الهُوِيَّة على المَسرح
مسابقة إثراء للمسرحيات القصيرة، 2022. بإذن من إثراء
المخرج المسرحي حسن آل مبارك
بما أنّ الهوية مزيج من التقاطعات الاجتماعية والذكريات التاريخية، فإنّ للمسرح والفنّ حضور لافت في عمق الهويّة التي تختلف وفقًا للحكايات والأبعاد التي يتم تجسيدها فيها، فبعضها يرتبط بذاكرة الأشخاص، وأخرى بتجاربهم، لذلك تأخذهم الهويّة إلى امتداد زمني يشكّل علاقة فنّية فريدة من نوعها تعبيرًا عن ذاتهم بعيدًا عن قيود الحياة.
المخرج المسرحي حسن آل مبارك، يرى بأنّ "الهُوِيَّة" تحتاج إلى فلسفة خاصة للتعريف بها وفهم معناها، فالهويّة الشخصية ليست بطاقة تعريفيّة عن الشخص وحسب فيما تشير إلى كيان مستقل يخص الفرد وتحديد ماهيته وعلاقته بنفسه،
وهي وثيقة الصلة أيضًا بالمتغيرات والاستمرارية فليس من الممكن أن تبقى هوية الشخص ثابتة على مدار السنوات. الاسم واللون والعرق تبقى هذه العناصر الثابتة ملازمة لهويّة الشخص ومع ذلك فقد يتصدّع هذا الثبات، لذلك تتخذ الهويّة مسارات عدة خصوصا للشّخصيات التي لديها ميول فنّية أو مهنية أو فكرية، فنجد الكثير من هويّات الأفراد تتغير حتى بملامحها الظاهرة وأبعادها النفسية، السبب يعود إلى تطلب الهويّة لمتغيرات تضفي على الشخصية ما يعود عليها بالتّنقيح والتّجديد للبروز في أفضل صورة، وهنا نجد الانشطار بين حقيقة الهويّة الشخصيّة والتمثيل خصوصًا.

مسابقة إثراء للمسرحيات القصيرة. 2022. بإذن من إثراء.
يقول آل مبارك إنّ الادعاء الحدسي لدى بعض الممثلين يقودهم إلى أبعد مما يتصورون، فليست كل هويّة شخصية قادرة على التمثيل حتى نتصور أن دخول عالم التمثيل مصدره الرغبة أو الميول او حتى النزوة، بعض الممثلين يبتلع الطعم لعدم وجود المرآة الحقيقية التي تحدد مساره الصحيح، والممثل المتمكن هو ذاك الذي يستمرّ في البحث ويجتهد لاستكمال المقّومات التي تجعل منه ممثلًا فذًّا بجميع المقاييس، ومحك ذلك يكون على خشبة المسرح.
ويردف "لنتصور بأنّ أرضية المسرح وحش ناعم ذو أنياب خفية، والممثل محارب بارع، وفضاء تلك الأرضية كواكب عاتمة، فيتحتم على الممثل "المحارب" أن يشعر بالثقة بأنّ ذاك الوحش لن يغرس أنيابه، إلا إذا أخفق الممثل في تجسيد الشخصية التي يتقمصها، وإذا جسده بالشّكل الصحيح والمطلوب، ينعكس ما قام به الممثل على تلك الكواكب التي ستنير الفضاء وتسطع على الأرضية وترد الوحش وتمنعه من غرس أنيابه في الممثل؛ ليعطب قدميه أو يحد من تقدمه و استمراريته، إذن فالمسرح يرحب بجميع الهويّات الشخصية دون استثناء بيد أنّه لا يجامل أحد أبدًا".
علاقة الهويّة الشّخصية بالتمثيل ليس من السهل تحديدها والحكم عليها بمجرد التبختر على الخشبة، أو حتى الوقوف للوهلة الأولى، بحسب آل مبارك الذي يضيف: "كثيرًا ما نجد شخصيّات ذات هويّة مفعمة بالجاذبية سواء كان من خلال الصوت أو الشكل العام أو التعبير الجسدي وحين ترتفع حُمّى العمل يتبين الغثّ من السمين، ليس بمعنى أن التمثيل أو المسرح غربال للهويّات الشخصية، فهناك الكثير من الفنون والمهن قد تتفوق فيها بعض الهويّات الشخصية وقد تُخفق بأخرى، ولأنّ مهنة التمثيل ليست سهلة كما يتصورها البعض، بل تحتاج إلى الكثير من الإسهاب والاسترسال والتعريف من أجل إيصال رسالة متواضعة مفادها "قد تكون يومًا ما مؤثرًا من خلال تجسيد شخصية قمت بتقمصها فلا تتوانى عن النهوض بنفسك واجعل هويتك الشخصية ذات قدرة على التأثير".

مسابقة إثراء للمسرحيات القصيرة. 2022. بإذن من إثراء
وسائل التواصل الاجتماعي حققت خطوة هائلة إعلاميًا، الجمهور الذي كان يتتبع أخبار الفنّانين المعجب بهم عن طريق الصحف والمجلات والمقابلات التلفزيونية، أو الالتقاء مع الفنّانين في الأماكن العامة أو الحفلات والمسارح، ولكن بوجود الوسائل الحالية المتاحة، تم إشباع شغفهم بالتواصل المباشر مع الفنّانين، وباتوا أقرب لهم من السابق، وأصبح التعرف على هوياتهم الشخصية أسهل وأشمل وخاصة مع تنوع وسائل التواصل.
وسيلة التواصل ليست فقط للتأثير على الجمهور، إنما أيضًا تؤثر على الفنان، وتأثر الفنّانين من خلال متابعة الجمهور لهم ليس انصياعًا أو تنفيذًا لأوامر، وحين يطالب الجمهور الفنّان/ة بتغيير مظهره/ها مثلًا، حين تترسخ العلاقة بينه وبين معجبيه ومحبيه في شخصيته وتصبح جزءًا من هويته.
لولا الجمهور وتأثيره لما تقدم الفنّان وأزدهر حتى لو كان أفضل فنّان في العالم؛ فما الفائدة من كونك فنّان مخضرم وليس لديك وقود بشري يبقي على شعلتك مضاءة، مسألة التأثير بين الفنّان وجمهوره متوازنة، وقد نرى بعض الفنّانين لديهم تأثير على معجبيهم يصل حد الاقتداء والتيمن بهم، مما يعني أن لوسائل التواصل الاجتماعي تأثير واضح على الهوية.

مسابقة إثراء للمسرحيات القصيرة، 2022. بإذن من إثراء
ومن وجهة نظر حسن آل مبارك أن هناك اختلافًا فيما هو متشابه، وتشابهًا فيما هو مختلف، البعض وربما الكثير يتصور بأنّ التمثيل يعكس هوية الممثل، المنطقة الرمادية يزدحم فيها عدد من الممثلين ليس بقليل نسبيًّا، لكن هنا يكون الحدّ الفاصل، إذ يوجد ممثل ذو شخصية متكررة أينما حلّ ونزل، ولا نفرق بين وقوفه على الخشبة أو أمام الكاميرا، جميع سماته الشخصية تكون واضحة في تمثيله كما هي، ولا يوجد لديه أي رصيد أو ادّخار لمكنوناته الفنّية، بينما هناك ممثل يختلف جذريًّا عن شخصيته حين يقوم بأي أداء تمثيلي مسرحي أو غير ذلك،
وتتدفق منه عناصر غير مرتقبة كالتشويق والمفاجأة وإخفاء شخصيته الحقيقية ببراعة توصل المتلقي إلى مرحلة الاقتناع واليقين بأنّه شخص آخر غير الذي يعرفه، وانعكاس مهنة التمثيل على الهوية الشخصية للممثل قد يكون أحيانًا عابرًا، بمعنى قد يتأثر الممثل بتقمّص شخصية يقوم بأدائها لفترة من الوقت،
وهناك نوع كان موجودًا منذ نشأة فنّ التمثيل ويبقى في المستقبل، وهو الممثل النمطي والمتقوقع "ناقص النمو الفنّي" حيث لا يفكر بالخروج من سمات شخصيته الأصل؛ فيضع لنفسه حدودًا لا يتخطاها. التمثيل موهبة واجتهاد وليس هواية أو مهنة أو احترافًا فحسب.
فهو يشتمل على مقومات وعناصر ولغة وحضور وإخلاص وعطاء، وتأثير الهويُة الشخصية للممثل على أدائه موجود، ولا تعني الانسلاخ عنها، إنما هناك إعداد مُسبق وتحضير ثم ولوج وتقمّص من أجل إقناع المشاهد.
للتمثيل المسرحي درجة تأثير كبيرة على عمق الهوية، فالمسرح ليس كسائر غيره من الفنون من حيث حالة التواصل المباشرة بين الممثل والمتفرج وقوة الارتجال وحضور العفوية والتلقائية، فالممثلون ينقسمون إلى فئات متعددة، نجد بعضهم يحرر ذاته كي يتعايش مع الشخصية المطلوبة، وبعضهم لديه دفع تلقائي وحدس قوي للحس الفنّي بصورة بديهية عالية وفطنة؛ الممثل الذي يسحق صفة ممثل، هو من يمتلك في أعماقه ما يدهش الآخرين من مخزونه الداخلي ومكنوناته، عندما نكون أمام رؤية الكثير من الأقنعة على وجهه، وشخصيات متعددة تتلبّس جسده، ناهيك عن مدى تأثيره النفسي على المتفرج.
لغة التواصل وأجواء الحقل المغناطيسي حاضرة على خشبة المسرح، عندما يحضر الممثل يكون هو المسؤول الأول والأخير عن اهتمام الجمهور والعمل على اجتذابهم نحوه، ليتحول إلى مهوى الاهتمام العام وإثارة التعاطف والانفعال.
وحول ماهية هويّة الممثلين، يعتقد آل مبارك أنّ هذا السؤال تجيب عليه بصمات الأصابع العشرة، إذ لا يوجد لها نموذج يتكرر، وكل ممثل له فرادته التي تميّزه، وبشكل أوضح؛ إنّ شخصية الممثلين تختلف من ممثل إلى آخر، هناك ممثلون لديهم شغف يصل حد الخروج عن المألوف، واصطياد الشخصيات المركبة والمعقدة التي تحتاج إلى جهد نفسي وجسدي، لذلك بعض الممثلين مع تقدمه في العمر يغير خياراته في انتقاء الأدوار، وبعضهم يبحث عن أدوار تسهم في تطوير أدواته وصقل موهبته، ومهما اكتسب الممثل من خبرة، تبقى هناك أدوار تلوح في الأفق، إذ يرى أنه لم يستنزف كل ما لديه، حقيقة؛ هويّة الممثلين ليست كباقي الهويّات!