الحياة في عالم السْكِيتشات
سْكِيتش رجال ونساء، بإذن من الفنان.
الفنان كميل حوا. بإذن من الفنان
ساهم «كميل حوا» على مدار الخمسين عامًا الماضية بلمسةٍ وإرثٍ ابداعيّ فذّ في ساحة الفنّ. ربما لم يحظَ «كميل» بتعليم أكاديمي في الفن، لكنه وبإيمانه أن الفن منبعه الروح، أصبح من أبرع الفنانين المرموقين ذوي الشأن في الوطن العربي.
وبرغم اشتهاره بأعماله المميزة في التصميم والخط والطباعة، إلا أن الرسم يظل الأقرب إلى قلبه.
سنلقي الضوء على شغفه وفلسفاته، وماضيه وحاضره وآماله للمستقبل. كما سنتعمق في خفايا عقله الابداعيّ لنتعرّف أكثر على محطات عمليته الفنيّة وكيف يفهم الفن ويشكّله.
يعتبر الفن وجهًا عميقًا من الوجود والتقدّم البشري. فمنذ الأزل، ولآلافٍ من السنين، عبّر البشر عن أنفسهم بطرقٍ فنية متفاوتة، كالرسم والنقش والكتابة، ومن ثمّ الشعر وألوان أخرى من الفنون؛ مما جعل الفنّ جزءًا عميقًا من الوجود والتعبير البشري. وأنا أؤمن أن بإمكان الفن إنقاذ الروح البشرية عندما تضنيها الطبيعة، أو النضال الاجتماعي، أو السياسي، أو الحروب، وغيرها. فالفن في جوهره شريكٌ دائمٌ للبشر.
لوحة بورتريه للفنان، بإذن من الفنان.
يلهمني كل شكلٍ ومجسمٍ أخّاذ يتمتع ببعدٍ إنساني. وأقصد بالبعد الإنساني أيّ شيء يؤثر على الوجدان والحسّ البشري. فبالنسبة لي، الفن هو الإحساس. وكمثالٍ بسيط: الطيور المصطفّة على الأسلاك، لماذا قد تلهمني أو تلهم غيري؟ لأن منظرها بديع أولًا، وأيضًا تُشعرك كما لو أن هذا الطير يحاكيك عندما تجلس في الشرفة أو على ساحل البحر مُناظرًا للطبيعة، حالمًا ومتأملًا ومتدبرًا. وهكذا تسحرك هيئة الطير على السلك، وهذا مثال لآلية استمداد الإلهام. كذلك تحركني الأفكار، وهي من أكثر ما يلهمني.
من أشهر رسومات الفنان كميل حوا : الطيور على سلك، بإذن من الفنان.
قد يعرف الشخص ما يلهمه، ولكن ليس بالضرورة دومًا. بالنسبة لي، يستمدّ الفنان إلهامه، سواءً كان رسّامًا أو شاعرًا أو موسيقارًا، من أشياء جمّة طوال ساعات النهار. والابداع هو تراكم تأثيراتها في روح الفنّان،
والتي تحتشد وتتعاظم شيئًا فشيئًا في مكانٍ ما وفي لحظة بعينها ليصنع بها لوحةً أو يكتب قصيدةً أو مقطوعة موسيقية كما لو أنّه قد بدأ يسحب طرف الخيط من داخله ويجعله فيما يصنعه. هكذا أصف العملية الابداعية.
هما شيئان مختلفان تمامًا، فالرسم هو نشاطٌ مكتمل، أما المسوّدة فهي البدايات. عندما أقوم برسمٍ مبدئي، فعادةً ما يتم بسرعة؛ لأني أحاول فيه تكوين الشكل النهائي والتوغل في أعماقه في آنٍ واحد. قد لا يمكنني تحويل الرسم للوحة متكاملة، إنما يمكنني تحويل رسم المسوّدة المبدئي إلى قطعةٍ فنيّة أخّاذة، فأفضل أعمالي الفنية بدأت من رسمٍ مختصرٍ وخاطف على قطعة من الورق، وربما حتى على المناديل كذلك.
في الحقيقة أنا منحاز للرسوم المبدئيّة لأنها تلتقط المشاعر العذرية الأولى التي تطورها في لوحة؛ لكن يظل الرسم الأوّلي يحمل سرًا بمعنى وبعدٍ أعمق. هذه هي أول مرّة أعترف فيها بذلك، وأنا موقنٌ به بشدة.
بالنسبة لي شخصيًا، وعند أعلى لحظات التعبير عن الذات، هناك شغفٌ داخلي جارف يشوبه شيءٌ من الرهبة، يشبه ذلك الشعور الذي ينتابك عندما ترى منظرًا خلّابًا ممسكًا بآلة التصوير خشيةَ أن يتوارى وينتهي. هذا هو بالضبط عامل الوجل واللهفة الذي يعتريك أثناء الرسم.
وهو ما يحدث كذلك في كل علاقة عاطفية عندما يُشغف فتىً بحبّ فتاة، فسيشعر بالولْع والسرور، ولكن بالخوف كذلك.
سكيتش لمنحوتة "إثراء"، 2019, بإذن من الفنان.
الفنان كميل حوا بجانب منحوتة "إثراء"، 2019. بإذن من الفنان.
وفيما يتعلق بالنحت الطباعي، فلا ينبغي الاكتفاء بالبُعد الثلاثي، بل يتعيّن أن تمتلك بعدًا رابعًا كذلك والذي يتولّد من الشعور المميّز الذي يصبّه الفنان في عمله صبًّا.
أعتقد بأن بعض أعمالي مثل «بيروت» أو منحوتة «فن» تمتاز بهذا البعد إلى حدٍ ما، ولكن منحوتة «إثراء» تتفوق على غيرها لأنّه يمكن تحويل جميع المنحوتات التي نجدها في الطرقات إلى منحوتات ثنائية الأبعاد بإرجاعها إلى ما كانت عليه كعمل فنّي خطيّ.
ولكن مع منحوتة «إثراء» فقد نشأت أصلًا ثلاثية الأبعاد، ولا يمكن تحويلها أو إعادتها إلى ثنائيّة البعد. ولا أتوقع أنه يوجد الكثير من المنحوتات على هذا النحو. وفي رأيي، فقد فاقت هذه المنحوتة كافّة أعمالي الأخرى من حيث التكوين. فعندما كنت أعمل على مسوّدتها، جذبت ورقة بيضاء ورسمتها عليها لمرة واحدة فقط، وتقريبًا لم أغيّر أي شيء في اللوحة النهائيّة. وأنا شديد الفخر والاعتزاز بهذا العمل.
وأضاف الفنان كميل حوا قصيدة قد كتبها عن مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي عندما أنجز مجسم إثراء وهي تعبير عن الرؤيا التي بنى على أساسها هذا العمل:
(إثراء. الاسم المُعطى لمركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي. وفي إثراء الهمزة بداية الحروف كلّها، هي البداية وهي النهاية.
والهمزتان هما أنا وأنت. ألفان هما الحكمة والمعرفة، اجتمعا معاً.
وبينهما كرسي تحلّق فوقه ثلاثة نقاط تسبح في الفضاء بألوان جذابة، تعبيرعن الخيال الحر لكينونة الثقافة.
تكوين حروفي عربي محافظ على أصالته ومفكك في آن معا، يحفظ تراثه ويخاطب حداثة عصره وحيويته.
هو اليوم وهو الغد. وهو فعل ثراء ثقافي، كلما تفكك استعاد لحمته الأولى!)
- كميل حوا -
أنا مؤمنٌ بأن الخطّ هو المنبع والأصل. فبمجرد جرّي للقلم على الورقة وإكمال الدائرة الأولى للوحة، أجد نفسي أوشك أن أنهيها. يضم هذا الخطّ في طيّاته السرّ لشكل ولون وتعبير عما يحويه الرسم المبدئي.
رسم امرأة جالسة كانت بالنسبة إليّ محاولة لكشف أسرار الشخصية الأنثويّة والتي تبرز أكثر أثناء الجلوس. أغلب النساء اللاتي رسمتهن كن مستغرقات في التفكير، والبعض الآخر كنّ ينتظرن. والانتظار هو أمرٌ أبرزته في العديد من عناوين لوحاتي. أنا شخصيًا أؤمن بأن النساء، خاصةً في المشرق أكثر من الغرب، عندما يجلسن فإنهن يصنعن هالةً من المشاعر حول وضع الجلسة؛ لأن المرأة دائمًا ما تكون حذرةً وقلِقة. وجلسات المرأة تحوي ايحاءات وتعابير أكثر من الرجل. ولكن الأمر لا ينطبق على جميع الحالات، فلقد رسمت من قبل رجالاً وشيوخًا جالسين.
رسم بالقلم الرصاص لامرأة ترتدي ثوب أحمر، بإذن من الفنان.
يخبرني العديد من الأشخاص بأن أعمالي تشبه أعمال الفنان الفرنسي «ماتيس». في الحقيقة، أنا أحب الأعمال الانطباعية وما بعد الانطباعية، ابتداءً من «فان غوخ» وحتى «بيكاسو».
أعتقد أن «بيكاسو» كان فنانًا بربريًا ضاريًا (قالها الفنان ضاحكًا)، ومع أن «ماتيس» كان فناناً أكثر رقيًا، إلا أنّ «بيكاسو» كسر كل الممنوعات وتجاوزها بكلّ أشكالها، تجاوز الممنوعات الأخلاقيّة وحتى ممنوعات الرسم. وكان يتمتّع بلا اكتراثية أحيانًا يستحق عليها العقاب.
تخطّى «بيكاسو» كل القواعد والتكوين والتشكيلات. شاهدتُ يومًا فيلمًا وثائقيًا عن «بيكاسو» أثّر فيّ بشدة؛ حيث عرض الفيلم كيف كان الرسّام العالميّ يرسم ويشكل ثم يمحي ويدمر مرارًا وتكرارًا. كان يبدأ بلوحة ويغيرّها أكثر من أربعين مرّة، حتى أنك إذا التقطت عدّة لقطات، فستكوّن كتابًا به أكثر من أربعين رسمة لبيكاسو لا يوجد أيّ منها على أرض الواقع.
سكيتش بدون عنوان، بإذن من الفنان.
سكيتش بعنوان "سيتا"، بإذن من الفنان.
بصراحة، لم يكن للفن المرئي بداية قوية في العالم العربي، وأنا أتحدث عن اللوحات والنحت، إلخ. هناك فنون أخرى مرتبطة أكثر بالتراث العربي، كالشعر والأدب والموسيقا، ولهذا يمكنك رؤية أن لها وجودًا وتأثيرًا أقوى في الحياة العربية. ولكن في نفس الوقت لا يوجد حراك قوي وواضح للفنون البصريّة العربية، وحتى التصميم الغرافيكي يعتبر مجالًا معاصرًا في عالمنا العربي. فعلى سبيل المثال، تأسّست الجامعة الأمريكية في بيروت منذ 150 عامًا، لكن لم يتم افتتاح قسم التصميم الغرافيكي إلّا منذ 25 عامًا فقط.
كل الفنون، وبالأخص الفنون المرئية، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتقدم الاجتماعي والاقتصادي. إذا اطلعت على الفن الغربي الحديث مثل آرت نوفو وآرت ديكو، ثم الانطباعيّة الغامرة في كلّ من هذه التجارب البصريّة القوية، فسترى مدى ارتباطه بالتنمية الاجتماعية والفلسفة. لا تأتي هذه التجارب من العدم أو كنتاج لمبادرة فردية؛ فالفن بالنسبة لي ليس عملًا فرديًا، مع أنّه لا يمكن أن يكون إلا فرديًا.
الفن ظاهرة اجتماعية متعلقة بالمكان والزمان، وليس بالأفراد، مع أن الأفراد هم من ينتجون الفن. فعلى سبيل المثال، يرتبط شكل الموسيقا بفترات من التاريخ، لذا لن تجد قطعة كلاسيكية جديدة أصدرت منذ مئة عام أو أكثر. هناك الآلاف من عازفي الموسيقا الكلاسيكية هذه الأيام، ولكن الأمر يختلف عن التركيب والتوزيع، لقد كان هذا في الماضي.
سكيتش بعنوان "في انتظار الأطفال"، بإذن من الفنان.
قرأت مرّة مقولة لمفكر مصري تقول «الابداع في مقاومة الابداع». لا تلاحقوا الابداع، فعلى الفنان برأيي أن يترك لمشاعره المجال لتنضج. وإن كنت سأنصح أي فنان سعوديّ، فأول ما سأخبره هو أن يطّلع على الفنّ العالمي، لا أن يسعى للانتماء إليه ومحاكاته. الفن في أصله هو شعورٌ، والفنان الذي يحرص على عمله يحرص على إحساسه، ويحرص أن يرتبط عمله بوجدانه ارتباطًا وثيقًا،
فالفن الحقيقي ينبثق من الروح.
"عندما عملت على هذه السكيتش، أحسست بأني أرسم سوق عكاظ نفسه". رسم شعار مهرجان عكاظ، بإذن من الفنان.
اللحظة التي يغشاها مشاعر قوية، تخرج منها المسودة شبه مكتملة. فعلى سبيل المثال، تمكنت من الانتهاء من مسودّة الشعار الدعائي لمهرجان الشعر في غضون عشر ثوان، ولم أصدق أني بهذا انتهيت، فقمت برسمها مرارًا وتكرارًا، ومع ذلك بقيت نفس النتيجة تظهر في كل مرة.
ما زال السيد حوا يبتكر ويلهم فناني المستقبل بتعليمه وتوجيهه. ويستمر في إيجاد الجمال في الأشياء الصغيرة ووضع أجزاء صغيرة من روحه في السكيتشز الخاصة به.
نشكره وإبداعه شكرًا جزيلًا.
رسم شعار مهرجان الشعر، بإذن من الفنان.