التصوير: مقاومة لذوبان الزمن
جدّة، البلد 2016. بإذن من المصور عبد الله المالكي.
تغيّر كلّ شيء لحظة اكتشاف الإنسان أنّ باستطاعته إمساك الضوء، وتجميد الزمن. اكتشافٌ أول لفكرة أنّ الذاكرة وحدها تُعدّ حفظًا ناقصًا للوجوه والأماكن والأحداث، فأصبحت الكاميرا ذاكرةً موازية بفضل قدرتها على إيقاف اللحظة، وإعادة سردها بطريقة أخرى.
تمنحنا العدسة سلطة صغيرة على ما لا يمكن تملّكه، اللحظة والعابر. تقول سوزان سونتاغ في كتابها حول الفوتوغراف: "إنّ التقاط الصورة هو امتلاك للشيء المصوَّر بطريقة ما". بينما ترى دوروثيا لانغ أنّ دور الصورة يتجاوز التوثيق إلى فعل مقاومة ضدّ الزوال والذوبان في وسط هذا العالم، فبالنسبة لها: "التصوير ينتزع لحظة من الزمن، ويغيّر الحياة بإيقافها".
وفي الحدّ الفاصل بين الوجود والعدم، بين ما كان، وما لن يكون، تبقى الصورة "تكرارًا ميكانيكيًّا لما لا يمكن تكراره وجوديًّا" حسب وصف رولان بارت. ومن نظرة المصور للعالم، واختياره لما يُبقيه حيًّا عبر تصويره، يتجاوز دوره الرصد ليُعيد صناعة اللحظة.. وهكذا يتأرجح معنى التصوير بين الامتلاك والإيقاف والصناعة، بين اللحظة الراهنة، وخوف فواتها. في هذه المساحة بين الضوء وذاكرة الصورة، نحاور المصور عبد الله المالكي، حول علاقته بالكاميرا والزمن، واللحظات التي استطاع أن يوقفها، وتلك التي فلتت منه قبل أن يصورها.
أمسكت بالكاميرا لأول مرة وأنا في سنّ الخامسة أو السادسة، كانت كاميرا والدي بلون أحمر مميّز. أمسكت بها من باب الفضول الطفولي والدهشة، كيف يمكن لهذا الجسم الصغير أحمر اللون أن يرسم ابتسامتي؟ كنت وقتها أعيش كلّ مراحل التصوير مع والدي، فنصوّر في تجمّعاتنا العائلية أو نزهاتنا، ثمّ يأخذني معه لمعمل التصوير ليُحمّض الصور، وقتها كنت أعتقد أنّ التحميض هو عصر ليمونة على الفيلم.
كبرت كما هي سنة الحياة، ولكن ذلك الطفل الذي يعتقد أنّ الفيلم يتمّ تحميضه بليمونة لم يكبر. اقتنيت أول كاميرا وأنا في عمر العشرين، لكنّها كانت مختلفة، ورقمية بالكامل، ومنذ اللحظة الأولى نشأت علاقة قد تبدو غريبة من بعيد، ولكنّي أراها طبيعية جدًّا. كنت أحمل كاميرتي معي في كلّ مكان بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، كانت بمثابة عيني الثالثة، حتى عندما أنام -بدون مبالغة- كنت أضعها بجانبي، وأول ما أفعله فور استيقاظي هو النظر إليها ولمسها. بدأت أرى كلّ شيء أمامي، ولكن بعد تجارب عديدة استمرّت حوالي سنتين وجدت شيئًا ساحرًا في تصوير وجوه الناس، وتوثيق حياتهم وحكاياتهم، هنا تغيّرت علاقتي بالكاميرا، فأصبحت كلّ صورة مصدرًا لحكاية مختلفة.

"كيوم ولدته أمّه". مكة المكرمة، صحن المطاف ٢٠١٤. بإذن من المصور عبد الله المالكي.
في كلّ صورة أنت تتوقّف، لكن بين الصورة والصورة مساحة للحركة، الحركة التي تتغيّر باستمرار بعد كلّ توقّف، أو بعد كلّ صورة.
الصورة، في كثير من حالاتها، تحمل النقائض، مرة تكون ترياقًا يقاوم النسيان، وأخرى لعنة لا يمكن التخلّص منها، وتبقى مطبوعة في الذاكرة.
يقرأ الزمن في صور الناس من خلال تقاسيم وجوههم وأعينهم، وكلّ التفاصيل الهامشية.
تكمن قيمة الصورة بالنسبة لي في كلّ ما حدث قبلها وفي أثنائها، في القصة والعلاقة الشخصية بين المصور وصاحب القصة، الشخص في الصورة، أيضًا في العلاقة الشخصية بين المصور بكاميرته.

الحاجة سعيدة، مكة المكرمة 2018. بإذن من المصور عبد الله المالكي.
أظنّ أنّ العلاقة الشخصية التي تنشأ بيني وبين الأشخاص الذين أصوّرهم هي السرّ، كانت العلاقة الشخصية على الدوام هي الأولوية والأساس، الصورة تأتي لاحقًا. هذه العلاقة تسمح بانفتاح الطرف المقابل لك، ليحكي قصته، وسماع هذه القصة بإنصات وتفهّمها واستيعاب تفاصيلها يجعل الصورة أكثر صدقًا.
التوثيق هو ذاكرة بديلة، ذاكرة نستطيع تلمّس جماليتها وتأمّلها ودراستها.
المدن الجامعة كمكة والمدينة، هاتان المدينتان اللتان يحجّ إليهما الناس من كلّ فجّ عميق، تسمع فيهما كلّ اللغات واللهجات، وترى كلّ الأعراق والألوان، وتقترب خطوات من ثقافات مختلفة، مجتمعة في مكان واحد، ولا تتسع لها مدن العالم كمكة والمدينة المنورة.

مباراة قرب جبل الطندباوي، وجميع غفير من أهالي الحيّ يتابعون المباراة. مكة المكرمة 2017. بإذن من المصور عبد الله المالكي.
الحاضر، الآن هو المهمّ، توثيق الحاضر يعني توثيق الماضي بشكل ما، وهو أساس يُبنى عليه المستقبل بطرق مختلفة.
استمتعوا بالمزيد من أعمال عبد الله المالكي:

عمران، مكة المكرمة 2017. بإذن من المصور عبد الله المالكي.

العمّ عادل، القاهرة 2022. بإذن من المصور عبد الله المالكي.

أعمال التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام، مكة المكرمة 2015. بإذن من المصور عبد الله المالكي.


