علّــمني طفـل
عبدالعزيز محمد الخليف، الفائز بالمركز الاول في مسابقة المقالة الإبداعية. بالإذن من هيئة فنون العمارة والتصميم، وزارة الثقافة.
بل نراها من نافذة خلفيّاتنا الثقافيّة والفرديّة الذاتيّة، من ذاكرتنا ومشاهداتنا اليوميّة، نراها من خلال حالتنا النفسيّة وخصائصنا الإدراكيّة. فنحن حينما نحدّق بشيٍء ما لا ندرك لوهلةٍ أنّنا قد انصرفنا عن النظر إليه إلى التفكير فيه، فتارةٌ نراه بعقولنا وتارةٌ نراه بأعيننا وكثيرًا ما نراه عبر قلوبنا، وقد أشار لذلك الفيلسوف الألماني كانط بتداخل القدرات العقليّة لفهم الجمال في مناقشته لنقد ملَكَة الحُكم، وهذا ما يستدعي التساؤل: هل رؤيتنا للأشياء من حولنا هي حقًّا كما عبّرت عنها فيزياء الضوء، كونها طيفٌ من الانعكاسات والانكسارات والتشتّت؟ أم أنّها حصيلة التأمّلات والتفكّر والتعقّل والتدبّر والخواطر الممزوجة بذاكرتنا من الحنين للماضي والتعايش مع الحاضر والتشوّق للمستقبل؟ وكما قال المفكّر رودولف أرنهييم:" الرؤية ليست تسجيلًا ميكانيكيًّا، ولكنّها إدراك لمضامين التراكيب والأنماط". فهل يعني بذلك أنّنا نعطي الرؤية حقّها فعلًا وننصف ما نرى؟ أم ترانا قضاة متسرّعين في إطلاق أحكامنا على ما نرى؟..
فالورد على سبيل المثال جميل في أعيننا بألوانه الزاهية وأشكاله المتباينة مع أن الرؤية ينقصها جمال آخر لا تدركه العين، بل يُحيط به الأنف شمًّـا، ما يعني أن الرؤية ليست الأداة الوحيدة لإدراك مفهوم الجمال وهذا بالتأكيد ما يجعل للجمال معنىً متكامل متعدّد الأبعاد والأعماق رغم بساطته. فكلٌّ منّا يرى بعينه ذات الوردة وكلٌّ منّا يدركها بطريقته وإحساسه الخاص، لا ينقص ذلك من الصورة الجماليّة، بل يزيدها رونقًا.
هذا الحديث له ما يعضده من تجربة حقيقيّة مررت بها وتركت أثرها في نفسي ودفعتني لكي أكتب عنها، ذات مرّةٍ في أحد أحياء شرق الرياض حيث اعتدت أن أسير في إحدى حدائقها، ممارسًا عادتي اليوميّة في المشي مطلقًا لنفسي العنان، تأخذني قدماي على تعرّجات مسارات المشاة في الحديقة، ممّا يدع عقلي يذرع المكان والزمان بسرعة الضوء، وأفكاري تسافر في فضاءٍ لامحدود، وقدماي المعتادتان على تلمّس خطواتهما تتركان عقلي يهيم ويسبح في الفَلَك، مستغرقًا بالتأمّل في الحديقة حتى يرتدّ بصري حاسرًا عن جدارٍ يحجب دونه ملعبًا للأطفال،
وقد اعتدت حينما أنظر لهذا الجدار ذا الشكل الهلالي أن يُلقي عقلي عصا الترحال فأمعن النظر لتُداهمني مقولةً قد سمعتها من الدكتور مشاري النعيم - أستاذ العمارة والنقد المعماري-: "وما الجدار إلّا قرار معماري"، فأعيد النظر باستياءٍ قد رُسم على ملامحي للجدار الهلالي الذي بالكاد يستطيع الطفل أن يرى نهايته ويصرخ عقلي متسائلًا ومشكّكًا هل حقًّا تمت دراسة هذا القرار المعماري قبل أن يرى النور؟! هل هو موجود فعلًا لسبب ما؟! أم هو من نتاج التخبّطات والتعبّثات المعمارية؟! من ذا الذي تجرّأ على تعريض حياة الأطفال للخطر؟!
كما حاصرت ذلكم الجدار الهلالي ملعب الأطفال، ويزدادُ قلقي حينما يُصوّر لي ذهني طفلًا يسقط من علو يزيد عن الثلاثة أمتار لاقيًا حتفه أو متعرضا لإصاباتٍ لا تُحمد عُقباها -لا سمح الله-.
أظن الآن أنّني رأيت ذاك الجدار بعدّة عيون، عينٌ فاحصة من ورائها التخصّص الأكاديمي في العمارة بكل زخمه وكل ما علق في العقل منه، وعينٌ ناقدة مجهريّة ترى أن للعمارة تأثيرًا محسوسًا وترى بسهولة ما يشوب ناصع بياضها، وعينٌ أخرى حانية راشدة لشخصٍ يرى أطفالًا يوشكون على أن يُصابوا بأذى، كلّ تلك الأعين المختلفة كانت تشترك في تساؤل; ما جدوى هذا الجدار في هذا الموضع؟!حتى كدت أجيب بنفسي لنفسي والخيبة ملأت صدري بتساؤلاتٍ حول جدارٍ أنّ لا طائل منه البتّه.
تصوير عبدالعزيز الخليف
أتيت ذات مساءٍ والشمس مازالت تُلقي بضيائها على الحديقة وفي نفسي شيٌء من ذلكم الجدار، تذكّرت مقولة المعماري لوكوربزييه: "العمارة هي اللعب المتقن بالكتل تحت الضوء"، وبينما أقترب أكثر من الجدار رأيت وبدهشة لعبًا تحت الضوء ولكنه من نوع مُغاير، لعبٌ غير ملتزمٍ بنظريات ونُظُم لوكوربزييه، لعبٌ بغير الكتل! وإنّما لعبٌ بكرة، كان هناك ثمّة أطفال ومعهم كرةٌ يتبادلون اللعب بها معتمدين على ذلكم الجدار -المقيت في نظري- يرمون الكرة بطريقة لاشعوريّة تملؤها العفوية باتجاه الجدار الهلالي الساند فتعود إليهم مسرعة متدحرجة ويعيدون الكرّة تلو الكرّة فتارة تعود وتارةٌ تذهب بعيدًا فيسرع أحد الصبية باللحاق بها بين المارّة غير مبالين بذاك الخطر الذي كنت أراه في الجدار وضحكاتهم العالية تملأ الفضاء فكأنّها قد أشعلت شيئًا ما في ذهني!، فهؤلاء الصبية علّموني وأنا الذي كنت أظن أنّني قد اغترفت من بحر العِمارة الشيء الكثير، كيف لم تجل في خاطري فكرتهم تلك!؟ إنهم لم يجدوا للمشكلة حلّاً فهي ما زالت قائمة,
ولكن وبطريقة ما تعاملوا مع الجدار بإنسانيّتهم وعفويّتهم وكأنَّ ألسنتهم تقول لي: أيها المعماري الحاذق، أيها الناقد القاسي، أيها العاقل الأريب، هذا الجدار يلعبُ معنا ويُسلّينا فأعيننا على الكرة وعقولنا مع اللعب، دون أن يَعبئوا ويُجهدوا أنفسهم في فهم فلسفة العِمارة وبغير أن تمتلئ رفوف مكتباتهم بكتب نظريات رفعة الجادرجي، فبالتأكيد لعبهم العفوي لم يَدرَأ عنهم خطر ذلك الجدار لكن براءتهم مكّنتهم من إيجادِ جدوىً للجدار لم أكن سأدركها لولا عفويّتهم تلك، ورأوه من زاوية لم أرهُ منها، فعلّموني بأنّ ليس كلّما أراه عيبًا هو بالضرورة عيبًا مطلقًا.
تصوير عبدالعزيز الخليف
أُدرك الآن أنّني قد فهمت وبفضل الصبية مالم أُحط به علمًا عن ماهيّة النقد، فالنقد تحليل وشرح، إحكامٌ ووصف، على عكس ما كنت أظن مسبقًا أنه تحرٍّ وتقصٍّ عن مواطن الضعف في الأشياء، وتشريحها بأقسى العبارات تمحيصًا وتدقيقًا مُفضيًا إلى الطعن بمكامن الضعف فيما تفحصه، كنت أظنّ أن النظر لشيءٍ بعينٍ ناقدة يحتّم عليّ أن أجد عيبًا ما أو أرى فيه عدم جدوى أو خلافه من النقائص. الآن أُدرك أن النقد ليس محكمةً قضائيّة يجب على القاضي فيها الحُكم بالإدانة أو البراءة، فالنقد أمرٌ مرن يرى ويصف ويحكم الأمر بشموليّة مجرّدة وحياديّة.
كما هو معلومٌ أنّ الجسم ينمو بالغذاء فالعقل أيضًا -كونه أداة نقديّة معمارية- ينمو ويتطوّر بالتفكير والمطالعة والملاحظة وتلاقح الأفكار ببعضها، ودون شكٍّ فإن الشكل الظاهري للمنتج المعماري يُعتبر أحد المعايير التي تلعبُ دورًا مهمًّا في النقد المعماري، وفي مُقابل هذا كان لِزامًا على الناقد عدم الاكتفاء باستنباط وإصدار أحكامٍ نابعة من تكوين وشكل المبنى فقط، لاسيما إن كان في نفسه الرغبة الجادّة في نقد وتحليل المنتج المعماري، فمن أراد قراءة المنتج المعماري قراءة سليمة فعليه بالتسلّح بالأدوات النقديّة المُعينة له في قراءة وتدبّر فن العِمارة ودلائل المنتج ومقاصده، والمقصد بقراءة العمارة هو تفكيك رموز المنتج المعماري وحلِّ شفراته لتكوين وإدراك صورةٍ ما، فبذلك يكون هناك تصوّر شامل حول المنتج المعماري، وإن صحّ التصوّر صحّ الحكم، وكما قال عُلماء المنطق: (الحُكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره).
على سبيل النقائض كنت مرةً في خِضمّ نقاشٍ شخصي مع المعماري عبد المحسن الذياب و دار التساؤل الجدلي حول هل يلزم شرح الفن؟ أم أن الفن يكون شارحا لذاته؟ فنرى منهج المعماري دانيال ليبسكند -على سبيل المثال- بأنه يوصي المتلقّين والنقّاد بأن يقرأوا له شخصيًّا وعن المنتج المعماري قبل رؤية أعماله وقبل أن يخوضوا بالأحكام، وهذا ما يضمن ترسيخ المعاني والأفكار في ذهن كلّ متلقٍّ، ومقابل هذا رأى بعض المتخصّصين أفضليّة عدم الإسهاب في شرح المنتج الفنّي، تاركين للمتلقي فرصةً لقراءة المنتج كُلٌّ بأسلوبه وخلفيّته المعرفيّة الخاصة، مما يعني أن أي منتج فنّي يقابله عدّة قراءات مختلفة بغض النظر عمّا قصده المصمّم بذلك. فكانت الإجابة عن التساؤل أنّ لكلّ مشروع هويته الخاصة والحاجة لكلا الاتجاهين مفيدة.
وما لا يخفى أنّ مع تطوّر التقنية وظهور وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت هناك بعض المتغيّرات في معايير النقد في مجال العمارة والتصميم، فاختلط القبيح بالحسن والغثُّ بالسمين حتى ذابت المنتجات المعمارية في بعضها البعض فلا تكاد ترى لغة معمارية جليّة واضحة مما جعل الدكتور إبراهيم الحسيني -أستاذ الفلسفة والنظريات المعمارية- يقول في كتابه (مقدمة في قراءة العمارة): "لولا وجود عكس المعنى لما كان للمعنى معنى، ولولا وجود ضدّ العمارة لما كان للعمارة عمارة"، مبتدعًا بذلك مفهوم (عمارة اللاعمارة) قاصدًا بها ذلكم الناتج المعماري الذي لا يحمل هويّة معماريّة جليّة.
ختامًا دعونا نُطلق لمخيّلتنا العنان ونُحرّر كل مَلَكاتنا الإدراكيّة من النمطيّة لتُحكِم الإمساك بناصية القدرة على رؤية جمال الأشياء.