مراوغة الزمن
لوحة "الأمثال الهولندية" (1559) للفنان بيتر بريغل الأكبر — تصوير نابض بالحياة لأكثر من مئة مثل في مشهد واحد. الحقوق: ويكيميديا كومنز / مشروع غوغل للفنون.
يحلو للبعض وصف الحياة في المجتمعات الفطرية والريفية بـ "العيش خارج الزمن"، وهذا تصور خاطئ؛ فالزمن جرح البشر في كلّ مكان.
يحرص المزارع الحاذق على الاقتصاد في الزمن، إذ يدمج زرعة جديدة في أخرى بدأت النضج كسبًا للوقت، عندما تذهب سيقان البصل والثوم باتجاه اليباس يعني أنّ رؤوسها تحت التربة صارت شبه ناضجة، يبذر المزارع بذورًا جديدة لنبات آخر، فول، قطن، أو غيرهما. لا يستهلك النبات الناضج الكثير من قوة التربة، لأنّه يتغذّى على ما تبقّى من حياة في سيقانه، ويوفّر وجوده الدفء للزرع الجديد الغضّ. هذا التدبير هو اختصار وتدوير للزمن بشكل عملي.
من جرح الزمن نشأ الإيمان بالبعث لدى قسم من البشرية، والإيمان بالتناسخ لدى قسم آخر، ونشأت الفلسفة كي توفّر نوعًا من فهم اللغز. قسَّم أفلاطون الحياة إلى مُثل خالدة، وصور فانية، ثمّ كانت فلسفة العود الأبدي التي وجدت جذورها الأولى في أفكار التناسخ، في المقابل تتبنّى الوجودية فكرة العدم بنزوع حزين لا يخلو من رغبة في تعذيب الذات، لأنّ نتيجة المواجهة محسومة. يعكس ألم فقد جلجامش لصديقه إنكيدو ذلك الإحساس بالهزيمة في مواجهة الموت.
الزمن جرح، والمضارع هو مركز الألم فيه؛ فهو الذي ينبّهنا إلى أنّ الحياة غير قابلة للإعادة. هو أكثر الأزمنة واقعية وغرائبية في الوقت ذاته، يولد، ويموت في لحظة واحدة. المستقبل، على العكس، زمن افتراضي مشكوك في وجوده، والماضي أكثر الأزمنة واقعية، لكنّه قابع هناك في هدوء الأرشيف، لا حول لنا حياله، لا نستطيع إلغاءه، أو تعديل مساره ليوافق رغباتنا.
التتابع الخاطف لميلاد الزمن المضارع وموته فاتن ومخيف؛ لهذا نحاول استرضاءه، كما استرضى الإنسان البدائي قوى الشرّ بعبادتها، وأحد أشكال استرضاء الزمن هو كتابة الرواية.
خوف القارئ والكاتب من الفناء أهمّ الأسباب التي تجعل من الفنّ الروائي ضرورة. يعيش الكاتب الحيوات التي يكتبها بوصفها حيوات مضافة إلى حياته، قد يصيبه بعض الجنون، فيأمل بالخلود من وراء كتابته. ويخصّص القارئ شيئًا من وقته كي يعيش مع رواية بلا علاقة نفعية واضحة سيجنيها. هي لا تمنحه معرفة يقينية كالعلوم الطبيعية، لكنّه يُقبل على قراءتها لأنّها تمنحه حياة إضافية. يعاين جراح أبطالها لاهيًا عن جرحه، ويتلصّص على أخطاء الآخرين كي لا يرتكب غيرها، لأنّ حياته الخاصة واحدة، لا تمنحه فرصة للإعادة أو التصحيح.
لا تطالبنا الرواية بانتظار سنوات طويلة لنرى غيبها، ونتعرّف على مصائر أبطالها. ترى طفلًا يحبو، وفي الصفحة التالية نجده في المدرسة، ثمّ نراه في الجامعة، ثمّ عالقًا في فخّ زيجة غير مناسبة. هذه البركة في الزمن الخيالي تصلح وحدها دافعًا لقراءة الرواية.
استراتيجيات بناء الزمن في الرواية لعبة أخرى لمراوغة الفناء. البناء الزمني الأبسط الذي لا يُعوّل عليه هو البناء الخطّي الذي يحاكي الزمن في الواقع، حيث تمضي الأحداث بالبطل من الطفولة إلى الشيخوخة.
لكن هناك بنيات للإطالة والمغالطة في الزمن. البنية الدائرية الأقدر على مغالطة الفناء تبدأ من نقطة في الحاضر أو الماضي، ثمّ يتحرّك الزمن تقدّمًا أو تقهقرًا، ثمّ يعود في الختام إلى نقطة البدء. وهناك الزمن البندولي، الذي يتردّد بين الماضي والحاضر في حركة تشاغل وعي القارئ، وهناك البناء المنفلت من قواعد المنطق الفاقد للانتظام. أكتب كلّ هذه الأوصاف لأتفادى كلمة "التشظّي" لأنّني أكرهها دون سبب واضح. نجد ذلك الزمن المنفلت من أيّ نظام في تيار السريالية، كما يمكن أن يستخدمه الروائي لبناء شخصية هذيانية كشخصية بنجي في "الصخب والعنف" لفوكنر.
وقد توصّل تيار الوعي إلى تمطيط الزمن، حيث يمكن لنظرة خاطفة من نافذة قطار أن تفتح بابًا على زمن لا نهائي من الذكريات والأحاسيس التي يستدعي بعضها بعضًا.

حكايات وأساطير من الشرق الأوسط. الحقوق: Shutterstock.
في كتاب السرد الأكمل "ألف ليلة وليلة" نعاين تمطيط الزمن عبر حيل أخرى ليس بينها التأمّلات البطيئة في تيار السرد. هنا الكلام أو الموت بلا خيار ثالث. حياة شهرزاد على المحكّ كلّ ليلة، وأيّ ارتخاء في وتر الحكاية سيرسل بالراوية إلى السيَّاف. هنا كان التلاعب بالزمن من خلال حيلة توالد القصص واحدة من الأخرى.
تخلط الليالي الماضي بالحاضر بالمستقبل بشكل لا مثيل له. تتحدّث القصة الإطار عن ملكين شقيقين "شهريار"، و"شاه زمان"، عاشا في سالف العصر والأوان، وعندما تتسلّم شهرزاد دفّة السرد تحكي لشهريار قصصًا عن خليفتين من المستقبل: عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد باعتبارهما ملكين "من سالف العصر والأوان". وفي ترتيب ظهورهما بالحكايات نتعرّف على هارون الرشيد العباسي في الليالي الأولى، وننتظر مئات الليالي حتى يظهر عبد الملك بن مروان الأموي.
وفي رحلات السندباد نعثر على البنية الدائرية للزمن، إذ نتعرّف على ما جرى للسندباد في رحلاته السبع، عندما تقاعد، وتفرَّغ لروايتها على أصدقائه في سهراته الباذخة، وهذا عمل بوسعنا أن نتخيّل فيه إمكانية استمرار زمن الحكي إلى ما لا نهاية.

تتجلى في هذه المنمنمات روح ألف ليلة وليلة، حيث تلتقي الأساطير بالحكايات الشعبية في مشهد فني واحد. الحقوق: Shutterstock.
مارسيل بروست فعل شيئًا مثل هذا، بخلق متاهة من الأزمنة في "البحث عن الزمن المفقود"، تجعل القارئ عالقًا في الأجزاء السبعة لملحمته الروائية. لكن من غير الضروري أن يبني كلّ الروائيين متاهات زمنية شاسعة في رواياتهم؛ لأنّ الفنّ الروائي رحب، مليء بالحيل والمراوغات.
وليس هناك من ترياق يشفي من ألم عبور الزمن؛ لكن الرواية تستطيع، على الأقلّ، تسكين هذا الألم.

لوحة بعنوان "YCE Rouziere" لمارسيل أووسترفيك - صورة مقربة تلتقط جزءًا من غلاف كتاب "بحثًا عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست. الحقوق: مارسيل أوسترفيك / ويكيميديا كومنز.


