الرسم من أجل إبداع أكبر
طلال الزيد، بلا عنوان، قلم ماركر على ورق، 2022، بإذن من الفنان.
فنان أخذ التجريد من المدرسة التعبيرية المجردة وأضاف إليها القليل من الصخب. صمَّم «طلال» أعمالًا يسهل تمييزها لجرأة أسلوبه والسّمت الغامض الطاغي في لوحاته. عمله الأكثر شهرة هو النساء الملثمات خلف شبكة من الخطوط موحّدة اللون، إلا أنّ لديه عددًا من المجموعات الأخرى مثل مجموعة الرسوم المتحركة ومجموعة اللوحات "الفينتيج" التي يتخلّلها الطلاء المتقطّر والمتناثر، هذا علاوةً على الأعمال التجريديّة غير التشكيليّة.
تأثّر «طلال» أثناء نشأته بثقافة الهيب هوب والتعبير التجريدي المستوحى من روثكو وجاكسون بولوك وجويس بينساتو. وبينما كان في المدرسة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، بدأ «الزيد» في شراء المجلات الكرتونيّة وجمع مجلات (Pop-Culture). أسَرَتهُ حينها الصور والرسوم أكثر من القصص نفسها، ثم استخدم شخصيات هذه المجلّات كدليل ومرجع له في الرّسم. لم يبرح فنانُنا ليومنا هذا يرسم مستلهمًا من شخصيات كرتونية؛
من خلالها طوّر مفرداته التعبيريّة، وأضاف إليها بعدًا حركيّا إذ يرسمها بأسلوبٍ جامح ومشاكس، ويحولها من شخصيّات مبهمة ومعقّدة إلى أعمال فنيّة آسرة ومفعمة بالحياة. ما يقدّمه “الزيد" هو النمط والأسلوب، وهو ما يولّيه جلّ اهتمامه في أعماله، أكثر من الشخصية نفسها. نعم يمكن أن تكون اللوحة هي نقطة بداية العمل الفنّي بإلهامٍ من البيئة المحيطة، إلا أنّه يركّز أكثر على الأسلوب ويمنحه السيطرة والقيادة الكاملة. يحدث هذا كلّه بشكلٍ طبيعيّ دون تكلّف أو تخطيط.
حين سُئل «طلال» عن الرّسم ودوره في ممارسته الفنية، أعرب عن مدى كونه مرحلة مهمة تمكّنه دائمًا من اكتشاف أفكار جديدة، وتمهّد له الطريق لوضع إبداعه موضع التنفيذ. هذه الرسومات بالنسبة إليه هي كنوز حقيقية، ومن المهم الاحتفاظ بها كمرجع مستقبليّ، وكجزء من قصّة ورحلة الفنان. تسرد هذه الرسومات لحظة ولادة الفكرة ومراحل تطويرها والبحوث العدّة التي أُجريت للوصول للشكل النهائي، وهي طريقة مثالية لمتابعة تقدّم الفنان في الأسلوب والتقنيات. بالنظر إلى لوحات «الزيد» الفنية حيث تختفي الصور خلف خطوط مطموسة أو قطرات طلاء ورذاذ متناثر؛ قد تبدو للوهلة الأولى أنها صُنعت بعجلة وشراسة. لكن في الواقع فإن «الزيد» يعمل ببطء نسبيًا؛ حيث يدرس ويعدّل ويراجع تشكيلاته ليحصل على التكوين الفني التي يرغب في إظهاره قبل العمل على لوحاته، يبدأ “الزيد” برسمٍ مبدئي أشبه بإحماءٍ سريع لمخيّلته ويديه، ثم ينتقل لرسمٍ أوليّ واضعًا في اعتباره أبعاد اللوحة النهائية وأين سيضع كل عنصر داخل اللوحة؛ حيث رسوماته هذه بمثابة مسوّدة هامشية للقطعة النهائية. عندما يعمل على سلسلة، تصبح رسوماته أكثر ثباتًا وتركيزًا. يمحو ويعدّل ويعيد توزيع العناصر ويطوّر الرسم والألوان؛ كل ذلك ليحصل في النهاية على لمحة حول العمل قبل البدء في اللوحة النهائية. يعتبر «الزيد» الممحاة ذراعه اليمين وأداة فائقة الأهمّية في عمليته الفنية.
ملتزمًا بمسعاه الإبداعي، يرسم «طلال الزيد» بضع دقائق كل يوم. تصقل هذه الممارسة مهارات الفنانين دون تركيز أو تفكير، عندها يأتي الفن بشكل طبيعيّ دون تخطيط، وهو ما يسميه «فنًا عفويًا». لا يعيّن فنانّنا وقتًا مخصّصًا للتدريب؛ إذ يأتيه وقت الرسم بشكلٍ تلقائي نتيجةً لفكرة، أو لأن القلم والورقة كانا في متناول يديه. قد يرسم أثناء تصفح مجلة أو مكالمة هاتفية، أو مشاهدة التلفزيون. يرسم «طلال» على كل ما يطاله، صندوق حبوب طعامٍ مثلًا، أو ربما قد يسحب بعض أوراق المسوّدات المتبقيّة من مشروعٍ سابق ويرسم عليها. مجرد ملمس الورقة قد يلهمه، وقد يدفعه نوع قلم الرّصاص أن يجرّب مجموعة من الأشكال والطبقات المختلفة؛ ليتمكّن من العثور على تركيبات ملهمة ومميزة تضفي على أعماله عمقًا جديدًا، أو ليجرّب بعض الخطوط التي يمكنها أن تصبح موضوعًا للوحاته وتثري أعماله القادمة. الخطوط هي مفردات الفنّان، وأهميّتها في الرسم برشاقة كأهمية الكلمات في التعبير عن الذات.
يقارن «طلال الزيد» الفن بالرياضة قائلًا: «تمامًا كالرياضيّ، يحتاج الفنان إلى التدريب». ويعتقد أن على الفنّانين عدم الانتظار حتى يكون هناك مشروع أو عمل مطلوب للبدء في إنتاج عمل فنّي أو البحث عن أفكار.
«يتعيّن عليك كفنان الممارسة دائمًا»، لا يهم ما يصنعه الفنان خلال جلسة الرسم، المهمّ هو أن يصنع شيئًا؛ فقط ليحافظ على التدفّق الابداعي.
مثلما سرعان ما قد يفقد الرياضي لياقته البدنية دون تدريب، فإن جَلد وقدرة الفنان الإبداعية كذلك تتلاشى إذا لم يعمل على الحفاظ عليها. عادةً ما يحتاج الفنانّون الذين يرسمون كل يوم وقتًا أقل ليبدأوا في ابداعهم. من المهم كذلك تنفيذ رسم أوّلي على سبيل الإحماء قبل الشروع في العمل الفعليّ للحصول على أفضل محصّلة، كما أن هذا سيساعد على ترخية معصم الفنان وكتفه لتكون الخطوط أكثر رشاقة وسلاسة. أفضل تمارين الإحماء لإعداد الذهن هي تلك السهلة البسيط التي ليست فيها أي صعوبة أو تعقيد.
تمامًا مثلما يحتاج الموسيقيون إلى التكرار والإعادة للوصول إلى الكمال، يحتاج الفنانون أيضًا إلى ممارسة رسم الخطوط والأشكال، من خلال رسم نفس الشيء مرارًا وتكرارًا ليتم تخزينه في الذاكرة العضلية ويصبح كطبيعة ثانية للفنّان. معظم رسومات «الزيد» هي لوحات مجردة يقوم بتكرارها. الخطوط هي مفردات الفنان، وأهميّتها للرسم برشاقة كأهمية الكلمات في التعبير عن الذات. بالرسم المستمرّ يصبح الفنان أكثر سرعة، والأهم، أكثر سيطرة على يديه وعينيه وأدوات الرسم، وهذا سيساعده كثيرًا في جلسات الرسم الأكثر تفصيلًا. الغاية هي أن تكون قادرًا على استخدامها تلقائيًا بشكل طبيعي دون الحاجة إلى التوقف والتفكير. في وقت التدريب اليومي يسعى الرسّامون للسرعة بدلًا من الدقة، فإنّه لا يهمّ إذا كانت النتيجة لا تبدو تمامًا مثل الشكل المتعارف عليه أو إذا كان كل شيء مشوهًا؛ هذا ما يجعل هذه الرسومات ساحرة.
غيداء المقرن هي مؤسسة حساب Culture crossroads على منصة الإنستغرام.