مأدُبة الحياة الفنِّية..
انكفاء، بإذن من الفنانّة ليلى مال الله.
في كل زمان وعصر، يتساءل المرء عن أسرار الحياة، وكأنه مبحرٌ في بحثٍ لا نهائي عن مغزى الوجود. يرشده فضوله إلى وجبةٍ تثير الدهشة وتريح الروح. إلى مأدبة تمتزج فيها ألوانُ المعاني والنغمات الموسيقية وروحانيات الفلسفة، وكل جزءٍ فيها يحتضن بهجته الخاصة.
لكل فكرة طعمٌ مميز يثير الحماسة، ولكل لحن حلاوةٌ تنساب عبر الأوتار إلى أعماق الروح، ولكل فلسفة مفاتيحُ الحكمة والتَّأمل التي تهدي الإنسان لصقل هويته والاعتماد عليها؛ كعَصاهِ الفكرية في رحلة بين العلم والابداع.
إنَّ الفنان وحده قادر على توجيه جمهوره نحو وليمة روحية حقيقية، والفلسفة وراء فنِّه هي التي تدعم المشاهدين بعكازه المجازي. يشربُ الفنان من بحيرة تجاربه الإنسانية التي لا تنضب، فيجدها مسكنًا لأسئلته الدائمة، تلك التي تهز روحه وتنير قلبه وعقله، حتى ينتج عملاً فنيًا خالصًا يعكس واقعه ويتجاوزه قليلاً.
َتَفتَّق قريحة المرء عن عذوبة الطَّبيعة منذ ما قبل اختراع التَّقنية. فتراه عاكفًا على نِعم الله من حوله ليستعين بها على ظروفه وتقلّباتها. وما لإنساننا العربي سوى أمِّه النَّخلة، يقتات على إنتاجها طوال العام، وما إن يرفع يديه إليها حتى تُغدق عليه بكرمها.
"السلوق" إرثٌ شعبيٌّ من تراث شرق الجزيرة العربيَّة. حيث يُقطف الرُّطب قبل أن يصبح تمرًا ويسمى عندها "البسر"، ليتم غسله من الشَّوائب والغبار، ومن ثمَّ غليه لأربعين دقيقة تقريبًا، حتى تظهر علامات التَّشقق التي تفصح عن جاهزيته.
يتم إخراج الرُّطب بعد ذلك، ويُترك ليجفف على الحصير لمدَّة قد تمتد إلى أسبوعين. أما أكثر أنواع التَّمر استخدامًا، فهما: الزاملي، والشبيب".
الفنانه ليلى مال الله.
ليلى مال الله، هي فنّانة أنجبتها بيئة عربيَّة سعوديَّة قطيفيَّة. شكَّلت البيئة المحيطة هُويَّتها ومرجعيَّتها، ولكنَّها دائمًا ما كانت تسعى لفهم العالم من حولها، وتقديم أجوبتها الخاصَّة لمعنى الحياة. تلجأُ ليلى لشتَّى أنواع الفنون، لتنتج ما يُربِّت على روحها، ويؤثر فيها بشكلٍ مزلزلٍ ولطيف في الوقت ذاته.
عن الفنَّان وقيود الفن، تقول الفنّانة ليلى مال الله: بأنَّ الفنّان قد رُزق بقوةٍ إدراكية تحثُّه على التَّعبير عمَّا يختلج فيه بشكلٍ مختلف عن عامَّة النَّاس. فهو يلجأ إلى محاكاة الواقع بقالب متألِّق بأحاسيس تلمس المتلقِّي وتؤثِّر في نفسه. وكلَّما كان الفنَّان حرًّا؛ كلَّما تآلف مع أسئلة ذاته وأجوبتها لمشاكل النَّاس والحياة. وهُنا تكمن فلسفة الفن، فالحريَّة بالنِّسبةِ إلى ليلى: هي الحيِّز الذي تكبر فيه لوحات الفنَّان بعيدًا عن الفنَّان نفسه، ليفسِّرها الآخرون بناءً على تجاربهم. بدون هذه الجدليَّة يظلُّ الفنُّ مُثقلًا بالقيود التي تغتاله.
تنهض الحياة على المجازات، وينهض الفنُّ على مدلولاته. يخلق المدلول فضاءً يتَّخذ منه الفنَّان ورشته الفنِّية. وتقدِّم الأعمال الفنِّية مدلولات لا تقتصر على تجربة الفنَّان، بل تتحرَّر مدلولاته عند استنطاقها لتجمع شتَّى الاختلافات معًا، وتصبح هذه الاختلافات جسرًا للتَّواصل مع الآخر؛ من خلال لغة مفهومة لدى الجميع.
2011، عمل الفنَّانة ليلى مال الله.
تقول ليلى، أنَّ علاقة المرء بالأعمال الفنِّية لا تتقيَّد بالعنصر الجمالي فقط، بل هي علاقة تقدم سبلًا حوارية للتَّأمُّل الذَّاتي. قديمًا كان "السلوق" يُسمى بحلوى الطَّيبين؛ إذ كان الأب يأتي بالعذق إلى الأم بعد اقتطافه، لتهيئته لأبنائها، فيتلذَّذون به كحلوى.
تتزوَّد العائلات بدفء عمتنا النَّخلة، وما تغدقه عليهم من سخاء هِباتها، فيكبر على حلاوتها الصَّغير، ويشعر الكبير بالانتماء إليها. وككلِّ الأشياء التي نكبر لنحدِّثها ونستبدلها، يشارف "السلوق" على الفناء في أرض الواقع، بينما يستحضره الفنُّ متمسكًا به كطفلٍ يمسك يد والدته.
تُعد مدرِّسة الطَّبيعة الصَّامتة، إحدى المدارس الفنِّية التي تناولت موضوع الأكل كوحدة جماليَّة مليئة بالمدلولات الحيَّة. تتَّخذ هذه المدرسة من الجمادات وحدة جماليَّة لما فيها من الحياديَّة، تتيح مساحة للفنَّان ليعبث بها كما يشاء. يأخذ الفنَّان أبسط الأشياء ليبعث فيها الرُّوح، لنرى فيها ما لا نراه عادةً. بثَّت ليلى الرُّوح فنيًّا في الطَّعام، لتعبِّر عن الحنين والغربة، ولتذكِّر المتلقِّي العربيِّ بمدلول الأكل الذي يعتبر جزءًا لا يتجزأ من هُويَّتنا وتراثنا.
تُكمل ليلى حديثها عن مدلولات الطَّعام فنيًّا، وتقول بأنَّه دائمًا ما يكون مُحمَّلًا بتراكمات الماضي، وعلى الرَّغم من حاجتنا البيولوجيَّة له، إلَّا أنَّه أكثر من ذلك بكثير. فهو مفهوم يجمع بين الثَّقافات، إذ استخدمه الفنَّانون كواسطة بين ألفة الدَّال ورمزيَّة المدلول.
كلُّ الدَّالات الفنِّية تجعلنا نعود إلى بيوتنا محمَّلين بحفنة من التَّأمُّلات والتَّفسيرات التي نغوص فيها، لنعرف أنفسنا من جديد. فنرى الفنَّ بعين التَّصدي للحياة وغربتها التي تتكدَّس علينا يومًا بعد يوم، كما يتكدَّس الغمص في زاوية أعيننا عندما ننام. الفنُّ يركز على أبسط تفاصيل بيئتنا، ليساعدنا أن نربت على أنفسنا ونعالج غربتها، ونرى انعكاس تجاربنا على الآخرين. وهنا نلقي نظرة على لوحات الفنَّانة ليلى مال الله.
لوحة عُزْلة التُّوت البري، 2023. عمل الفنَّانة ليلى مال الله.
لوحة الأُلفة الصَّامتة، 2023. عمل الفنَّانة ليلى مال الله.