأثنولوجيا في جامعة باريس ديدرو-باريس 7، حيث يشارك في إدارة قسم علوم المدينة. وهو مؤلف دراسة إثنولوجية لقرية في بورغندي أجريت على فترتين بفارق ثلاثين عامًا، وأصبحت كلاسيكية في هذا المجال: "القرية المستعادة، إثنولوجيا من الداخل" (غراسيه، 1979) و"القرية المتحولة، ثورة في أعماق فرنسا" (بلون، 2006). بالإضافة إلى ذلك، كتب "إثنولوجيا غرفة النوم"، الذي تُرجم إلى خمس عشرة لغة وبيع منه 30,000 نسخة (غراسيه، 1987؛ ميتيلييه، 2000). من بين أعماله الأخرى "القبيلة المقدسة، إثنولوجيا الكهنة" (غراسيه، 1993؛ ميتيلييه، 2004) و"شغف النظر، مقال ضد العلوم الباردة" (ميتيلييه، 1998).
إن كانت الأبواب في جوهرها وسيلة للفصل بين متناقضين، داخلي له معنى، وخارجي له معنى مختلف تمامًا، فإن أكثر نماذج هذا التناقض تطرفًا تحضر في أبواب المدينة المحرّمة ببكين، والتي كانت مقرًا لإقامة الإمبراطور الصيني قرابة خمسة قرون من الزمان، تعاقب عليها 42 إمبراطورًا من أسرتيْ مينغ وشينغ. كثيرة هي الأساطير التي نُسجت حول هذه المدينة، وواقعها لا يخلو من السحر كذلك، فهي المدينة التي حتى في تسميتها (محرّمة) نلمس جانبًا من الأسرار الخفية، والعوالم المجهولة.
كانت قصة المدينة وحكاية إمبراطورها الأخير التي هي أعجب من الخيال، تداعب ذهن المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي، حتى تمكّن من تدشين العمل على فيلمه الأيقوني والمهم (الإمبراطور الأخير 1986). حقق الفيلم نجاحًا باهرًا، ربما بفضل القصة العجيبة، أو أسلوب برتولوتشي المميز في الإخراج السينمائي، غير أن المفارقة المذهلة بين ما هو داخل المدينة المحرّمة بأسوارها الشاهقة، وما هو خارجها من حياة عادية لأناسٍ عاديين وفقراء، تصيبهم المجاعة، ويقتلهم المرض، بينما يتنعّم الإمبراطور في الداخل، لم تفت أبدًا عليه، ولم يكن هناك ما هو أفضل من الباب ليمثّل هذه المفارقة.
الإمبراطور الأخير (1987) للمخرج برناردو برتولوتشي
تصوير شركة Recorded Picture Company.
بعد أن نجح الإمبراطور المراهق بو يي (جون لون) في دروسه ينفّذ أستاذه السير ريغنالد جونستون (بيتر أوتول) وعده، ويهديه درّاجة هوائية.
فرحًا بهديته المنتظرة والتي عمل بجد للحصول عليها، أخذ الإمبراطور دراجته الجديدة، وصار يتجوّل بها داخل مدينته المحرّمة، مكتشفًا زوايا لم يسبق له الوصول إليها، وملتقيًا بعمالٍ وخدم يصِلون الليل بالنهار لخدمته، ولم يرهم في حياته، تنتهي مغامرته القصيرة على إحدى بوابات المدينة. مشهدٌ على الرغم من بساطته يختصر الكثير والكثير من المعاني. نرى الإمبراطور يتجه نحو الباب الضخم الذي كان مفتوحًا، يلمح خارجه الناس وهم يتجولون في بيكين؛ حمّالون، وباعة متجولون، وحيوانات تجرّ العربات. وبينما هو يسير في الممر الطويل نحو الخارج، يركض الحرس لإغلاق الباب، الإمبراطور يجب أن يبقى في الداخل، بينما يُحرَّم على الناس الدخول، أو رؤية حاكمهم حتى. الباب الضخم كان هو الحد الفاصل بين عالمين متناقضين، عناصر كل منهما يجب ألّا تتقاطع، أو تلتقي، وبإغلاقه سيبقى كل شيء على حاله.
سيعود برتولوتشي لاستخدام الباب من جديد بكل ما يحمله من معان، حينما يغادر الإمبراطور مدينته المحرمة مطرودًا للأبد بعدما أطاحت به الثورة. سيخرج من الباب هو وعائلته، وفي الممر الضيق المفضي إلى الخارج، سيصطف الجنود على الجانبين، ويسير بينهم الإمبراطور مهزومًا، مودّعًا العالم الوحيد الذي عرفه إلى عالم جديد لم يره في حياته.
الباب الكبير، عالي الارتفاع، سيكون رمزًا لهذه النهاية، مضخّمًا لشعورها.
نرى الإمبراطور ضئيلًا وصغير الحجم، يعبر إلى الخارج كأنه لا شيء، عبور يُؤذِن ببداية جحيم لم تُكتب نهايته، إلا بموت صاحبه.
الإمبراطور الأخير (1987) للمخرج برناردو برتولوتشي
تصوير شركة Recorded Picture Company.
في دراسة نفسية أجرتها شركة راكوتين اليابانية عام 2013، تقوم على قياس زيادة معدل ضربات القلب، لتحديد أكثر الأفلام إثارة للرعب في تاريخ السينما، حلّ في المركز الثالث فيلم (البريق - 1980) لمخرجه ستانلي كوبريك، والمستند إلى رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب ستيفن كينغ. غير أن مشهد تحطيم الباب بفأس يحمله الرجل الذي فقد عقله متحولًا إلى مختلٍ مجنون، جاك تورانس (جاك نيكلسون)، جاء في المركز الأول كأكثر مشهدٍ مثير للرعب في تاريخ السينما بأكمله، فقد ارتفعت ضربات قلب المشاهدين بنسبة 28.8%، وبفارق بلغ أكثر من 4% عن أقرب منافسيه.
فيلم The Shining، عام 1980، من إنتاج شركة Warner Bros.، بطولة جاك نيكلسون وشيلي دوفال، من إخراج ستانلي كوبريك.
فيلم The Shining، عام 1980، من إنتاج شركة Warner Bros.، بطولة جاك نيكلسون وشيلي دوفال، من إخراج ستانلي كوبريك.
إن هذا الرعب النفسي العنيف في المشهد تحقّق بسبب الرمزية التي يملكها الباب عند المشاهدين. الباب كان يمثّل الأمان الذي تمكنت الزوجة ويندي (شيلي دوفال) من التدثّر به، اتقاءً للشر المستطير في الخارج، بعد أن ظلّت تهرب طويلًا من قبضة زوجها إلى العالم الخارجي، محاولة التسلّل من النافذة لتكمل هربها نحو الأمان، في وقت كان يسير فيه زوجها بخطوات بطيئة وغير متزنة نحو الحمام الذي اختبأت فيه.
كان كوبريك ذكيًا للغاية في تصميم المشهد، فتحطيم الباب بهذا العنف الشديد والبطيء بعض الشيء من خلال ضربات فأس تحمله يد الشر، جعل المشاهدين يبلغون أقصى درجات الخوف،
لأن مصدر الأمان المتخيّل بدأ ينهار أمامهم شيئًا فشيئًا، وختم الأمر بطريقة دراميّة، جاك تورانس يدخل رأسه من خلال الفتحة التي صنعها في الباب بفأسه، بينما ترتسم على وجهه كل علامات الاختلال النفسي، وهو يردِّد: "هنا جوني"، وزوجته على الأرضيّة تصرخ بهوس.
الباب هو أضعف نقاط السّور أو الجدار، انهيار الباب يعلن نهاية السور.
في المشهد، حينما انهار الباب، تحوّل كلّ الأمان الداخلي إلى رعب خالص، وتحول الحمام الذي كان مهربًا إلى شَرَكٍ علقت بداخله الضحية. الحد الفاصل هو الباب، وعليه وعلى معانيه بنيت كل عناصر المشهد.
هناك باب يمكن أن نصفه بالسحري، يفصل ما بين عالم الواقع والعوالم الخيالية، في السينما يعرف هذا الحاجز الوهمي باسم (الميتاسينما)، ويقصد به تلك اللحظات التي تخرج فيها الشخصيات عن لعب دورها المرسوم لها في عالم الخيال للتوجّه بشكل مباشر في الحديث للمشاهد عبر الكاميرا. تجاوز هذا الحاجز بدأ في الأدب مبكرًا جدًا من خلال رواية دون كيخوته، وفي السينما فتح هذا الباب بيد ألفريد هيتشكوك، فيما قام وودي آلان بتبنّيه في الكثير من أعماله كأسلوب يميّزه. فيلم (آني هول-1977) شهد المرة الأولى التي عبرت بها شخصيات آلان من الباب السحري، تكرّر هذا من جديد في فيلمه (زهرة القاهرة القرمزية – 1985)، وفي أفلام أخرى منها (إلى روما مع الحب -2012 ). يتعامل آلان مع الأبواب والحواجز ببساطة تثير الدهشة، إنه يراها سهلة الاختراق، لذا دائمًا يتعمّد تجاوز الأسوار، المادية منها أو المجازية، وهذا ما يعطي شخصياته حيوية مميزة، والتي عادة ما تبقى عالقة في الذاكرة، وتعيش مع مشاهديها لسنوات.
لم تفتح السينما الأبواب لمشاهدة العالم بعيون جديدة فقط، بل أخذت مشاهديها في دربٍ لفهم المجاز ما وراء الأبواب، والذي صنع بشكلٍ ما معنى لوجودها.
*قيس عبداللطيف - مراجع سينمائي. https://twitter.com/QaisAbdullatif
آني هول (1977)، فيلم من إخراج وودي آلن وبطولة ديان كيتون.