نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

مذاقُ التّاريخ
A-
A+
نشرة خاصة

مذاقُ التّاريخ

مذاقُ التّاريخ

"تحضير الدواء من العسل"، من مخطوطة متناثرة للترجمة العربية لكتاب "ماتيريا ميديكا" لديوسكوريدس، من تأليف الخطاط عبد الله بن الفضل بتاريخ 621/1224 هـ، من متحف المتروبوليتان للفنون.

بقلم زهرة شكارة
August 13th, 2023
تنقسم المتعة إلى أصناف ستة: الذَّكاء، والطّعام، والشّراب، والملابس، والإنجاب، والعطور، والأصوات. ومن أنبلها وأهمها متعة الطّعام، إذ يعد سندًا للجسد ووسيلة للحفاظ عليه
محمد الكاتب البغدادي
الطّعام هو أحد أعظم ملذَّات الحياة

الطّعام ضروريٌ لجميع الثَّقافات البشرية، غير أن تدوين الوصفات ظهر لأول مرَّة في بلاد ما بين النَّهرين حوالي عام 1700 قبل الميلاد. تحتوي مجموعة الألواح المسمارية على خمس وثلاثين وصفة، تتراوح بين وصفات اليخنة البسيطة إلى فطائر الطّيور المنوعة. كُتبت هذه الألواح باللغة الأكادية في منتصف العصر البابلي القديم، وهي تعدُّ أقدم كتب طبخ في التّاريخ.

يقول دانيال نيومان، رئيس قسم الدِّراسات العربية في جامعة دورهام (المملكة المتحدة)، ومؤلف كتاب (وليمة السلطان): "هناك وصفة واحدة تجسد بوضوح طبق (الثريد) في تصوري، فهم يتحدثون عن الخبز المفتَّت، الذي يسكب عليه حساء مع الخضار واللحوم، هذا هو الثريد!". 

من المذهل أنّه من الأطعمة التي يصنعها النَّاس ويأكلونها منذ آلاف السِّنين. يمكن أن يكون طعامًا للفقراء، وكذلك الأغنياء، خاصة عند تحضيره باستخدام مكونات غنيَّة مثل البيض ونخاع العظام.

في أوائل القرن العاشر، كتب المقدسي، الرَّحالة العربي الشّهير الذي ولد في مدينة القدس، أنّه أكل الهريسة مع الصّوفيين، والثريد مع الرُّهبان، والعصيدة مع البَّحارة. كلُّ هذه الأطباق كانت وصفات عربية شهيرة في العصور الوسطى، وما تزال تطهى حتى يومنا هذا.

بدأ النبلاءُ في البلاط الساساني بحفظ الوصفات لأول مرة، لكن الخلفاء العباسيين هم الذين أمروا بتدوين طرق إعداد أطباق جديدة، فضلًا عن القصائد والأغاني المستوحاة من الطّعام. كان البغداديون عامَّة حريصين على إعداد الولائم والاستمتاع بها كما فعل الخلفاء. وسرعان ما انتقل شغف الطّبخ إلى خارج جدران القصر، وانتشرت كتب الطّهو العربي بكثرة بين القرن العاشر وحتى القرن الثالث عشر، ولكن معظمها ضاع مع مرور الزمن. ويعدُّ (كتاب الأطباق) لابن سيار الوراق الذي يعود إلى القرن العاشر أقدم عنوان معروف بين كتب الطّهو.

غلاف ابن مبارك شاه، بإذن من دانيال نيومان
مطابخ البلاط

يحتوي هذا الكتاب على أكثر من 600 وصفة من العصر العباسي، مثل: الحساء، واليخنات، وأطباق اللحوم، والحلويات، والتّوابل. ولا يقتصر المحتوى على الوصفات فحسب، بل يتضمن أيضًا معلومات قيِّمة عن تقنيات الطّبخ والمكونات المستخدمة والأواني اللازمة، إضافة إلى نصائح حول آداب المائدة وآداب الطّعام.

كان الشّاعر والمغني والطّاهي؛ الذواقة الشّهير إبراهيم بن المهدي - الأخ غير الشّقيق لهارون الرشيد - من أكثر صانعي الوصفات إنتاجًا، حيث أمضى مع بديعة - طبَّاخته المفضلة وجاريته - ساعات لا تحصى في إعداد أطباق فاخرة في مطابخ البلاط.

"تذكّر أنك تتعامل مع فنّ طهو مخصّص للأعيان. في بعض كتب الطّهو، ترد إشارات إلى أطباق يحبها العامَّة، لكنها ليست شائعة جدًا. يمزج "كتاب الورَّاق" بين أصول الطّبخ وبين العمل الأدبي، أنّه جزء من ذلك النوع العربي الغامض والمراوغ المعروف بالأدب. فهو يقدم معلومات عن أعيان المجتمع العباسي، لكنَّه لا يكشف معلومات كثيرة حول مجتمع العوام وعاداتهم الغذائية. كما نعلم، فإنَّ الأطباق التي يأكلها الخلفاء تتسرَّب إلى الأعيان الذين يريدون محاكاة البلاط، ثم تنتقل أطباقهم إلى عامة الناس".

لم تكن الولائم مقتصرة فقط على الطّعام. كان على المضيفين والحاضرين أن ينعموا برائحة زكية وأنفاس منعشة وأيادي نظيفة. إذا أردتم أن تجربوا الأكل مثل ملوك العرب في العصور الوسطى، عليكم أولًا أن تتزينوا بروائحهم؛ تجدون تعليمات حول آداب الغسيل والعطور كجزء متمم لكتب الطّبخ.

كان معظم الناس في تلك الفترة يتناولون الطّعام بأيديهم، لذا كان غسل اليدين أمرًا مهمًا قبل تناول الوجبة وبعدها، كما يفضّل غسلها باستخدام صابون ذو رائحة عطرة. في القرن الثالث عشر؛ ورد في كتاب الطّبخ السوري (روائح ونكهات)، أنَّ مسحوق الغسيل المستخرج من الزَّعفران والقرنفل استخدمه الخليفة المأمون، بينما كانت رائحة القرنفل والهيل هي الرَّائحة المفضَّلة عند هارون الرشيد.

غلاف كتاب البغدادي، صورة من تقديم دانيال نيومان.

جاء في كتاب الطّبخ المصري من القرن الرابع عشر "كنز الفوائد في تنويع الموائد"، أنّ: "الطّاهي يجب أن يكون شخصًا محبوبًا". ويتابع المؤلف تقديم اقتراحاته حول أفضل أنواع أواني الطّهو من ناحية الاستخدام (كالحجر الأملس)، ويوضح أيضًا نوع الحطب المثالي للطّهو، وكيف يجب على الطّاهي تنظيف أوانيه واختيار التّوابل المناسبة للطعام.

يضيف نيومان: "يجب أن نأخذ في الاعتبار عدّة جوانب تدخل في تراث الطّبخ العربي من العصور الوسطى. أحدها هو الأصول الفارسية الساسانية للكثير من الأطباق، والآخر هو الارتباط بالأدب الطّبي. نعلم بالفعل من أشخاص مثل الرَّازي وابن سينا أن الطّعام دواء، والدواء هو الطّعام. قمت بدراسة مجموعة من الكتب الصّيدلانية التي كتبت في القرن الخامس عشر في فلورنسا، وجدت أن هناك وصفات نسخت حرفيًّا من الكتب العربية. والجانب الثالث هو التّغذية، الذي يعود الفضل فيه لأشخاص مثل المسعودي، الذي قدم لنا معلومات مفصَّلة عن أطباء الحكام، والدَّور الذي لعبوه في إعداد طعامهم ونظامهم الغذائي. كان الطّعام يعتبر دواء، وبالتّالي كانت الخطوط الفاصلة بين الطّعام والصّيدلة وعلم التّغذية غير واضحة تمامًا".

طبقًا للتَّقاليد العربية الإسلامية، كان الطّعام جزءًا من نظرة شاملة للإنسانية وكان من الضّروري أن يكون الدّواء بمذاق جيد. يتابع نيومان قائلًا: "في العصور الوسطى، عُدَّ الدَّواء فعّلًا إذا كان مذاقه سيئًا. ولكن الأطباء والصّيادلة العرب المسلمون اتخذوا وجهة نظر معاكسة تمامًا، أليست هذه طريقة حديثة للنَّظر إلى الأشياء؟"

"البورانية هو أشهر طبق ما يزال مستخدمًا حتى يومنا هذا، ولكن لم يحافظ على مكوناته الأصلية. فهو في الأساس طبق يحتوي على باذنجان مقلي، صممته (بوران) زوجة المأمون، نجل هارون الرشيد وسُمِّي باسمها. قُدم هذا الطّبق لأول مرة في حفل زفافهما الأسطوري الذي استمر لمدة شهر، ولا نعرف ما إذا كانت قد طهته بالفعل لزوجها في يوم زفافهما، لكني أودُّ أن تكون فعلت ذلك. انتقل طبق البورانية فيما بعد إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي، وما يزال يؤكل في أجزاء من المغرب العربي وإسبانيا حتى هذا اليوم".

جرت إحدى المبادلات البارزة بين العرب وأوروبا من خلال الأسطورة زرياب. أنّه موسيقي وشاعر وباحث بارز، كان أيضًا خبيرًا في الطّهو، ويُنسب إليه الفضل في إدخال مهارات ومكونات وتقاليد مائدة جديدة إلى البلاط الملكي في الأندلس.

تشمل أبرز مساهماته تقديم وجبة مكونة من ثلاثة أطباق، والتي أصبحت مقياسًا لتناول الوجبات الرَّسمية، بالإضافة إلى استخدام الهليون والسُّكر وحليب اللوز، كبديل للحليب الحيواني، وإعداد حلوى المرزبان، التي يعود أصلها إلى الكلمة العربية موثبان، تعني: "الملك الذي يبقى في المنزل ولا يذهب إلى الحرب".

يقول نيومان: "لا يوجد أي ذكر لكتب طبخ معينة أحضرها زرياب معه، إلا أنّه باعتقادي لا يمكنه الوصول بدونها. من كتب الطّبخ التي يجب أن يكون قد حملها معه إلى الأندلس هو "كتاب الطّبيخ" الذي ألفه سيده ومرشده، الذواقة الكبير إبراهيم بن المهدي، كم رجوت لو أن زرياب ما يزال على قيد الحياة، كنت سأحب مشاركته الطّبخ والحديث حول صلته بابن المهدي".

من الأطباق التي سافرتْ إلى إنجلترا، طبقٌ سُمّي (مومني)، يحتوي على الأرز والدجاج والتّوابل. ظهر هذا الطّبق في واحدة من أقدم مجموعات الوصفات في أوروبا: (طريقة الطّبخ The Forme of Cury). من الأرجح أنّ الاسم جاء من كلمة "المأمونية" تيمنًا بالخليفة المأمون، وقيل أنّه طبقه المفضل.

مامونية، إعداد دانيال نيومان

مع ذلك، يعتبر المطبخ الشّرقي حديث نسبيًّا حيث يعود تاريخه إلى نحو 500 عام، العديد من المكونات الأساسية والتّقنيات الشّائعة اليوم - مثل حشو الخضار - غائبة عن مجموعة الوصفات العربيَّة التي سادت في العصور الوسطى. جلب التّبادل الكولومبي في القرن السادس عشر الطّماطم من المكسيك، والتي سرعان ما أصبحت شائعة في المطبخ العربي. ومن المكونات الأخرى المهمة التي أتت من المكسيك هي الفلفل الحار، والذرة، والبطاطس، والبطاطس الحلوة، والشّوكولاتة.

"يكمن الغموض في أدب الطّهو القديم توقفه في القرن الخامس عشر، غالبًا بسبب الحكم العثماني. ليست لدينا أية مصادر حتى ظهرت كتب الطّبخ مرة أخرى بين فئة نخبوية في القرن التّاسع عشر، لكن هذه المرّة هيمن عليها الطّابع الغربي. تلك الكتب كانت مستوحاة من المطبخ الفرنسي، واحتوت على عناصر عربية قليلة، لأن الحداثة أصبحت مرتبطة بالطّابع الغربي، وهذا يشمل الطّعام أيضًا".

قد يكون لقضمةِ الطّعام آثار حنين عميقة، فهي تعيدنا بالزمن إلى الوراء مع كل لقمة. يتيح لنا توثيق هذه التّجارب تذوق نكهات تعود إلى قرون من الزّمن، باستخدام مكونات الطّهو وتقنياته التي صمدت أمام اختبار الزمن. يستحق الطّعام والطّبخ دراسة جادة لأنّهما يمثلان أحد الخطوط الفريدة التي تحكي قصة تاريخ المجتمع البشري من خلال أحد الأنشطة المحببة والاجتماعية: الأكل.

اللوز الأخضر، إعداد دانيال نيومان
إعادة تعيين الألوان