ماءٌ وحُرِّيَّة
فلج في ظفار، عمان. المصور: حسين المحروس. المصدر كتاب نزهة القنّاص.
كان في بيتِ طفولتي القديمِ فَلَج، والفلجُ ساقيةُ ماءٍ تتدفّق لتروي الناسَ والبساتين، فتُبنى البيوتُ القديمة بحيث تضمن دخول الفلج إلى حيّز البيت، آتيًا من بيوتِ الجيران، وذاهبًا إلى بيوتٍ أُخَر حتّى يصبّ أخيرًا في البساتين. هذا يعني أنّه كان بإمكاني زيارة صديقتي عن طريق التسلّل في السّاقيةِ المسقوفةِ بين بَيْتَيْنَا والوصول إلى بيتِها سباحةً، دون الحاجةِ إلى الاستئذان من والديّ للخروج من بابِ البيت، ما أتاحَ لنا حرّيةً ومتعةً هائلة، كما مكّننا من مصادقةِ العديد من الكائنات الخياليّة التي تعيش في الفلج، وتختبئ بين الطّحالبِ وصغار السَّمك عن عيونِ الكبار، هكذا صادقْنَا الأقزامَ المرحة والجنّيّاتِ الطيّبةَ والبنات الشفّافات اللّواتي يُشبِهْننا، لكن لا أحدَ يراهنَّ غيرنا.
كان على هذه الذكرى الطّفوليّة أن تندسّ في مكانٍ ما من وعيي، حتّى أجدها تطلّ عليّ بين سطور روايتي الرابعة "حرير الغزالة" بعد أكثر من ثلاثين سنة على انتهاء نهارات السّباحةِ بين السّواقي المسقوفةِ ومناكفةِ الأهل، ومسامرةِ الأقزام والجنّيّات. هذا ما يفتنني بشأن الكتابة، على الرّغم من الشَّقاء في مكابدتها أحيانًا: إنّها تفاجئني. إنّها تنتقي من ذاكرتي الخيوطَ التي ظننتُ أنّها بهتَتْ، وامَّحتْ فإذا بالكتابة تتخيّرها، وتصطفيها، تلوّنها بألوان جديدة لم تكن موجودةً حتّى في أصلها، وتعيدُ غزلها ونسجَها في نصّ جديد ومختلف كلّيًّا عن الواقع.

الكاتبة: جوخة الحارثي.
وفي أحيانٍ أُخَر ينكتبُ النصّ لحظةَ تلقّي بهاءِ الطّبيعةِ، التي تبدو كأنَّما خُلِقَتْ للتوّ، وهي الموجودة قبلنا بما لا نحصي من أعمار؛ مرّةً كنتُ على حوافّ غابة، أشجارٍ طويلة ولانهائية، كلّما خطوتُ باتجاهِها جذبتني أكثر، انخلعتُ من جسدي، وشعرتُ أنّ روحي تتقدّم خطواتي، وتندفع لهذا النّداء الغامض، فتوغّلتُ، رغبتُ في الضّياع بين الجذوع، انسقتُ لما تسوقني إليه الغابة، وكان نصّي ينكتبُ حينها، بيديّ تتلمَّسان الغصون، بعروقي، بروحي التي تُطاولُ شجرَ الغابة.
حين يغطّي الثّلج قِممَ جبل شمس، يخرج ناسُ السُّهول مُستظلّين بأفياء النّخيل من حرارةِ الظهيرة، وحين يجني أهلُ الجبل الأخضر الوردَ والرُّمَّانَ، ويعصرون زيتَ الزّيتون، ينصبُ أهلُ واحات الشّرقيّة المراجلَ الهائلة لغلي البُسر وتجفيفه، وحين يغطس الغوّاصون في الديمانيات مُتأمّلين الحياةَ البحريّة العجيبة، تنتشر الرّاعياتُ في الجبال يُنشدن أناشيد الأبديّة، ويُداوينَ الجراحَ بعُصارة "دم التنّين" ولحاء "عُشّ البلبل"، وإذ تنوح الأمهاتُ في ليالي الصّحراء المقمرة على بناتهنَّ اللواتي تحوّلن إلى كوكب الزّهرة في السماء، يدقُّ رجالُ السَّواحل الطبولَ الضّخمة، وتُقرع دفوف الأعياد على إيقاع الموج. وإذا ما شقَّت عجلاتُ السّيّارات طُرق الصّحراء فإنّما تمشي على آثار قوافل جِمال حملَتْ التّمورَ والعسل والحرير والتّوابل، كما حملَتْ صناديقَ انقفلَتْ على أثمن الكتبِ وأنفس المخطوطات، لمعَ الذّهبُ تحت هذه الشّمس كما لمعَ السّراب، تاه المغامرون، واسترشد الصيّادون بالنّجوم، ووُلِدَتِ القصائد.

عين (مهوى نجم)، دماء والطائيين، عمان. المصور:حسين المحروس المصدر كتاب نزهة القنّاص.
وإذا اخترتُ جانبًا من هذا التنوع، ولوحةً في هذا المعرض الغنيّ لكتابتي، فإنَّما أختارُ لونًا يضمُّ كلَّ الألوان، ودربًا يفتحُ الطريق أمامَ دروبٍ أُخَر، وحُلمًا يليقُ بالطبيعة والإنسان.