نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

المشاريع الكبرى والعولمة
A-
A+
مسابقة المقالة الإبداعية مع هيئة فنون العمارة والتصميم

المشاريع الكبرى والعولمة

المشاريع الكبرى والعولمة
بقلم سعود سعد الشيخ
May 15th, 2023
يصف الكاتب ويتولد ريبكزينسكي العمارة بأنها "علامة على التفاؤل بالمستقبل".

في عام ١٩٩٧، كانت مدينة بلباو الإسبانية مفعمة بمشاعر التفاؤل لافتتاح متحف جوجنهايم من تصميم المعماري فرانك جيري. لم يعتد السكان على مشاريع بهذا الحجم والبراقة. فقبل اكتمال المتحف، عانت بلباو من معدلات مرتفعة من البطالة والفقر. انتظر أكثر من أربعة آلاف شخص ونصف في الطابور لدخول المبنى، ولا تزال الطوابير الطويلة إحدى سمات المتحف إلى اليوم. "مفاجئ، عظيم، مؤثر، ومكلف" كانت أكثر الكلمات رواجًا من قبل زوار المبنى خلال الافتتاح. اجتذبت شرائط المعدن الناظرين، فوفقًا لصحيفة فايننشال تايمز، استطاعت بلباو من استعادة تكاليف البناء خلال ثلاث سنوات فقط بفضل الحركة الاقتصادية التي شهدتها المدينة. أدّت قصة النجاح إلى موجة كبيرة لبناء معالم معمارية في بقية مدن العالم على أمل أن يصيبهم ما أصاب مدينة بلباو من تحول اقتصادي واجتماعي، الذي أسموه الخبراء بـ "تأثير بلباو".

سعود سعد الشيخ، الفائز الثالث في مسابقة المقالة الإبداعية 

إلى حد كبير، يستند مفهوم «تأثير بلباو» إلى فهم سطحي للقضية، مما دفع الكثير إلى الاعتقاد الراسخ بأن الحل للقضاء على المصاعب الاقتصادية هو تكليف معماري شهير لبناء مشروع ساطع. تسابقت النخب الحضرية ليجعلوا من مدنهم ما تسمى بـ "المدينة العالمية" كما أصبحت بلباو، مما أدّى إلى ظهور نمط عمراني موحّد ونشوء حقبة العولمة المعمارية. تلقّت مؤسسة جوجنهايم في تلك السنوات عروض من مدن عديدة بمبالغ هائلة لمبنى من تصميم فرانك جيري.

إحدى المدن التي ألهمها تأثير يلباو هي هيلسنكي، العاصمة الفنلندية. أعلنت مدينة هيلسنكي في عام ٢٠١٤عن مسابقة لتصميم متحف جوجنهايم خاص بها. استلمت المسابقة أكثر من ألف مشاركة ونصف لتكون أكبر مسابقة معمارية بالتاريخ من حيث عدد المشاركين. لم يكن المجتمع الفنلندي متفائلًا تجاه المشروع. من ضمن القلقين كان المعماري الفنلندي جوهاني بالاسما الذي رفض دعم المتحف قائلًا: "يركّز المشروع على النظرة الاستهلاكية والسياحية للفن على حساب المهمة الثقافية والإنسانية. بدلاً من تعزيز التقاليد والممارسات الفنية المحلية، يعزز المشروع العولمة المريبة. من الممكن استخدام الأموال العامة بطريقة أكثر ابتكارًا وفعالية لدعم الثقافة الفنلندية". بعد خمس سنوات من إعلان المشروع، صوتت مدينة هيلسنكي بعدم بناء المتحف.

يعاني مصممو المشاريع الكبرى حول العالم من محاولة شمول العولمة في التراث الثقافي التقليدي؛ فبسبب التطور المتسارع، يتم فهم الإشكالية على أنه صراع ما بين القيم التقليدية والأفكار المستوردة. غالبًا ما يتفاقم هذا التأثير بسبب عدم تفهّم المعماريين المكلّفين، مما أدّى إلى تقسيم الإدراك الاجتماعي، حيث يتم ربط التراث الثقافي بالماضي والرجعيّة بينما صورة التقدّم تأتي من ثقافة أخرى. لكل مدينة تاريخ محلي وتركيبة سياسية محددة تؤثّر على عملية صنع القرارات. تلتزم المدن والمناطق حول العالم بمنطق التنمية الخاص بها، وتحتاج كل منها إلى استراتيجيات محليّة لإعادة التطوير. يثير نموذج بلباو التساؤل بمدى إمكانية تكرار تأثير مبنى عظيم على المكان، ولكن في كثير من الأحيان يصاب ممن يتبنى هذه الإستراتيجية بالخيبة.

خلال العقود الماضية، استوردت العديد من البلدان العربية مشاريع تنموية واسعة النطاق حيث تم تنفيذها كحزم كاملة دون الاعتبار أن التركيبة المادية لهذه المشاريع تنطوي على قواعد سلوكية وظروف بيئية مختلفة. لمواكبة الحداثة، بدأت المدن العربية تفقد هويتها المحلية وتفرّدها وقدرتها على تلبية احتياجاتها الخاصة وبدأت الخطو نحو أزمة وجوديّة. تبنّت البلدان أشكال معمارية أجنبية ونقلتها دون أي فهم عميق للفروقات الأساسية في الهياكل الاجتماعية أو الثقافية، باستثناء بعض الحالات الناجحة التي ربطت بين القوى المحلية والعالمية. المواهب المستوردة التي تمر عبر مدينة ما - مهما كانت موهوبة - لا يعرفون عن كثب المكان الذي يعملون فيه. قد يكون الأمر بسيطًا مثل عدم فهم المناخ. أحدث الأمثلة على ذلك هو تصميم فرانك جيري لإحدى مباني معهد ماساتشوستس للتقنية، حيث اشتمل المبنى على ردهة ذات سقف زجاجي تضطر الجامعة لتطويقه خلال فصل الشتاء لتفادي التسربات وانكسار الزجاج الذي يحصل بسبب الجليد.

يجادل النقّاد بأن نموذج الاعتماد على عنصر الذهول في بناء المشاريع الكبرى نموذج غير مستدام. إذا كان ما يميز مبنى ما بأنه الأطول بالعالم، فسيُبنى ما هو أطول منه. مباني برّاقة تمتد إلى مد البصر لا يربطها سوى المحاولة الملحة لإبهار الناظرين يجعل المدينة بلا روح. السائد في المشاريع الحضرية الكبرى هو تكليف معماريين من الخارج لتصميم المشروع ووضع بصمتهم المرموقة. جلب المصممين ذوي الكفاءة العالية والسمعة الرفيعة أمر مثير بلا شك، فإنه يمتّن شعور المدينة بأهمية الذات، ويعزز صورة المكان كمركز إبداعي. لكن العمارة فن اجتماعي وليس شخصي، فهي انعكاس للمجتمع وقيمه وليس وسيلة للتعبير الفردي. يُغفل في كثير من الأحيان أن المشاريع، مهما كان حجمها، جزء من الكل، وليس كيان مستقل عن بيئته. 

عند انعدام الأكواد التصميمة وخلو المنافسة، تتشوه بنيان المدينة

تدريجيًا، يتقبّل السكان ما هو مُعيب لعدم وجود البدائل. من إيجابيات المشاريع الكبرى هي رفع مستوى وعي المجتمع بتأثير الفن المعماري ومدى أهميته. تزيد المشاريع الكبرى من التنافسية العمرانية مما يرفع معايير المشاريع الأخرى ويحدّ ما يعتبره المجتمع مقبولًا لأنظارهم.

إن الإحساس الحقيقي للمكان هو مفهوم مجرد إلى حد ما. للمدن أنماط بناء خاصة بها، تتأثر بوتيرة الحياة، وجودة الضوء، والتقاليد التاريخية، وحتى المواد المتاحة. المباني التي تعترف بهذه الأنماط تعزز الإحساس بمكان معين – تعزز الانتماء. في عالم أصبح فيه الموسيقى والأفلام والملابس وحتى المأكولات تعبر الحدود الدولية بشكل متزايد، من غير المجدي أن نتوقع بأن يكون الفن المعماري استثناء. لا شك بأن المشاريع الكبرى هي أحد الدلائل على النمو والازدهار. ولكن يعتمد مدى إيجابية تلك المشاريع بما يبقى في الأذهان أثناء إنشاؤه، وبما يسقط سهوًا من الحسبان
 

إعادة تعيين الألوان