الأسطرلاب – أداة الزمن والترحال الثمينة
أسطرلاب دائري مسطّح – إسبانيا (الأندلس التاريخية)، يُرجَّح أنّه من طليطلة، القرن الرابع عشر. مصنوع من البرونز، منقوش ومرصّع بالفضّة. القطر: 13.5 سم، رقم الحفظAKM611. بإذن من متحف الآغا خان.
قبل أن تفرض الساعات الميكانيكية نفسها على إيقاع أيامنا وحياتنا، ابتكر علماء وفلكيون مسلمون آلاتٍ دقيقة تُعرف بالأسطرلاب، جمعت بين الزمان والمكان في أداة واحدة بديعة الصنع.
كان الأسطرلاب، مثل هذا النموذج البالغ التعقيد المنسوب إلى مدينة طليطلة في جنوب إسبانيا في القرن الرابع عشر، والذي امتلكه في السابق رجل يُدعى مسعود، رفيقًا لا غنى عنه للمسافرين، كما كان أداة أساسية للحسابات اليومية، فخلال الرحلات كان يُستخدم لتحديد الوقت، وطول النهار، ومعرفة مواقيت الصلاة، ورسم اتجاه القبلة نحو مكة المكرمة، كذلك تقدير المسافات المتبقية إلى الوجهة المنشودة.
باختصار، كان الأسطرلاب واحدًا من أهمّ الأدوات، وأكثرها استخدامًا واعتمادًا عند العلماء المسلمين عبر العصور.
أصول الأسطرلاب وتطوره
اخترع الإغريق الأسطرلاب لأول مرة في القرن الثالث قبل الميلاد، لكنّ العلماء في العصر الإسلامي الوسيط طوروه، وأتقنوا صناعته، حتى قيل إنّ له أكثر من ألف استخدام مختلف، من بينها قياس مواقع الأجرام السماوية في السماء، ووضع الطوالع الفلكية، ومسح الأراضي. وكان الأسطرلاب قادرًا أيضًا على حساب زاوية القمر فوق الأفق، وتحديد منازل القمر (أيْ موقعه داخل برج من الأبراج في ليلة معينة).
أمّا كلمة "Astrolabe" بالإنجليزية، و"أسطرلاب" بالعربية، فمأخوذة من المصطلح اليوناني Astrolabe، وتعني "آخذ النجوم"، وقد عُرف هذا الجهاز بعدّة أسماء، بعضها شاعري الطابع؛ إذ وصفه العالم الموسوعي في العصور الوسطى، البيروني، بـ"مرآة النجوم"، و"آخذ النجوم".
يتألّف الأسطرلاب من أربعة أجزاء رئيسية:
● اللوحة الأساسية (الماتر)، وهي القاعدة.
● اللوحة الشبكية (الريتي)، التي تُظهر النجوم الثابتة، وأبراج البروج، وجزءًا من مسار الشمس في السماء، إضافةً إلى بعض النجوم المرئية بالعين المجردة.
● الصفائح المخصّصة لدوائر عرض مختلفة، بحيث تتيح استخدام الجهاز في مناطق متعدّدة.
● المسطرة (العضادة) المثبتة في الجهة الخلفية، وتُستخدم في عمليات الرصد وقراءة التدرجات.
يحمل هذا الأسطرلاب الإسباني الوسيط سحرًا خاصًّا، إذ تزيّنه نقوش باللاتينية والعبرية والعربية، تعود إلى زمنٍ عاش فيه المسلمون والمسيحيون واليهود في الأندلس جنبًا إلى جنب في وئامٍ وعملٍ مشترك. إنّه كنز رمزي يجسّد جوهر التعايش والقبول بالتعدّدية الثقافية.
استكشفوا معنا: مريم العجلية، صانعة الأسطرلاب في القرن العاشر، والمعروفة أيضًا بلقب "الأسطرلابية"، الحِرَفية الماهرة التي خلّدها التاريخ.
تعلّمت مريم العجلية فنّ صناعة الأسطرلاب على يد والدها، الذي كان بدوره قد تتلمذ على يد صانعين بارعين لهذا الجهاز الفلكي. وقد برز اسمها في حلب شمالي سوريا، حيث احترفت صناعة الأسطرلاب، وعملت في بلاط سيف الدولة الحمداني، حاكم المدينة بين عامي 944 و967 للميلاد.
وعلى الرغم من أنّ قصتها كثيرًا ما طُويت في زوايا التاريخ، فإنّ من المهم إعادة الاعتبار لإسهامها الريادي، ودورها في تطوير أدوات قياس الزمن والفضاء، ما شكل خطوة بارزة في فهم الإنسان للعالم من حوله.

أسطرلاب مسطّح – إسبانيا (الأندلس التاريخية)، يُرجَّح أنّه من طليطلة في القرن الرابع عشر. برونز منقوش ومرصّع بالفضّة. القطر: 13.5 سم، رقم الحفظ - AKM611. من مقتنيات متحف الآغا خان.
*بقلم الدكتورة أولريك الخميس، المدير التنفيذي لمتحف الآغا خان. نُشرت أجزاء من هذا المقال سابقًا في عدد خاص من سلسلة "الأسفار".


