نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

أول صوت مسجل في مدينة جدة
كنوز عربية

أول صوت مسجل في مدينة جدة

أول صوت مسجل في مدينة جدة

صورة لجلسة تسجيل موسيقية في القنصلية الهولندية، جدة، فبراير 1908، 9x14سم. الصورة بإذن © مجموعة مكتبات جامعة ليدن.

بقلم ريم الغزال
March 20th, 2023
"تجعلنا الأصوات أكثر ارتباطًا بالمكان التاريخي والزمان..."

الدكتورة لوي مولز، أمين ومستشار فنّي من العالم العربي.

كلنا نحمل ذكريات مرتبطة بأصوات معينة. بعض الموسيقى الخالدة كالمقطوعات الكلاسيكية لملحنين رحلوا منذ زمن بعيد، يسمعها أجيال عديدة، لكل منهم قصته الخاصة المرتبطة فيها.

بينما نحتفل بهذا الموضوع الغامض والقوي "الصوت" نشيد بالتسجيلات الأولى القديمة التي غالبًا ما تأتي من مكان ما، بحيث إذا استمع المرء إليها، يدرك أنه لم يتغير كثيرًا في الواقع.

الناس غنّوا كما يغنّون اليوم. أنشدوا وألقوا القصائد، ورتّلوا الآيات القرآنية، واحتفلوا بالأعراس، وندبوا الموتى. كانوا مثلنا اليوم، مارسوا حياتهم ببساطة، وأصواتهم جزء من السيمفونية المستمرة للحياة.

في هذا العدد الخاص، نتحدث مع الدكتورة لوي مولز، التي نظَّمها معرض "بيت هولندا – حضارة مشتركة"، والذي أقيم في القنصلية القديمة في جدَّة، لسفارة هولندا في الرياض ووزارة الثقافة السعودية في جدة.

تضمن المعرض ما يُعتقد أنه أقدم تسجيلات الحياة في جدَّة، ويرجع تاريخها إلى 1906 - 1909م. تأسست المملكة العربية السعودية الحديثة في 23 سبتمبر 1932 على يد الملك الراحل عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.

تقول الدكتورة مولز: "تم إجراء التسجيلات الصوتية على لفائف الشمع باستخدام فونوغراف إديسون في قنصلية هولندا في جدة عام 1906-1909م، حيث أصبحت أسطوانات الشمع (مجموعها يقارب 355 والتي قدمت حوالي 20 ساعة من الصوت) جزءًا من مجموعة المعهد الشرقي في ليدن، وتم التبرع بها إلى مكتبات جامعة ليدن في عام 1996. ثم نُقلت جميع التسجيلات إلى قرص مضغوط صوتي في التسعينيات".

في المعرض، كان هناك ثلاث تسجيلات صوتية تم تقديمها للزوار عن طريق الدفق الصوتي، تم تسجيلها جميعًا بين عامي 1906 و1909 من قبل القنصل شيلتيما، وحاجي أجوس سالم في القنصلية الهولندية بجدة.

صورة لطفل راقص، جدة، تصوير C.O. فان دير بلاس، 1921-1924، 10x8.5 سم، مجموعة Snouck Hurgronje (1956). الصورة بإذن © مجموعة مكتبات جامعة ليدن
.بعض الأصوات الثلاثة الرئيسية المسجلة، بإذن © مجموعة مكتبات جامعة ليدن
أذان، نداء الصلاة
أذان، نداء الصلاة

1906-1909، اسطوانة الشمع B8

ما للقمر ترنم في الظُلم
ما للقمر ترنم في الظُلم

تلحين الشاعر الحجازي، عبد الواحد الجوهري الأشرم، عام 1868-1893م، وأداء المطرب سراج قري، يرافقه العود (القنبوس)، والطبل اليدوي (المرواس). كان هذا الصوت جزءًا من عرض يتضمن صورة لجلسة تسجيل مع عازف عود، وفونوغراف من عام 1904، والذي كان مطابقًا تقريبًا للفونوغراف الذي تم استخدامه أثناء الجلسة.
 

أغنية الزفاف (حق الزفة)
أغنية الزفاف (حق الزفة)

عام 1906-1909م، تم تنفيذ أغانٍ كهذه بواسطة جوقة نسائية عند مرافقة العروس إلى منزل العريس، أسطوانة الشمع D20.
 

تم التقاط تأثير هذه التسجيلات بشكل جميل من قبل الدكتورة مولز.

تقول الدكتورة: "ما لاحظناه هو أن الزوار كانوا يستمعون باهتمام شديد إلى التسجيلات، متأثرين بما يسمعون. إنها تجربة مختلفة عن تأمل الصور القديمة التي تعيدك إلى جدة القديمة. كما أن الجمع بين صورة لجلسة التسجيل مع عازف العود الجالس أمام الفونوغراف أضاف أيضًا إلى تجربة سماع الأصوات. وما قاله لي الزائرون هو أن الأغاني وتسجيل الأذان تربطك بأجزاء مختلفة من خيالك وذكرياتك مما أتاح لهم استعادة تجربة لم يكونوا جزءًا منها أبدًا، لكن الأصوات تقلل المسافة بين الوقت الراهن وبداية القرن العشرين. كما لو أن الأصوات مكنتهم من أن يكونوا أكثر ارتباطًا بمكان وزمان تاريخي".

 

من المثير للاهتمام أن نفهم الأسباب الكامنة وراء قيام أي شخص بأخذ هذه الأنواع من التسجيلات، ومساهمتها التي لا تقدر بثمن في التاريخ وفهمنا للتطور البشري. الدكتور أرنود فروليك، أمين المخطوطات الشرقية والكتب النادرة والمشرف على المجموعات الخاصة في مكتبات جامعة لايدن، والذي عمل عن كثب مع الدكتورة لوي، يقدم لنا نظرة ثاقبة على تاريخ هذه التسجيلات، ودور الباحث في الثقافات الشرقية الهولندي كريستيان سنوك هورخرونيه في تصوير التاريخ (8 فبراير 1857 - 26 يونيو 1936).

يقول الدكتور فروليك: "بدأ سنوك هورجونجي هذا المشروع، وكان مهتمًا جدًا بوسائل الإعلام الحديثة، كما ثبت من الصور التي صورها هو وشريكه الدكتور عبد الغفار، في جدة ومكة". في السنوات الأخيرة في جزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا)، اشترى سنوك فونوغراف إديسون لتسجيل الكلام الإندونيسي المحلي وأجزاء من الموسيقى، وهو أحد مشاريعه الإثنوغرافية العديدة. وفي مرحلة معينة، زار مجموعة من المطربين المكيين باتافيا (جاكرتا)، حيث كان يعيش. دعاهم إلى منزله لتسجيل موسيقاهم، عندما عاد سنوك إلى هولندا في عام 1906 لا بد أنه أدرك أنه كان عليه وضع خططه مع الموسيقى الإندونيسية على الرّف. لكن الموسيقيين المكيين ربما دفعوه إلى نقل مشروعه إلى شبه الجزيرة العربية".

"كان من السهل عليه الحصول على مساعدة من الأخوين تاج الدين، وكلاء السفر الذين ينشطون في نقل الحجاج إلى مكة. لقد علموا أن الفونوغراف قد تم إرساله إلى جدة مع تعليمات مفصلة حول كيفية استخدامه. وأكدت علاقات سنوك الممتازة مع القنصلية الهولندية في جدة استعدادهم لتنفيذ المشروع نيابة عنه. من المهم أيضًا أن ندرك أنه عندما عاد سنوك إلى هولندا، كان سيعين أستاذًا للغة العربية في ليدن. وهكذا، كان من الطبيعي أن يطور خططًا جديدة تتعلق باللغة والثقافة العربية. حتى في طريقه إلى المنزل على سبيل المثال، بادر بجمع الأمثال العربية الحديثة بمساعدة معلم أبناء الخديوي المصري. لسوء الحظ، لم تثمر أي من هذه المشاريع الثقافية. على ما يبدو، كان مشغولًا جدًا بتدريب الطلاب في جامعة ليدن للحصول على وظيفة في الخدمة المدنية الاستعمارية وتقديم المشورة للحكومة الهولندية بشأن السياسة الاستعمارية".

صورة لأوركسترا طنبورا، جدة، بقلم ن. شلتيما، 1910م، 9×14 سم. الصورة بإذن © مجموعة مكتبات جامعة ليدن.

هناك علاقة خاصة بيننا وبين الصوت. بإمكانه إثارة مشاعر حنين دافئة عندما يكون صوتًا مألوفًا للأحباب، إذ تتغير الأصوات مع تقدمهم في السن. يمكن أن يثير الصوت الرهبة والفضول عندما يكون صوتًا جديدًا، وبعد ذلك توجد أصوات يمكننا تصنيفها على أنها ضوضاء. هل نستمتع حقًا بصوت الهدوء مع التلوث الضوضائي المتزايد باستمرار في المدن؟

النسبة للدكتور فروليك، فإن التسجيلات لها معنى خاص بالنسبة له.

"الصوت البشري هو وسيلتنا الأساسية للتواصل، حيث يعبر عن كل مزاجنا ومشاعرنا وأفكارنا. وهو أيضًا وسيط شديد التقلب، حيث تختفي جميع الموجات الصوتية في الهواء. لذلك من المؤثر للغاية سماع أصوات الناس الذين عاشوا منذ أكثر من قرن، كما لو أنهم عادوا إلى الحياة مرة أخرى. وإذ تؤثر فينا، فماذا عن الأشخاص الذين يعيشون بالفعل في جدة ومكة، ويحصلون الآن على فرصة لسماع هذه الأصوات من ماضيهم مرة أخرى؟"

بعد العمل بجد لإعادة الأصوات إلى الحياة ليستمتع بها الجميع، تأمل د. مولز أن يكون هناك المزيد مثل هذا المشروع في المستقبل.

وقالت: "إن مثل هذه المشاريع مهمة لأنها تثير التقدير والاندهاش في نفس الوقت".

"يثير الأشخاص الموجودين في الصور الذكريات (الفعلية وتلك المنقولة من جيل إلى جيل) ويسمحون للزائر بإعادة الاتصال بالماضي على المستوى البشري. تسمح الأصوات والصور المتحركة للزائر أيضًا بالانتقال إلى مستويات عاطفية مختلفة والتواصل مع الماضي بطرق جديدة. من خلال الجمع بين هذه الصور والأصوات، نأمل ألا يتم إحياء الذكريات القديمة فحسب، بل أيضًا إنشاء روايات وتواريخ مشتركة جديدة".

درست الدكتورة آن فان أوستروم، المحاضرة في علم الموسيقى الثقافية (المعروف أيضًا باسم "علم الموسيقى العرقي")، في قسم علم الموسيقى بجامعة أمستردام، التي تدرس هذه التسجيلات على نطاق واسع، وقدمت لنا نظرة ثاقبة فريدة للعلاقة بين التسجيلات والثقافة التي كانت فيها والتي يجري تسجيلها.

وقالت: "غالبية الأغاني التي تم جمعها مصحوبة بقنبس (عود قصير العنق على شكل كمثرى)، وهي في الواقع أشعار تتناغم مع الموسيقى، وتنتمي إلى نوع موسقي من الفن الحضري التقليدي في شبه الجزيرة العربية، كما يعرف باسم الصوت، ويتميز الصوت بسمات مشتركة في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية. كلماتها باللغة العربية الفصحى أو العامية. كما أن هذا النوع، المسمى أيضًا الحجازي (المملكة العربية السعودية)، أو العوادي (حضرموت) أو غناء صنعاء (اليمن)، يشترك في بعض النصوص والألحان المشتركة".

وتضيف قائلة: "في زمن سنوك هرخرونيه، كان الأصدقاء يقضون أمسياتهم معًا، يستمعون إلى موسيقى "الصوت" في ديوان منزل خاص. هذه الجلسة أو الحفلة الخاصة كانت تسمى الديوانية. كان مغني منفرد اسمه المقاصد، أي مؤدي القصيدة، يرافق نفسه على القنبس. خلال القرن العشرين، تم استبدال هذه الآلة بالعود. كما تم العثور على أنواع أخرى، مثل مجرور، ودانه، لا تزال تُقدم كثيرًا في المملكة العربية السعودية، وبالتالي فإن هذه المجموعة التاريخية هي كنز دفين من الشعر والموسيقى".

بصفتها شخصًا لا يدرس فقط مستويات الموسيقى المختلفة وعلاقتها بالتاريخ والقصص البشرية، تستمتع الدكتورة فان أوسترم بالموسيقى والأغاني العربية، وخاصة تلك التي تقدمها الشخصيات الأسطورية مثل المطربة المصرية أم كلثوم، والمغنية اللبنانية فيروز، وعازف العود العراقي منير بشير، والعديد من المقطوعات الخالدة.

كما تضيف: "إن تقاليد الموسيقى العربية متجذرة بعمق في شبه الجزيرة العربية، وكان المغنون دائمًا يضعون الشعر الجميل في الموسيقى. قبل الإسلام، اشتهر الحجاز بالشعر والموسيقى. أما في منتصف القرن السابع الميلادي، أصبحت مكة والمدينة مراكز ثقافية لنوع جديد من الموسيقى الفنية، وذلك عندما أثر الموسيقيون من أصول أفريقية وفارسية وبيزنطية على الموسيقى المحلية. وقدم هؤلاء الأشخاص ألحانًا وأشكالًا وأنماطًا إيقاعية وآلات موسيقية جديدة. ظهر هذا النوع الجديد من الموسيقى الفنية في المدن من الحجاز وتم أداؤها ثم تطويرها لاحقًا في محاكم العالم العربي الإسلامي".

وأضافت أيضًا: "إن الموسيقى هي ما يسمى بـ"علامة الهوية"، بمعنى أن الذوق الموسيقي للشخص يخبرك بشيء عن هويته، أو التفكير في جيل شخص ما أو الخلفية العرقية لشخص ما. ولكن يمكن أيضًا أن تكون الموسيقى بمثابة علامة للهُويَّة الوطنية، مثل النشيد الوطني، أو الموسيقى التي يتم عزفها في الأعياد الوطنية الخاصة، أو الموسيقى التي يتم تأليفها بأسلوب معين من قبل الملحنين الوطنيين".

هناك الكثير مما يمكن قوله عن الموسيقى والأغاني والشعر، وكذلك أنواع الرقصات المختلفة في تشكيل قصتنا وقصص أجدادنا. مع تطور فنِّ الصَّوت، واحتمال سيطرة الذكاء الاصطناعي على المزيد والمزيد، سيكون من المثير للاهتمام معرفة التسجيلات التي ستبقى على قيد الحياة في المستقبل، وماذا سيقولون عنا في المئة عام القادمة.

إعادة تعيين الألوان