جُود «البيك» وثقافة الطّعام
قصة البيك

رامي أبو غزالة
في كل مرةٍ نتناول إحدى وجباتهم ونستشعر الحب الذي غمرها، نتساءل عن السر المكنون الذي جعل (رسالة البيك) في متناول الجميع وأوصل أصداءه إلى كل الأرجاء. من هنا، نقتطف بعض الخبايا عن واحدة من المشاريع التي سلبت ألباب الناس بمختلف مشاربهم وانعكس عطاؤها على المجتمع بأسره. لنتعرف على قصتها، ونكشف عن رسالتها وما تسعى إليه من لسان أحد المؤسسين.
تأسس مطعم البيك على يد الوالد رحمه الله. كان يعمل بالمنطقة الشرقية في أرامكو في أوائل الخمسينيات، ثم في سكة الحديد بالدمام. حتى وصل لقناعة هو والوالدة في أوائل الستينيات بالذهاب إلى لبنان؛ انتقل من كونه موظفًا إلى رائد أعمال، ومنذ عام 1964 وحتى 1973م وجد صعوبة في الوصول إلى هذه الفكرة المتميزة، فقرروا وقتها العودة إلى جدة، وبدء بعض الأعمال هناك؛ ولكن لم يكن من ضمنها افتتاح "البيك".
في أحد الأيام، قالت الوالدة فريال حفظها الله: "شكور، ما رأيك أن تفتح مطعمًا يقدّم طعامًا نظيفًا تثق فيه الناس؟" فاستشار أصدقائه، وأجابوه بأنها "فكرة ولا أروع!". وفعلًا تحمس للفكرة، وفتح مطعم باسم (بروست)؛ كان أول مطعم يحمل هذا الاسم في المملكة في عام 1974م. لكن مع الأسف، في غضون سنة واحدة مرض الوالد بالسرطان وتوفي في عام 1976م ولم يعش هذا النجاح.
كان يعمل في المطعم بنفسه كل يوم، علّمنا هذه الثقافة: "تعلّم ثم اعمل"، وهي قاعدة نتبعها اليوم في أي شيء نعمله – العلم أولًا – إذ يجب أن تكون لديك المعلومة المثلى؛ ثم طبّق واعمل وعلّم الناس كذلك.
كان يعدُّ ويقدم الطعام بنفسه، والناس وقتها لا تعرف الدجاج المقلي، فيعود للبيت متضايقًا: "لماذا لا يدخل الناس!". سبحان الله، قبل أن يتوفاه الله بيومين، أتاه اتصال وهو في المستشفى؛ قال المتصل: "شكور، نبشرك بأن الصفوف وصلت إلى خارج المحل"، على أقل تقدير، توفي وهو مطمئن بأن فكرته الأخيرة تكلَّلت بالنجاح.
هذا هو الدافع الرئيس – بالنسبة لنا نحن كمهندسين – كان من الممكن أن نقول بكل بساطة: "ماذا نريد من مطعمين وقتها؟! بل نتوظف كمهندسين، ثم نفتح شركة مقاولات"، وهذا ما كان متعارف عليه في تلك الأيام، لكننا صممنا على التمسّك به، وعلى وجه الخصوص أخي إحسان، كان إصراره مثيرًا للإعجاب، بأن نحافظ على ما بدأه الوالد وننميه إلى أبعد ما يمكن، أملًا أن تصله المعرفة والشعور بما يحدث.

شكور أبو غزالة مؤسس مطعم «البيك»
برأيي، يجب أن يكون لدى الإنسان توازن بين الروح والعقل والقلب والجسد؛ وأن يعمل من خلال هذا التوازن دائمًا، يغذي كل عنصر من هذه العناصر الرئيسة باعتدال. فإذا لم تغذِّ الروح بالأسلوب الصحيح، باستدامة صحيحة، ولم تغذِّ القلب بذات الطريقة والجسد والعقل كذلك؛ سينتج عن ذلك حالة من اختلال التوازن.
الفن برأيي، هو: كيف يستطيع الإنسان أن يستثمر العلاقة بين هذه الأسس الأربعة، للتعبير عن مخرجاتها بأسلوب متميز وخاص به شريطة أن يعود بفائدة لإثراء حياة الآخرين. خصوصًا أن العمل لدينا قوامه "ناس تخدم ناس". فالفن يقبع في الأحاسيس؛ بأن يفهم الإنسان زملاء العمل أو العملاء وما الذي يحتاجون إليه، حتى قبل أن يتكلموا.
كانت البداية في أواخر السبعينيات، طور أخي إحسان أول شعار للمطعم. إلا أنه خلال بضع سنوات، وجدنا أن الكل قام بتقليده! في جدة وحدها كان هناك 400 مطعم بروست، جميعها تستخدم ذات العلامة، كنا شبابًا غير ملمين بشأن قوانين تسجيل العلامة التجارية. قررنا تغيير التصميم الداخلي للمطاعم؛ وتطوير علامة فارقة وتسجيلها حتى لا يعتدي أي إنسان عليها.
وهكذا، بدأ أخي إحسان بتطوير فكرة مع مستشار مختص في فرنسا، إلا أنّ المستشار لم يتمكن من التوصل للتفاصيل التي نريدها. فأخذ إحسان على عاتقه أن يطوّر (الكوكو) كما نعرفه اليوم؛ واجتمعنا بعدها كأسرة، نظرنا إلى هذه الشخصية وتساءلنا ماذا نسميها، ليشارك الجميع أفكارهم العجيبة: كتكوت، باشا.. إلى أن توصلنا لكلمة (البيك)، وجدناها خفيفة ولطيفة، وتعطي انطباعًا أنه شخص ذو منزلة معينة.
سجلنا الشعار الجديد في المملكة العربية السعودية، ثم بدأ الناس بتقليد الشعار خارج المملكة، حتى سجلناه أولًا في البلدين: الأردن ومصر. أما اليوم فوصل تسجيل الشعار إلى أكثر من 85 دولة، وهناك جهاز قانوني متكامل يدير الشعار ويحافظ عليه. مع الأسف، لدينا قضايا كثيرة حول العالم، نتابع كل الأسواق للتأكد بأن الشعار يحافظ على ملكيته وأصالته! العميل الذي يدخل المطعم ليس من واجبه التفكير في كل ذلك، نحن نؤمن بأنه علينا المحافظة على هذه العلامة بكل ما لدينا؛ بنيّة تمثيل المملكة في كافة أنحاء العالم.
عندما بدأنا الأبحاث في عام 1984م؛ كان الشعار الأصلي ذاته معقّدًا، وبحكم دراسته الهندسية، تعمق أخي إحسان في "تفاصيل التفاصيل"، إلى أن توصل إلى هذا التصميم. تأمَّل العينين، وقال: "يجب أن تكون مبتسمة والخدود كبيرة ومبتهجة"، كل لمحة كانت من أجل الإيحاء بالسعادة عند النظر إليه، (الكوكو) مطأطئ رأسه قليلًا، احترامًا وتقديرًا للناس كجزء من الخدمة، ويده على القبعة ترحيبًا بهم.
ولكن في عام 2008م وما يليه من أعوام، أجرينا أبحاثنا، ثم أقمنا اختبارًا يقوم على إخفاء الشعار، وسألنا الناس: ما هو أول شيء تتذكره في شعار "البيك"؟ الإجابة الأولى كانت: "القبّعة"، فهي أكثر شيءٍ انغرس في ذاكرتهم. إذن، الناس لا تتذكر سوى القبعة. قلنا: "تمام، الجيل الجديد والذي يشكل 70% من سكان المملكة؛ يحبّون البساطة بلا شعارات مفصلة"، على الرغم من أن العلاقة العاطفية ما تزال موجودة مع (الكوكو).
عملنا مع الخبراء إلى أن توصلنا إلى التالي: بما أن القبعة هي التي يتذكرها الناس؛ لنبسّطها ونحافظ على الخطوط سهلة الملاحظة ولا نخسر (الكوكو)؛ لأنهُ جزء من ثقافة المشروع، فقررنا أن يكون موجودًا كعلامة لضمان الجودة، ولكن الشعار الجديد -الحالي- الذي بدأنا تطويره قبل أكثر من 10 سنوات سيكون هو الشعار الرئيس.
فيما يتعلق بالألوان، حافظنا على الأحمر والأصفر وأدخلنا قليلًا من البرتقالي. طُور أول شعار بعد وفاة الوالد -رحمه الله- خلال العام 1978م، وكان باللونين الأحمر والأبيض فقط، ثم كان شعار (البيك) الذي نعرفه بألوانه الأحمر والأبيض والأصفر، ومن بعده الشعار الحالي والذي يخدمنا في التصميم الداخلي لجميع الفروع.
لا أعتقد أن مسمى "سفير الطعام السعودي" صحيح، يمكن القول بأن البيك سفير شركات تقديم الأغذية في المملكة العربية السعودية. فاعتبار (البيك) سفيرًا للطعام السعودي ليس وصفًا عادلًا لثقافة المملكة. ينبغي أن نفكر بمسمى أكثر دقة لنكرم جميع الجهود والقصص المأثورة الرائعة الموجودة لدينا بشأن الأغذية والطبخات عبر تاريخنا.
إذا تحدثنا بشأن كيفية توصلنا إلى صورة ذهنية لعملائنا؛ فنحن فخورون بهذه الشركة وبما نقدمه، حيث لا ننسى أننا في العام القادم -بإذن الله- سنكمل 50 عامًا في خدمة الناس، وهذا وسام شرف كبير لنا. فمن كان بعمر أربع سنوات وقت الافتتاح، أصبح الآن بعمر 54 عام، صغاره وعائلته كبروا متمتعين بالمأكولات التي نقدمها. لنستحضر اللحظات العائلية "لمّة العائلة في يوم الجمعة؛ طفل ينظر إلى والده وهو داخلٌ للمنزل؛ حاملًا أكياس البيك وهو يعلم بأنه سيسعد عائلته في نهاية الأسبوع"، هذه لحظات لا يمكن أن تُنسى!
حتى المنديل المعطر، لم نغير رائحته منذ 50 عامًا، لأن الرائحة تعيدك إلى ذكريات من الحكايا والجلسات. منديل؛ ننظر له بهذه الأهمية فما بالك ببقية التفاصيل؟! نحاول الحفاظ على هذا الإرث الذي كبرت الناس وهي تتمتع به! وفي ذات الوقت نبحث عما يهم أجيال المستقبل، ونخدمهم من خلاله على أكمل وجه.

الشعار القديم للبيك
حدث في عام 1997م حريق كبير في يوم عرفة – داخل مِنى – ولله الحمد، كان جميع الحجاج يومها في عرفات. لم يكن هناك خيام متطورة تكافح الحريق أو مهيأة للطبخ المركزي، بالتالي طلب سمو الأمير نايف -رحمه الله- من وزارة التجارة أن تدعو جميع الشركات المتخصصة في خدمات الطعام، ليخبرهم بأنه بعد هذا العام لن يسمح بالطبخ داخل المخيمات، ويجب أن يكون كل شيء منظّمًا بطريقة مهنية.
حضرت شركات قليلة جدًا للاجتماع وقد كنت أحد الحاضرين. قال أخي إحسان حينها: "رامي، يجب أن نجد الحلول وأن نخدم الوطن". كنا الشركة الوحيدة ممن دخل على الحج العام الذي يليه، حيث طورنا علميًا أنظمة بناء لتلبية احتياجات الحجاج بأسلوب جديد تمامًا، آخذين بعين الاعتبار التحديات الموجودة.
دخلنا في أول عام بأربعة مواقع على موسم الحج، وكان الهدف الذي نسعى إليه، بأن يتم إيصال التموين كل ليلة إلى الفروع مما شكّل تحديًا كبيرًا. على سبيل المثال، كنت في إحدى الشاحنات لمدة 8 ساعات مع السائق محاولين إيصال الطعام لأحد المواقع ولم نتمكن من ذلك. بالتالي، أصبحت نية النجاح في خدمة الحجيج أحد الأسباب الرئيسية في تطوير منتج (المسحّب)، والذي يصادف أنه اليوم من أهم المنتجات. النية السليمة للعمل بطريقة صحيحة، يكافئها الله في المقابل.
سبب آخر أيضًا؛ عندما يأتي الحاج الى مكة أو المدينة يكون على مشاعر الإيمان والروحانية، وعواطفه تحلق في أعلى أعلى مستوياتها. فعندما يأكل البيك لا ينساه، ولو ذُكِّر بأي شيء في بلده، يسهب في الحديث عن البيك كأنه ممثل له. كما يروي لأهله وأصحابه كل تلك الذكريات التي تعود له، وينصح كل من يذهب إلى الحج: (لا تنسَ الذهاب إلى البيك)!
أتممنا الآن 27 عامًا في خدمة الحجيج – جميعها عمليات غير ربحية – ووضعنا الأسعار لنصل إلى الجميع في موسم الحج. حسنًا، نتحمل خسارة كبيرة في معظم السنوات، وإذا حظينا بأي ربح، فيتم توزيعه للخير. هذه الأمور تبني رصيدًا عاطفيًا في ذاكرة زوار الحرمين، والحمد لله أننا كنا وما زلنا طرفًا ضمن أروع رحلة في حياتهم.

محبي البيك
كل طبق له قصة، ويجب أن توضع قيمَنا أمام كل ما نطوره ونقدمه؛ على سبيل المثال: عند تطوير فكرة (المسحّب)، نظرنا حول العالم إلى (ناجت الدجاج) وحب الناس له. وعندما حللنا قطع (الناجت) الموجودة حول العالم - عام 1998م - وجدنا أنها تتكون من دجاج مفروم؛ وبحكم معرفتنا عن صناعة الأغذية؛ فإن اللحم المفروم يتيح المجال لإضافة أي شيء في الخليط، فوضعنا على أنفسنا معيارًا؛ يجب أن يكون فيليه أبيضًا كاملًا (غير مفروم)، حتى تكون الأم على معرفة بطعام صغارها عندما تقدمه إليهم. وارتأينا إن لم نتمكن من ذلك، لن نعمل به.
ولأنه لم يكن يوجد حول العالم من يملك الإعداد المناسب لخدمة هذا المعيار؛ عمل أخي إحسان على تطوير عملية جديدة مخصصة فقط لصناعة (المسحّب). في ذلك الحين، استنكر المصنّعون قائلين: ما الذي تصنعونه؟ هذا ضرب من الجنون! ولا تسمونه (ناجت) لأن (الناجت) فكرته أن نفرم ونبيع، أنتم تعملون اللحم بأسلوب لا يفعله شخص في الدنيا! لكننا أصرينا؛ ولأن غايتنا كانت فعل الصواب مهما كان التحدي، "رب العالمين يسّرها".
بشأن "الساندويتش"؛ تطلّب إدراجه في قائمة الطعام تغيير تصميم كل المطاعم الموجودة. بعد أن بدأ بطلبٍ من العملاء. كنا حريصين أنا وأخي إحسان، أن يحاط المشروع بالسرية التامة؛ طورنا الطبق والتصاميم دون علم أحد. حتى ذهبنا إلى شركة التسويق وأخبرناهم:" نريد حملة إعلانية، ولكن لا يمكننا الافصاح عن المنتج!". جاؤوا بفكرة حملة إعلانية عنوانها: (اليك ما اقترحت!)، مع صورة لتعليق مكتوب فيه: (اقترح أن تقدموا ساندويتش دجاج!)، تمت الحملة دون أن يعرفوا المنتج، وأصبح الأفضل حتى اليوم.
الفلافل قصته مختلفة؛ تم تطويره قبل 6 أعوام تقريبًا للنباتيين ومن لا يفضل اللحم. طورناه وأدخلناه الدرج لأنّ وقته لم يحن بعد. ولمّا أتت الجائحة وأُقفلت البلاد، وأصبح يُسمح بالتجول فقط أثناء الصباح وحتى العصر؛ تعطلت المبيعات لدينا وقتها، ففتحنا الدرج وقلنا: "حان الوقت للبدء بمشروع الفطور"، فكانت البداية مبنية على حاجة مختلفة عما صممناه حينئذ.
العميل هو أهم عنصر في تطوير المنتج، فعادة نطلب من شركة مخصصة أن تحضر عملاء من أعمار وفئات معينة. ونجرب ما يتم تطويره معهم دون أن يعرفوا أنه "البيك"، لتفادي الانحياز إلى فكرة أنّ البيك ممتاز، بينما نحن بالحاجة إلى دقة آرائهم؛ بالطبع، عندما يرفض العميل ما نقوم بتطويره، نلغي المنتج أو يتم اعادة تطويره مرة ومرتين وثلاثة، إلى أن يتم تقبله ومن ثم اعتماده. العمل جارٍ لأجل العميل؛ فمن غير المنطقي أن نطور منتجًا ما لأننا نحب الأكل، على العكس، المطوَّر لهُ هو الحَكَم الفصل بشأن المنتج وهل يتم اعتماده أم لا.
"العميل هو أهم عنصر في تطوير المنتج"

«العميل هو أهم عنصر في تطوير المنتج» - قصة البيك
بالتأكيد، سأحكي لكم قصة!
منذ البداية، عندما بدأ الوالد مشروعه لم تسنح له تسجيل العلامة في تلك الأيام. ففي أوائل الثمانينيات، كان الزبون لا يفرق بين العلامة الأصلية والمقلدة، وكان العملاء غير راضين عن تجربتهم ظنًا منهم أنهم زاروا مطاعمنا، فقررنا أن نرفع مستوى التصميم والخدمات المقدمة في المطاعم إلى جانب التطوير المستمر للجودة.
بعد إعادة تطوير أحد الفروع، جاءنا المقاول رضا، وقال: "ما الذي تفعلونه؟ تصاميم بهذه المستوى! بينما تباع وجباتكم بـ 10 ريالات منذ أعوام! لا يمكن لأي عقل تقبل هذا!"، كان ردنا عليه: "نحن هنا لكل الناس، ومن حق كل إنسان في المجتمع أن يتمتع بوجبة متميزة في مكان نظيف وبسعر مقدور عليه؛ نؤمن بحق الأكل في مكان يشعر الإنسان فيه أنه محترم ومقدّر دون ضغط مادي، بيئة علينا توفيرها للجميع".
دائمًا يركز التسويق على دخل أو عمر معيَّنين؛ أما القول بأني موجود لأخدم الجميع فهذه قاعدة نادرة، حتى أنها خطيرة جدًا، فلا أحد يعمل بهذا الأسلوب. مجددًا، أحببنا أن نفعل الصواب، ومن هذا المنطلق وضعنا هدفًا لخلق القيمة للناس وليس السعر، بوضع القيمة العادلة، حيث يشعر الإنسان أنه يأخذ أكثر مما يدفع.
هكذا أصبحت مؤسستنا قائمة على جودة مؤشرات الأداء الرئيسة "KPI"، من خلال المراقبة والمقاييس، ووضع معايير تسهم في إرضاء الناس لبناء ثقتهم ومحبتهم لنا. أينما وجدت علاقة بين طرفين تقوم على الثقة "فلا شيء أسهل. أكون على يقين بأنك لن تخطئ معي؛ ويبارك الله لك في عملك".
يتم ذلك وفقًا لعَملية عِلمية تم تطويرها بحيث نضع كل الأسئلة الممكنة قبل الاختيار، وبعد أن يكون هناك موقع محتمل، هناك قائمة أخرى للتأكد من عدم وجود خطأ في تفاصيل الموقع. على سبيل المثال: لو اخترنا موقع، مسؤوليتنا أن يكون سكن الفريق قريب بعدد دقائق معينة ودون أخطار. مع مرور الوقت، أصبح هناك قوانين تنظم مواصفات السكن.
كنا وما زلنا في تطوير مستمر يتعلق بدراسة السكان، واحتياجات السوق المستقبلية، والتوجه السكاني، وتوسّع المدينة، ومع ذلك تأخرنا كثيرًا بالتوسع داخل المملكة. بدايتنا كانت من جدة؛ في عام 1990م فتحنا أول فرع في مكة، وفي عام 2001م افتتحنا أول فرع في المدينة ومن بعدها ينبع، وإلى عام 2014م لم نخرج عن هذه المدن. قصّرنا كثيرًا مع أهالي المدن الأخرى؛ مما سبب صدور الشائعات والحكايات العجيبة، كلها من محبة الناس.
بعدها توسعنا إلى القصيم، وتوسع القصيم كان له قصة مغايرة؛ حيث قام أحد الشباب الرائعين في القصيم بتأدية أنشودة على اليوتيوب - حصدت مليوني مشاهدة وقتها، مما حفزنا للمضي قدمًا نحو التوسع خارج مكة والمدينة وجدة، لتكون القصيم أول منطقة حيث شعرنا بمحبة أهل القصيم لنا، وكانت بداية خير للتوسع داخل المملكة كلها.
فعلًا! الذي أخَّرنا في عملية التوسع إلى مناطق المملكة؛ أننا وضعنا لأنفسنا عهدًا منذ البداية أن يكون هناك هدف واضح لكل عمل، وأن ينفذ بالأسلوب الصحيح. درسنا إمكانياتنا -خلال التسعينيات- في عام 1990م عندما انتهت حرب الخليج، علمنا أن جميع المنافسين العالميين سيدخلون إلى السوق السعودي، فكان لدينا خيارين: إما أن نتوسع إلى باقي المناطق قبل دخولهم، أو أن نبني الكيان الصحيح قبل أن نفكر بعملية التوسع.
المنافس الأجنبي الداخل وقتها أتى ومعه تاريخ، وعلم، ومعرفة، وأنظمة عمل، وخبرة بالأخطاء التي يجب تجنبها أثناء التوسعات. وبفضل دراستنا للهندسة أنا وأخي إحسان، لم نفكر فقط بالأعمال إنما لعبت الهندسة دورًا مهمًا في أسلوب تفكيرنا، فكان القرار بعدم جاهزيتنا للتوسع. لم نكن نملك أنظمة عمل وتدريب قوية ومجربة على البعد الجغرافي، أو قوة مالية تساند التوسع، أو مصانع مقننة تنقل الطعام بكمياته الكبيرة إلى المناطق الأخرى، ومع أن الفرصة موجودة، قررنا النظر إلى المدى البعيد، وألا نغامر في المدى القريب.
هناك مدارس تقول لك؛ اقتنص الفرصة قبل أن يدخل عليك أحد، ثم أصلح! وأخرى تقول لا، اِبنِ بشكل صحيح ومن ثم توكل. ولله الحمد، كان الخيار صحيحًا بالنسبة لنا. أخذنا كامل التسعينيات للتعرف على المنافسين وما لديهم من مميزات فعززنا نقاط ضعفنا، بنينا نظم العمل والمصانع، واستثمرنا في الشباب بما يمكّن من الانتقال جغرافيًا إلى المدن الأخرى، اشترينا الوقت لنبني شركة ليست فقط للتوسع داخل المملكة؛ ولكن بهدف البناء من أجل الوصول إلى اليابان والبرازيل. لا مجال للخطأ مع أطراف يثقوا بنا، عدنا لموضوع الثقة هنا.
عندما رأينا جاهزيتنا للتوسع الجغرافي من جميع النواحي، وضعنا استراتيجية للمملكة. مثال؛ كانت الرياض هي المدينة الأصعب، كيف ندخل إلى سوق الرياض وكنا متأخرين بما يقارب 20 إلى 30 عامًا، كان لابد من افتتاح 20 فرع في يوم واحد، لنحمي العميل من أي تدافع قد يحصل. هناك محبّة عجيبة بين أهالي الرياض و"البيك".
كاستراتيجية لا نباشر بالدخول السريع؛ بل نقترب ونمتص الحماسة الأولى، نبدأ في منطقة القصيم أولًا، ثم ننتقل إلى شرق الرياض -الخرج- وبعدها نقترب قليلًا. رسمنا الخط الدائري كحدود لنا، لا ندخل المنطقة الرئيسة إلى أن يصبح الأمر عاديًا جدًا، وهكذا دخلنا.
أما من ناحية العمليات، فالقصيم تعتبر أقرب منطقة إلى المدينة المنورة، وكانت عملية التوريد والإمدادات منطقية، بأن نصل إلى المدينة ثم إلى القصيم وهكذا.
الموضوع أكبر بكثير في اعتقادنا من "ذائقة البيك حول العالم". كشركة وطنية، نرى أنّ واجبنا النظر بحكمة نحو رؤية 2030 التي بدأها سمو ولي العهد -حفظه الله-، إذ وضعنا على عاتقنا مسؤولية نقل البيك إلى العالم، بأن نكون شركاء للوطن بأسلوب مسؤول وشامل ليس فقط للذائقة، إنّما بأهم ما نملكه، "المعرفة". فكيف يمكن أن تنتقل المعرفة السعودية إلى العالمية ليستفيدوا ويتعلموا منها!
عوضًا عن استيراد المعرفة من الخارج؛ واجبنا أن نصدِّر معرفتنا من خلال شبابنا وشابّاتنا إلى العالم. وهذا الذي نراه في البحرين والإمارات اليوم، شبابنا وشابّاتنا هم سفراء للوطن، فأي شخص غير عربي يأتي للمرة الأولى ويرى البيك؛ يتحدث مع الشاب الواقف لخدمته، فيُعجب ويسأله: من أين أنت؟ يجيبه أنا من السعودية. الانطباع الذي يأتي لهذا الشخص ليس فقط أن الطبق لذيذ، ولكن يعجب بالشاب الذي يمثل المملكة بأفضل الحالات.
قال لي شخص عزيز من بلد آسيوي يومًا ما، رامي، لدينا الدجاج المقلي في بلادنا بكثرة، ولكن ما نتعطش له ولا يوجد منه إلا القليل؛ هو أسلوب العمل الذي تقوم به الشركات السعودية والمختلف عن الشركات العالمية الأخرى، نحن بحاجة أن نستفيد من القيم التي تتعاملون بها في المملكة لتطوير شركاتنا. أما بشأن الذائقة، ساعدنا كون الدجاج المقلي و(المسحّب) ليسا محدودين بمنطقة معينة، فقد أكرمنا الله بمنتجات قريبة إلى قلوب العالم، وبإذن الله نكون خير من يمثل الوطن في توسعاته الخارجية.

موقع البيك القديم
بالنهاية نؤمن بأنَّ عملنا "ناس تخدم ناس"، بمعنى، لا يمكن أن نُحضر روبوتات تقدم الطعام، وتشعرك بنفس المشاعر كشخص يقدم لك الطعام بحماسة وسرعة وابتسامة معينة. بالطبع، القاعدة دائمًا ما كانت: العميل أوّلًا، صحيح؟ نحن غيرناها قليلًا وقلنا: فريق العمل أوّلًا، ثم العميل ثانيًا.
"نطبق قاعدة الفريق أوّلًا، ثم العميل ثانيًا"
ذلك أننا لو اعتنينا بأعضاء الفريق، ووفرنا لهم المجال للنمو والتطور، وتعاملنا معهم بطيب واحترام، ووثقوا بأننا ندافع عنهم طالما كانوا على حق؛ سيقدمون كل ما لديهم، ويحضرون لشركتهم ويخدمون عميلهم ويشعرون بفخر لإنجازهم في كل مرة يعود فيها.
في نظر العميل، البيك هو عضو الفريق، وليس "إحسان" ولا "رامي أبو غزالة" ولا أي إداري، بالنسبة له "البيك" هو هذا الشخص الذي يعمل في المصانع والمطاعم، الذي يرحب ويعتني به مبتسمًا بينما يأتيه الطلب "صح" في كل مرة؛ حارًا، مقرمشًا، ولذيذًا بدون أخطاء.
نؤكد في ثقافة "البيك" على حقوق الفريق قبل أي شيء، نضمن لهم الأساس "الحقوق"، ثم نوفر لهم باقي الأمور التي تساعد على محبة العلامة والفخر بها. الباب مفتوح، وفرنا لأعضاء الفريق -على سبيل المثال- تطبيقًا على الهاتف لتقديم أي سؤال أو شكوى أو ملاحظة، وأتحنا لهم الوصول إلى الرئيس التنفيذي، أو الموارد البشرية، أو أي موظف. ألغينا كل الحواجز بيننا، ليؤمن بأن حقه مضمون ومحمي، ولا توجد أي أمور -لا سمح الله- تهزُّ ثقته بالشركة، وبالتالي يخدم ويعتني بالعميل من قلبه.
كما أنه ليس لدينا قياديين يجلسون خلف المكاتب فقط، بل هم حاضرون في الساحة داخل المصانع و المطاعم، يتكلمون مع الفريق ويسمعون من العملاء. جزء من ثقافة العمل لدينا أن جميع إداريي الشركة من رؤساء تنفيذيين و مدراء عامين يقضون عددًا معينًا من الساعات سنويًا للعمل في المصانع و جنبًا الى جنب مع أعضاء الفريق. الفترة الأولى بعد انضمامهم للشركة هي الأهم، حيث يخوضوا تجربة الحياة العملية في "البيك"؛ يتعرفوا على أعضاء الفريق، واحتياجاتهم وتحدياتهم. وعند انتقالهم إلى الإدارة تكون قرارتهم بنّاءة و تضع أعضاء الفريق في المقام الأول.

قصة «البيك»
بالضبط، "ما شاء الله على فريقنا". كل شيء ذكرتُه سابقًا كان السبب. عندما لا ننظر للإنسان كعامل، يشعر أنه سواء مع صاحب الشركة، أو رئيسها التنفيذي، أو المدير الموجود معه. على سبيل المثال، خدمة الحجيج، ما يعملوه في الحج ليس سهلًا، بمعنى 16 إلى 17 ساعة عمل، مع السكن في العزيزية.. إرهاق كبير، ولكن لا أحد يشتكي، لماذا؟ لأنه عند سؤالهم، يقولون: "نخدم حجاج بيت الله الحرام"؛ هذه بالنسبة لهم أكبر بركة تحصل لأي إنسان في الدنيا.
ولكن في الوقت ذاته، مع كل هذا التعب نحن حاضرون معهم كل أيام الحج، واقفون، نخدم وننظف ونقود معهم. أذكر آخر مرة خرجت في إجازة عيد الحج كانت في العام 1997م. لماذا؟ لأنه عندما يرون قائدهم في الساحة، يأكل وينام معهم، ويتأكد من أن جميع سبل الراحة التي يرضاها لنفسه متوفرة لديهم كذلك، "ماذا يريد الإنسان أكثر من هذا"؛ سيعمل من صميم قلبه.
وأؤكد على أهمية "المعرفة، المعرفة، المعرفة"، يجب توفير فرص التعلم لهم دائمًا - بدأ الكثير من الصفر واليوم هم مدراء عامّين من خلال سنوات قضوها في التدريب - ودعم تحصيل شهاداتهم من جامعات عالمية. أكمل الكثير منهم علومهم، ممن لم تسنح لهم فرصٌ سابقة. هذه شركتهم وعائلتهم، ولا يمكن أن تتبدل هذه الثقافة بيوم من الأيام - بإذن الله.
لن أتكلم عن إعادة التدوير، وبيع الزيت المستعمل لشركات متخصصة بإعادة تدويره… سأتكلم بشأن موضوع أقرب للقلب، ففي العام 1996م بدأنا أول برنامج مجتمعي باسم "العلماء الصغار"، كانت الفكرة أن عملنا مع جميع المدارس في جدة، بحيث يقوم الطلاب بصناعة أجهزة أو تقديم حلول تفيد البيئة، وكان حكام المسابقة أكاديميين متخصصين من جامعة الملك عبدالعزيز، استمرت المبادرة على مدى 10 أعوام. كل عام يسافر الفائز إلى وكالة "ناسا" في ولاية ألاباما بأمريكا، ويقضي أسبوعًا بصحبة ولي أمره مع رواد الفضاء ليتدرب على علم الفضاء.
بعدها رأينا جهات حكومية قامت بإطلاق برامج للعلوم بإمكانات أكبر. وانتقلنا إلى برنامج "بطل البيت" في عام 2002م، كل عام ولمدة شهر في فترة الإجازة الصيفية، نأخذ 550 طالب وطالبة يتدربون على كيفية تبديل "البنشر" وتغيير زيت السيارة ودهن الحائط وأعمال الكهرباء والسباكة وعلوم الدفاع المدني والاسعافات الأولية؛ ففي تلك الأيام لم يكن هناك من يرشدهم، كان الجميع يرغب بدراسة الطب أو الهندسة، حفزّ البرنامج الكثير لاكتشاف رغباتهم ورسم مستقبلهم. والحمد لله دربنا أكثر من 10 آلاف طالب وطالبة حتى اليوم، وما زال البرنامج قائمًا.
كما أطلقنا في عام 2004م برنامجًا بيئيًّا مهمًا باسم "نزيه وورطان"، الشخصيتين الكرتونيتين، ومتحدثي البيئة لدى البيك، حيث ركزنا على رمي النفايات. كنا نعمل سنويًا على برامج تطوعية تمكن الأطفال من رعاية البيئة، وقد وجه وزير التربية والتعليم في عام 2013م، بعد مشاهدة برنامج "خواطر" لأخي أحمد الشقيري عن كيف يقوم أطفال اليابان بتنظيف صفوفهم آخر كل يوم دراسي دون الاعتماد على أحد؛ بالتالي جاء أحمد إلى البيك بحكم اهتمامنا بالبيئة.
طوّرنا برنامج "نظام، عمليات، تدريب…" معًا وطبقناه أولًا على مدرستين - مدرسة خاصة ومدرسة حكومية، وجدنا معارضة قوية من الأهالي "كيف ينظف أطفالنا، ليست مسؤوليتهم!" بينما كان الأطفال متحمسين للمشاركة. في العام الذي يليه، وبأمر من سمو الوزير قدّمنا البرنامج لـ 52 مدرسة، ثم بعد عام لـ 400 مدرسة، إلى أن وصلنا لـ 2200 مدرسة.
أصبح الأهالي يشاركونا تجارب أطفالهم في تنظيم غرفهم وتجهيز أسرتهم، وهم مسؤولون حتى خارج المنزل عن عدم رمي النفايات في غير أماكنها المخصصة. أكثر من مليوني طفل كانوا مسؤولين عن الحفاظ على فصولهم نظيفة، هذا بحد ذاته دربهم أن يصبحوا مسؤولين عن البيئة، فتغيرت عاداتهم للأفضل، وقد يكون البعض أدخل موضوع تغير المناخ ضمن اهتماماته. هذه بعض الخطوات القريبة من النفس، فالتغيير الفعلي يبدأ بتغيير عادات الناس، من أجل أن يساهموا كطرف في مسؤولية تغير المناخ.

إحسان أبو غزالة