نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

حقيقة أم خيال: ساعة العباسيين التي دقّت في بلاط شارلمان
زوايا ثقافية:

حقيقة أم خيال: ساعة العباسيين التي دقّت في بلاط شارلمان

حقيقة أم خيال: ساعة العباسيين التي دقّت في بلاط شارلمان

هدية الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان، من سلسلة لوحات جاكوب يوردان بعنوان «تاريخ شارلمان»، ما بين عامي 1665 و1675م. المصدر: ويكيميديا كومنز.

بقلم حسن الباذر
December 30th, 2025

"أمّا هدايا الملك المذكور فكانت أردية حريرية ثمينة، وعطورًا وأدهانًا وبلسمًا؛ كذلك ساعة (هورولوجيوم) صُنعت بفنٍّ ميكانيكي عجيب من النحاس الأصفر، تُدار ساعاتها الاثنتا عشرة بوساطة مزولة مائية، ومع كلّ ساعة تسقط كرة نحاسية صغيرة، تُحدث برنينها صدى الصنج أسفلها؛ وقد أضيف إليها اثنا عشر فارسًا نحاسيًّا، يخرجون من نوافذهم الاثنتي عشرة عند تمام الساعة، ليغلقوا النوافذ التي فُتحت من قبل. كانت في الساعة أيضًا عجائبُ أخرى، يطول المقام بذكرها" - حوليات الفرنجة، عام 807 م.

 

في عام 807 م، يُقال إنّ الخليفة العباسي هارون الرشيد أرسل إلى شارلمان في مدينة آخن هدية مهيبة: ساعة مائية نحاسية (كلِبسيدرا) مزوّدة بآليات متحرّكة، تجسّد روعة التقنية في ذلك العصر. تصف حوليات الفرنجة الملكية هذه الهدية بأنّها "آلة ميكانيكية مدهشة" تسقط منها كرة في كلّ ساعة لتقرع صنجًا، بينما يخرج اثنا عشر فارسًا صغيرًا من نوافذهم ليغلقوها بعد انتهاء العرض.

يذكر الشهود في الحوليات أنّ البلاط انبهر بالمشهد، وأنّ الملك نفسه أعجب ببراعة الصناعة.  لكن يذكر أرباب السير أنّ الرهبان لم يشاركوه الدهشة؛ إذ أقلقهم صوتها المعدني المنتظم، فدمّروها ظنًّا منهم أنّها مسحورة أو ممسوسة، معتقدين بذلك أنّهم يطردون روحًا شريرة، بينما لم يكونوا يدركون أنّ المعدن قد يتحرّك بغايةٍ من صنع البشر. سواء أكانت الحكاية حقيقة أم خرافة، فإنّها تجسّد الدهشة والخوف اللذين أثارتهما تقنية سبقت زمنها بقرون.
 

ومع أنّ المصادر الغربية – مثل اينهارد والحوليات الفرنجية – تروي هذه القصة بوضوح، فإنّ تأكيدها في المصادر العربية والإسلامية يكاد يكون غائبًا، فمؤرّخو العصر العباسي، مثل الطبري، لم يوردوا أيّ إشارة إلى بعثة دبلوماسية بتلك الضخامة إلى شارلمان. ويرى بعض الباحثين أنّ الدبلوماسية الروتينية، ولا سيّما الناجحة منها، لم تكن تُسجّل تفصيلًا في تلك المصادر، إذ كانت شؤون البيزنطيين تستأثر بالاهتمام التاريخي في البيئة العباسية آنذاك.


من منظورٍ تاريخي، تبقى الرواية ممكنة، ولكن غير مؤكَّدة، فالمصادر الغربية تقدّم سياقًا سياسيًّا ومنطقيًّا يدعمها: فالتقارب الكارولنجي–العباسي (الذي كان موجّهاً جزئيًّا ضدّ الأمويين في الأندلس) موثّق بشكل جيد، وتبادل الهدايا النادرة؛ ومنها الفيل الشهير "أبو العباس"، مذكور بوضوح في النصوص اللاتينية. أمّا غياب الإسناد العربي فلا يعني نفي حدوث الواقعة بالضرورة، إذ يرجّح المؤرّخون أنّ الصمت عنها في تلك المصادر يعود إلى اختلاف الأولويات، أو ضياع السجلات، أو الانتقاء في التدوين، لا إلى دليلٍ قاطع على عدم وقوع الحدث.


وثقل الأدلّة الغربية يجعل القصة معقولة وإن لم تكن يقينية. فالمؤرّخ المتساهل قد يعدّ هدية الساعة المائية مزيجًا من الحقيقة والأسطورة الدبلوماسية؛ حادثة متجذّرة في بعثاتٍ حقيقية، لكنّها ربما اكتست بشيء من المبالغة في أثناء النقل. وهكذا تبقى هذه الساعة، سواء كانت حقيقة أم أسطورةً جزئية، رمزًا بالغ الدلالة: طموح مشترك بين بلاطين، يعبّران بالدبلوماسية والهدايا عن الهيبة، والنفوذ، والاحترام المتبادل عبر حدود الدين والجغرافيا.


من الجدير حقًّا أن نتأمّل كيف يُنظر إلى حدث ما باعتباره حادثة كبرى لدى جانب ما، وفي الوقت نفسه يُنظر إليه على أنّه مجرد حادثة عادية، لا تستحق التدوين عند الجانب الآخر، وهذا يدفعنا للتفكير في تبدّل الأحوال وسرديات الذاكرة الجمعية. فما هو رأيكم إذًا، هل هي حقيقة أم خيال؟
 

تصوّر تخيّلي لساعة شارلمان من كتاب «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل» لإسماعيل الجزري، عام 1206م.صورة من متحف المتروبوليتان للخطاط فَرُّخ بن عبد اللطيف . 
إعادة تعيين الألوان