نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

صوتُ الفنِّ الإسلامي
من الميدان

صوتُ الفنِّ الإسلامي

صوتُ الفنِّ الإسلامي

صنع باب الكعبة بجهود الشيخ محمود يوسف بدر، وقدم للملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود.
تقدمة: بينالي الفنون الإسلامية التابع لمؤسسة بينالي الدرعية في جدة.

بقلم زهرة شكارة
March 20th, 2023

ترى كيف يبدو صوت الفنُّ الإسلامي؟ كيف يمكن أن نصوّر أو نجسّد نداء الأذان للصلاة؟ عند الحديث عن فنِّ الصَّوت، أول ما يخطر على بال المرء بديهيًّا هو الموسيقى، ولكن من المهم معرفة أنَّه ليس كل لحن يعد موسيقى، إنما أفضل مصطلح يعبر عنه هو "فنّ الصَّوت" أي بمعنى هندسة الصوت، خاصة الأناشيد الدينية وغير الدينية، والتي تبدو إيقاعية ذات صوت بهيج، ولا تكون موسيقى بالمعنى المتعارف عليه.

إن الفكرة المتمثلة في قدرة فنّ الصَّوت على لمس قلب السامع وتعزيز المعنى لديه، وأنّه جزء أساسي من الروحانية؛ تشير إلى أهمية دور الصَّوت البشري الأساسي. لقد أدرك المتصوِّفة استطاعة فنَّ الصَّوت على امتلاك روحانيات أصيلة، وقدرتها على صقل أعمق المشاعر الإنسانية التي يمكنها أن تؤثر حتى على الشَّخص نفسه. ويمكن للضليع في التقنية الموسيقية مع فهمه العميق للنَّص أن ينقل معناه الكلّي، ومساعدة فرد لا يفهم اللغة على أن يدرك معنى كلماتها.

في بينالي الدِّرعية للفنون الإسلامية في جدَّة، تَجتمع الفنون الإسلامية بجوانبها المتعددة في مكان واحد، مع خمسة معارض متكاملة تعمل كل منها على إبراز فنون إسلامية مختلفة، الكلاسيكية منها والحديثة، إلى جانب المناطق الآخرى المتصلة بها.

يقابلنا (الصَّّمت) عند دخولنا إلى المعرض الأول. ثم يمرُّ من (الفراغ) صوتٌ مركّبٌ لعدة مؤذنين من مآذن بعيدة. لقد انتقلت إلى مدينة إسلامية، حيث وفي كل مرة من الأوقات الخمس المحددة من اليوم، يصدح فيها الأذان من مساجد مختلفة في مشهد حضاري. كما يتخلل المشهد، مجموعة من 18 مكبرات أعادتني إلى أرض الواقع، تلك التسجيلات تخص مدنًا مختلفة في أوقات مختلفة من الماضي. لذا، فإن ما خبرته كان دعوة عالمية للصلاة في مساحة واحدة.

بينالي الفنون الإسلامية في مدينة جدة، 2023، بعدسة زهره شكارة

قام جو نعمة بجمع تسجيلات لأذان المسلمين لبلدانٍ من أنحاء العالم في أوقات مختلفة، ضمن عمل فنّي يدعى (نسمة كونية Cosmic Breath) تكريمًا لتسامي تلك النداءات. في عمله الفنِّي الصَّوتي، يركز نعمة على الذاكرة والهُويِّة غالبًا، وصوتُ الأذان يتمثل في الهُويَّة المشتركة للمجتمعات الإسلامية في العالم. يوضع كلُّ تسجيل في طبقات لإنشاء مزيج من الأصوات التي يتردَّد صداها في جميع أنحاء المكان، فيمنحُ نسيج الأصواتِ العابر للبلدان واللغات انطباعًا بالخلود. تلك النداءات المهيبة القديمة والمعاصرة، تهدِّئ روح السامعين وتبحر بهم نحو التَّأمل. هذا العمل يعكس فهمًا عميقًا لقوة الصَّوت، ويستحضر الذِّكريات، ويستدعي الهُويَّة والتَّواصل عبر المكان والزَّمان.

على الرغم من وجود إحساس متأصِّل بالدَّيمومة في الأذان، إلا أنّ هناك بعض الاختلافات الصَّوتية. إحدى النداءات هي تسجيل مبكر للأذان من مكة يعود إلى القرن التاسع عشر، وتسجيل آخر من الفلبين. كما تشمل المساهمات المعاصرة أذانًا للمسجد الأقصى في القدس، ومسجد السلطان في سنغافورة، الذي يُعتقد أنه أول من استخدم مكبرات الصَّوت. نسمع أيضًا نداءات للصَّلاة من اليابان، وجورجيا، وجنوب إفريقيا، ومنطقة الصحراء في المغرب، وألمانيا، وأمريكا، وكلها تحمل أصواتًا فريدة ومميزة، تستحضر جغرافيتها وثقافتها الخاصة، لكنها تعكس معنى الوحدة والانسجام، فتمتزج كلها عمليًا في مشهد صوتي أثيري.

بينالي الفنون الإسلامية في مدينة جدة، 2023، بعدسة زهره شكارة

في المقابل هناك عمل لنورة العيسى أطلقت عليه اسم النور الأول، الذي يعطينا لمحة عن مكة والمصلين حول الكعبة مع صور مسربة التقطتها من خلال ملابسها.

كذلك مررنا على أروع إسطرلاب صادفته على الإطلاق، والذي يعود إلى العصر الصفوي. إنه بمثابة تذكير بقدرة المسلمين على صناعة الجمال من شيء عادي وتحويله لشيء فاخر. حتى الأركان البعيدة عن الأنظار تم تزيينها والاحتفاء بها. إنها ذات الفكرة التي تحاكي بأن الله في عالم الغيب، لكنه حاضر بجلالته وجماله.

ثم نلتقي بهيكل عملاق، عبارة عن مجموعة شاهقة من الأشكال المعلقة في الفضاء تشبه البراميل العادية أو مصيدة السَّمك، المستخدمة قبالة الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية. صائد الأمواج، من ابتكار بسمة فلمبان، مستوحاة من إيقاعات وتكوينات بحرية، ونماذج عروضية لبحور الشعر العربي. إنَّ الخلفية الصَّوتية للأمواج مستوحاة من صوتِ الأذان، حتى تخلق جوًّا هادئًا للاسترخاء، مثل أمواج محيط يلاطف شاطئه، أو إيقاعات الأذان الهادئة التي يمكن سماع صداها يتردد في الشوارع حتى بعد انتهاء الصلاة. وهي كلها تذكير بالموجات غير المرئية التي تنقل الصَّوت إلى أذاننا.

عادة، يتم ترديد الأذان وفقًا لنظام صوتي معين، يُعرف باسم المقام، والذي يملي على كل طبقة ومقطع نوعًا من الصياغة، ويضيف لها صوتًا مميزًا. ولللحن إيقاع يتبع ميزان بحور الشعر. كما أن نظم المقام له اختلافات حسب المنطقة، يتم فيها تعديل طبقة الوزن وفقًا للوقت من اليوم، حيث يستخدم الإيقاع البطيء عند الفجر، بينما يتم استخدام الإيقاع السريع عند غروب الشمس، ويوفر نظم المقام نمطًا عمليًا لهذا اللّحن.

وتوظف الفنّانة في عملها مفهوم المقام من خلال وضع أدواتها في الفراغ لإعطاء شكل مادي للأذان. إنّها تستخدم طريقة التّخيل من خلال النماذج التي ترمز إلى الأصوات، حيث يشير حجم النماذج وشكلها وموضعها إلى درجة الصَّوت ومدته. وتتمثل أهميتها في خشب الساج المستخدم في صنع قوارب الصيد والتجارة في الحجاز، وهي إشارة إلى الروابط البحرية السابقة.

صائد الأمواج، من ابتكار بسمة فلمبان، مستوحاة من إيقاعات وتكوينات بحرية ونماذج عروضية لبحور الشعر العربي. عرضت الأعمال الفنية في بينالي الفنون الإسلامية في مدينة جدة

إحدى السمات الرئيسية للفنّ الإسلامي، وفنون الصَّوت الإسلامية على وجه الخصوص، هي مواصفاته التجريدية. وهذا نابع من مبدأ التوحيد: أن الله لا خالق له، ولا يمكن تمثيله بأي شكل من الأشكال. الفنِّ الصّّوتي أقل تمثلًا من الفنون البصرية، لكن السّمات التّجريدية للفنَّ الإسلامي تتجلى في عدم الاهتمام بالموسيقى التّعبيرية أو الوصفيّة. ترتبط هذه الجودة المجردة بتقنية الزّخرفة اللّانهائية، حيث تتكرر الأنماط القصيرة مرارًا وتكرارًا، ولكن مع اختلافات طفيفة.

تميل أشكال الفنّ الصّوتي الإسلامي إلى أن تكون نموذجيّة: فكرة التَّأليف الموسيقي بالمعنى الغربي نادرة. بدلاً من ذلك، يتم إنشاء القطع الفنّية الصّوتية من وحدات مختلفة ومتميّزة، يتم دمجها وإعادة ترتيبها وتكرارها، مما يؤدّي إلى سمة أخرى من سمات الموسيقى الإسلامية: الارتجال. يتم الارتجال في تلاوة الأذان والقرآن بالطّريقة التي ينسج بها المؤذن أو القارئ الكلمات في عبارات لحنيّة مختلفة. وعادة لا يُخطَّط لهذا مسبقًا، ولا يعتمد نظريّة محددة، وتختلف من تلاوة إلى تلاوة. وبالتالي، فإن الموسيقى الإسلامية لها طبيعة ارتجالية وغير رسمية، وتميل إلى أن تكون بجودة لا تنتهي، وهو مفهوم رئيسي في الفنّ الإسلامي.

في اندماج إبداعي بين الفنّ السمَّعي والفنّ المرئي، فسرت فتيحة الزموري، مع المنسقة والباحثة سكينة أبو العلا، بأن صوت أذان الصَّلاة هو شكل متماوج ثم حولته إلى أداة رسم مادية. من خلال تحريك الأداة بشكل متكرِّر، تمكنت الزموري من تشكيل طبقة ترابية من مدينة تحناوت، حيث تعيش وتعمل، إلى أنماط هندسية تجريدية واسعة. كما استخدمت التراب لملء إطار خشبي، مما شكَّل عملًا الجزءُ منه فنيٌّ منحوت، والآخر منه منقوش.

"قواعد الأرض" هي أحدث أعمال فتيحة الزموري، والتي قدّمتها في بينالي الفنون الإسلامية مبنية على أعمالها السابقة، حيث تبحث في كيفية تمثيل المفاهيم الروحية من خلال صنع العلامات الجسدية، أي أن "العمل الروحي أصبح ملموسًا". ومن خلال العمل مع المواد الطبيعية، تستكشف الزموري موضوعات الزوال والمصير، فتصور شكل تلاوة الصلاة على هيئة أنماط هندسية مصنوعة من الأرض، لها عدة طبقات من المعاني تتماشى مع الطبيعة اللانهائية للفنّ الإسلامي. بنيت من مادة بسيطة؛ الطّين وهي مادة الخلق الأول. كما ترجمت الطبيعة الصوتية والروحية للصّلاة إلى شكل بصري جميل، مما يمنحنا بعدًا جديدًا للفنّ بوسائط مغايرة.

تشمل الصّلاة على الأذان، وتلاوة القرآن؛ وهي طقوس منتظمة من العبادة، وتشكيل هذه الجماليات والمعاني باستخدام أكثر المواد تواضعًا ألا وهو الطين، يلخص الفنّ الإسلامي وجوهره: هناك تطور في الممل، وهناك أناقة في البساطة، وجمال في الغيب.

صائد الأمواج، من أعمال بسمة فلمبان، 2023، بعدسة زهرة شكارة
إعادة تعيين الألوان