نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

ملك آلة الملوك
الفنّان الضّيف

ملك آلة الملوك

ملك آلة الملوك

نصير شمَّه، الموسيقار والأسطورة.

بقلم زهرة شكارة
March 20th, 2023
"أدركت علاقة رائعة بين الجمال والموسيقى. كيف يمكن للموسيقى أن تؤثر في الناس هكذا؟ تلك الزوجة الرتيبة خلال النهار يمكن لها أن تكون سيدة متألقة في المساء"

الموسيقار نصير شمّه.

الملحن، وملك العود، المبدع، والإنسان، والمفكر، والمربي. وإن كنت أود أن أبدأ بالموسيقي الشهير نصير شمّه، فوجدت نفسي أمام نصير الإنسان النبيل بداية، خلال جولته في أمريكا، وبعد أن أبلغته أنني جاهزة لإجراء هذه المقابلة في 6 فبراير؛ لم يكتفِ بمنحنا بعضًا من وقته لمقابلة إثرائيات، إنّما قابلني بالسؤال عن حالي وحال أي شخص قريب مني بعد الزلزال.

العود ونصير شمّه صنوان لا يفترقان، لن تجد أي قطعة مكتوبة عن آلة (العود) دون ذكر سيدها المعاصر. يعتبر شمّه على نطاق واسع أفضل عازف عود في العصر الحديث، وربما الأكثر موهبة في كل العصور.

رأيته لأول مرة يعزف على الهواء مباشرة في متحف الدوحة للفنّ الإسلامي الذي افتتح في عام 2008. لم يكن الأداء أقل من كونه ساحرًا وساميًا. شعرت وكأني معه وحده هناك، اختفى كل شيء آخر خلف الأثير. ما زلت أتذكر كيف حركتني موسيقاه بطريقة لم أشعر بها من قبل، أو منذ ذلك الحين. قام بأداء مقطوعة رقصة الفرس، وهو لحن قام بتأليفه عندما رأى فرسًا بريةً وجدها الأسعد والأكثر حرية على وجه الأرض. يمكنك أن تشعر بحوافرها على الأرض، مع وثبات حرّة، وبدة الحصان تتطاير في وجه الريح. تركز المقطوعة على القوة والجمال والسرعة، فيها روح وإتقان وإبداع.

 

العود آلة قديمة في الشرق الأوسط، وهو أقدم الآلات الوترية، وجد في الحضارة الأكادية في عام 2350 قبل الميلاد، وازدهر خلال العصر البابلي القديم (1950-1530 قبل الميلاد). وصفه العرب قديمًا بأنّه عود له "أوتار لما تحركت مرة، خلقت لحنًا يساعد المرء على النوم أحيانًا، ويجعل آخرين ينتحبون". كان الشعراء والفلاسفة على حد سواء مفتونين بالصندوق الخشبي الصادح. ومع مرور الوقت، مرّ العود بتغييرات في شكله وأوتاره قبل أن يصبح بأحد عشر وترًا اليوم. ومع هذا، فإنه لم يفقد سحره، وما زال جزءًا رئيسًا من الموسيقى العربية.

ما لا يعرفه معظم الناس، هو أن شمّه حُكم عليه بالإعدام شنقًا في وقت ما، وكاد نظام صدام أن يُعدمه.

 

تم استهدافه كمعارض عراقي واعتقل بعد حفل موسيقي في الأردن. عند وصوله إلى بغداد، تم استجوابه لمدة 23 يومًا. ثم حُكم عليه بالإعدام شنقًا لانتقاده المزعوم لصدام حسين. يقول شمّه: "أعرف أنّ الكثير من الناس يحبونه لكنه كان قاسيًا مع شعبه. كنّا أربعمئة نزيل في السجن، نجا اثنان فقط. لم يرتكب أحد منّا أيّة جريمة. جعلتني تلك المحنة أكبر بسرعة كبيرة".

 

كان عمره يقارب العشرين سنة، عندما كان الجميع ينتظر نبأ إعدامهم كل صباح لمدة 170 يومًا. وكلما نادى الحارس أسماء مثل أحمد، فقد العديد وعيهم ممن كانوا يحملون اسم أحمد، لم يعرفوا دور من التالي. لكنه أُنقذَ عندما رآه الممثل المصري نور الشريف وهو يعزف في البصرة، فذكره عند لواء بعثي، فطلب ملفه وأطلق سراحه.

نصير شمَّه، الموسيقار والأسطورة، في العلا بالمملكة العربية السعودية.

في اليوم الذي خرج فيه من السجن، قُتلت أخته على يد نظام صدام في حادث سيارة على ما يبدو. كانت حاملاً في شهرها التاسع. باعتقاد شمّه؛ تم قتلها كعمل انتقامي من قبل النظام. "نحن عائلة متماسكة للغاية. في نفس اليوم تم إرسالي إلى الموصل لأداء الخدمة العسكرية. بكيت طوال الطريق لخسارة عائلتي، عزائي الوحيد كان العود".

كان اسم أخته نضال، ويعني مقاومة. كتب على شرفها مقطوعة موسيقية في اليوم الأربعين بعد وفاتها، أطلق عليها (رحيل القمر). بالنسبة لي، هي محادثة مرحة مع طفلة وخطاب حزين مع والدتها.

يحدثنا شمّه: "غيّر السجن والحرب من مسار حياتي، خاصة بعد قصف العراق في عام 1991 و1993. الطريقة التي عزفت فيها على العود، وضربت على أوتاره اختلفت بعدها. لو سمعتم التسجيلات قبل الحرب وبعدها، ستجدون هناك تناقض صارخ. وحتى أتمكن من عيش بقية حياتي، كان علي أن أسامح. حتى أنني سامحت صدام".

ويتابع: "تعرضت حياتي للخطر مرة أخرى في عام 1993. لكني تمكنت من الرحيل، ولم أعد لزيارة العراق حتى انعقاد القمة العربية عام 2012، وبعد مغادرة الأمريكيين. ومع ذلك، فإن أهم سنوات عشتها بروح عراقية كانت السنوات التي غادر فيها جسدي العراق. غادرت لأُبقي على حبي وانتمائي للعراق بشكل مختلف".

ويقول: "عندما لا نعيش في وطننا، نحاول خلق وطن بديل. عندي ولاء للمكان الذي أعيش فيه ولمن أعيش معهم، لكنني دوما سأنتمي إلى العراق".

"نحن نؤثث بلادنا بأرواحنا".

لاحظ نصير في شبابه كيف كان يجتمع الناس حول الراديو، يستمعون لأم كلثوم، وكيف كان لهذا الصوت الذي يسافر من على بعد آلاف الأميال، تأثيرًا عميقًا على مستمعيه. كيف كانت تتحول ربات البيوت العاديات بعد استماعهن لأم كلثوم وعبد الوهاب إلى نساء جميلات. يقول شمّه: "أدركت العلاقة بين الجمال والموسيقى. كيف يمكن للموسيقى أن تؤثر في الناس هكذا؟ تلك الزوجة الرتيبة خلال النهار يمكن لها أن تكون سيدة متألقة في المساء".

ويستطرد قائلًا: "تعلمت أهمية المعرفة عندما كنت طفلًا. مجموعة من المثقفين والمفكرين ممن يعرفون عائلتي كانوا يجتمعون أسبوعيًا في صالون حلاقة محلي لتبادل الأفكار. بدأت أفهم أهمية الثقافة والتعلم في كل شيء في الحياة. كيف تؤثر على الناس، والسلوك، والأخلاق، والفن، والعلاقات؛ تغيرت تمامًا".

باعتقاد شمّه، لا يمكنك فصل التعلم عن الموهبة، بغضّ النّظر عن حجم الموهبة. يجب أن يكون هناك معلم والدراسة ضرورية.

أيضًا الثقافة والفكر هما مفتاحان. حيث يقول شمّه: "دون بلاغة وفكر، ستكون مجرّد عازف فنّي، وستنتهي الموسيقى بانتهاء العرض". الموسيقيُّ البليغ سينتج فنًّا أكثر دقة وأشدّ تعقيدًا.

 

يخبرنا شمّه: "أول مقطوعة موسيقيّة عزفتها كانت القلب يعشق كل جميل، التي غنّتها أم كلثوم. لم أفهم الكلمات وقتها، لكنّي بكيت. حتى عندما كنت طفلًا، كان بإمكاني أن أشعر بعمق معانيها، وهذا دليل على ألقِ الكتابة".

 

يفضل شمّه استخدام العود البسيط، الخالي من أيّ زخرفة. يقول: "أعتقد أنّ أية إضافة تضعف من صوته. حجمه مثالي بالنسبة لي، وهو رفيقي منذ سن الحادية عشرة. كان العود بجانبي في كل حالات الفرح والحزن، والغضب والحب، وفي كل مشاعر الحياة وحالاتها، وتجاربها".
ومع ذلك، فهي آلة، وحتى يمنحها الحياة تحتاج إلى لمسة إنسانية. يقول: "الموسيقى هي علم الفيزياء. نصفها فنّ، والنصف الآخر منها رياضيات".

"الموسيقى تجعل الأشياء أكثر جمالًا وأكثر عاطفة. يتحكم الموسيقار في السرد الموسيقي، فيمنح العود صوت الحزن أو الفرح. أحب تحويل أصابعي إلى مصدر للصوت البشري؛ وصياغة الموسيقى من خلال يدي. إنّها أعلى درجات اللغة، ولا تحتاج إلى ترجمة. إنّما يمكن أن يشعر بها الجميع ويفهمها".

 

يثق شمّه ثقةً تامةً بأن الموسيقى ضرورية. فيقول: "لطالما كان الإنسان موجودًا، فقد خلق الصوت للتعبير عن الخطر، وتنبيه الآخرين، والجمع بين الناس. ستصبح هذه التقنيات البسيطة في النهاية آلات موسيقية معقدة. كل ثقافة وحضارة لها موسيقاها الخاصة التي تعكس بيئتها، ونضالاتها، وأفراحها. إنّ الفنّ ضرورة؛ يمكن من خلاله تقديم حلول لمشاكل المجتمع، وتقليل العنف، والتعصب، والتطرف. كما يزدهر الفن في بيئة آمنة سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا".

 

يحتاج عالمنا العربي لأشخاص يؤمنون بالثقافة على أنّها وسيلة للتعبير.

وعن الفنّ والعود يخبرنا شمّه: "علاقتي بالموسيقى تشبه علاقتي بالحياة، إنّها تمثلني وأنا أمثلها. العود كالنّور لي، إنّه بالتأكيد ليس ظلي، بل ربّما أنا ظله. لكنّه كذلك، جزء منّي وأنا جزء منه".

بيت العود العربي، هو أيضًا مرتبط بشمّه، حيث يتخرج أفضل العازفين المنفردين في العالم من مدارسه التي ظهرت في جميع أنحاء العالم بمعدل مذهل.

تأسّس بيت العود في القاهرة عام 1999 كمدرسة موسيقية احترافية متخصصة في آلات وإيقاعات الشرق. توجد مدارس في أبوظبي، والإسكندرية، وبغداد، والخرطوم. يقول: "نفتح الأبواب قريبًا في الرياض، حيث سنركز على إعادة قراءة النصوص الموسيقية العربية القديمة وتطبيقها. كما يلوح في الأفق مدن أخرى في المملكة، ربّما الدمام وجدة".

سيكون الافتتاح الرمزي بشكل خاص في الموصل خلال شهر مارس، والذي سيتزامن مع افتتاح مسجد النوري الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر ومئذنة الحدباء، التي دمرتها داعش في عام 2017.

"التعليم هو الأخذ والعطاء. يتطور الجميع ويستفيدون من بعضهم بعضًا. من الأنانية اكتساب المعرفة وعدم مشاركتها". في مدارسه، طلب شمّه من كل طالب أن يقسموا على تعهد أخلاقي؛ بتدريس ما لا يقل عن عشرة طلاب مجانًا، وهو ما يحب أن يطلق عليه زكاة العلم.

"لقد حولت أحلامي إلى جيش من الطلاب. عمر واحد لا يكفي لتحقيق ما أريد. لذلك أشجع كل طالب من طلابي على استكشاف مسار يتوافق مع أحد أحلامي. لدي أحلام في البحث والكتابة والنشر والتصنيع وما إلى ذلك. لهذا، أزرع أحلامي داخل طلابي، وأدعمهم، وأراقب أحلامي تتضاعف. واليوم أحصد فوائد هذا الإرث".

 

"لا يموت من يزرع علمًا".

وأجاب عندما سألناه عن نصيحة يقدمها للشباب: "كن مثابرًا، حتى لو استغرق الأمر سنوات. إذا واصلت، ستنجح في النهاية".

يمكن القول: إن أحد أعظم مآثر شمّه كانت التقنية التي صممها لعزف العود بذراع واحدة. قال صديقه، الذي قُطعت ذراعه في الحرب العراقية الإيرانية، إنّ الحرب سرقت أحلامه في العزف على العود، تمامًا كما فعلت مع آخرين كثيرين. في ذلك الوقت أقام شمّه حفلًا شهريًا في مسرح الرشيد ببغداد، أغلقه لمدة ثلاثة أشهر للعمل على إتقان أسلوبه. لقد ابتكر قصة حب شرقية، حيث كانت كل يدٍ عاشقة، والعود هو الوسيط الذي يتواصل من خلاله الحبيبان.

ومن الأساليب الرائعة الأخرى التي أتقنها كيفية العزف على العود بإصبع واحد فقط، لأجل زوج أخته الذي لم يتبق منه سوى جزء من يده، بسبب ويلات الحرب. عند الحديث معه لاحظت أن عمله دائمًا ما يكون له معنى وهدف سام. إنه يعطي الأمل لأولئك الذين أعطبتهم الحرب.

 

"ثلث حياتي كانت مجرد تمرين، أتقن طرقًا جديدة في التفكير والعزف، وما زلت أتعلم وما زلت أتدرب كل يوم. أعتقد أن عملي قد أُنجز عندما تمكنت من تقديم العود إلى أوروبا. كل ما لدينا في العالم العربي مستورد. ولكن عندما نتمكن من تصدير عنصر أساسي في ثقافتنا، أكون عندها قد نجحت.


أثناء حديثنا عن رؤيته، كان شمّه في منتصف جولة في الولايات المتحدة مع وينتون مارساليس، المدير الفني لموسيقى الجاز بمركز لينكولن في نيويورك. فأخبرنا: "كيف يمكن أن تعزف على العود مع الجاز دون أن يفقد أسلوبه، وهويته، وثقافته، وتراثه، وصوته. إنها رقصة بين الحداثة والكلاسيكية بهدف الحفاظ على هويتنا الثقافية".

يعتبر شمّه العود أداة أيقونية للشرق. فيقول: "كان أصلها من المعابد البابلية التي استخدمها ملوك بلاد ما بين النهرين للصلاة والتأمل قبل اتخاذ قرارات مهمة. في فترة هارون الرشيد، كان علماء الإسلام المشهورون مثل الكندي والفارابي والأرمني وابن سينا وابن زائدة يعزفون على العود". لقد وجد إرثا قويًا لدرجة أنه أثر بشكل كبير على الآلات الوترية الأخرى في الغرب.

كان للعراق سبع حضارات رئيسية. في كل هذه الحضارات، كان العود هو الآلة الرئيسية، إلى جانب الناي والدف، يستخدمها الملوك في الصلاة. حافظ العود على هويته لمدة 5000 عام، مما يجعله أحد أقدم الآلات وأكثرها احترامًا اليوم. إنّه هُويّة الأرض الواقعة بين نهري دجلة والفرات والشام ووادي النيل وشبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا. لقد ساعد على توحيد الدول العربية وينشر الجمال إلى بقية العالم".

ومع ذلك، وعلى الرغم من كل إنجازاته العجيبة، إلا أنّ نصير يعتبر أن أكبر إنجازاته كانت ابنته ليل.

يقول شمّه: "مهنيًّا، أهم شيء في حياتي هو تحقيق أسلوب مميز من أول ضربتين أو ثلاث ضربات. والأمر الآخر هو ابنتي ليل. إنّها ذروة وجودي وإنسانيتي، إنّها ثمرة حب كبير من زوجتي لينا الطيبي، الشاعرة والكاتبة المبدعة، ليل هي أفضل شيء في حياتي".

 

 

إعادة تعيين الألوان